فصل: آداب الوضوء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحيط البرهاني في الفقه النعماني



.كتاب الطهارات:

هذا الفصل يشتمل على تسعِ فصول:
1- في الوضوء.
2- في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب.
3- في تعليم الاغتسال.
4- في المياه التي يجوز التوضؤ بها، والتي لا يجوز التوضؤ بها.
5- في التيمم.
6- في المسح على الخفين.
7- في النجاسات وأحكامها.
8- في الحيض.
9- في النفاس.

.الفصل الأول في الوضوء:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه في بيان فرائضه:

فنقول: فرض الوضوء غسل الوجه، واليدين مع المرفقين، ومسح الرأس، وغسل القدمين مع الكعبين.
وحد الوجه: من قصاص الشعر من الرأس إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذن، وإيصال الماء إلى داخل العين ساقط، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس بأن يغسل الرجل الوجه وهو مغمض عينه، وفي رواية الحسن أن أبا حنيفة رحمه الله سُئِل أَتُغْسل العين بالماء؟ قال: لا، وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن من غسل وجهه وغمض عينه تغميضًا شديدًا لا يجوز ذلك وقيل فمن رمدت عينه فرمصت فأصبح رمصها في جانب العين يجب إيصال الماء تحت مجتمع الرمص، ويجب إيصال الماء إلى المآقي.. وتكلموا قال بعضهم: الشفة تبع للفم فلا يجب إيصال الماء إليه، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ما ظهر من الشفتين عند الانضمام، فهو من الوجه، فيجب إيصال الماء إليه، وما انكتم منه عند الانضمام فهو تبع للفم، فلا يجب إيصال الماء إليه، ومسح بللا في بشرة الوجه من اللحية ما يذكره في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله في غسل الأصول روايتان.
في رواية قال: يفرض إيصال الماء إلى اللحية أو ربعها كأنه أراد بهذا الكناية عن الذقن الجفن، وهو قول أبي يوسف، وذكر الحسن في (المجرد) عنه أنه يفرض إيصال الماء إلى ما يوازي الذقن.
ولكن عند بعض مشايخنا يسن، قالوا وكذلك إمرار الماء على ظاهر الشارب على الروايتين، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله اتفقوا أن عليه أن يمس الماء شعرها غسله بالماء، فإذا لم يصبه الماء لا يجوز، وإن لم يكن إيصال الماء إلى أصل المنبت على وجه الغسل شرطًا.
قال رحمه الله: وكذلك في الشارب عليه إيصال الماء إلى شاربه، وفي (القدوري): مسح ما يلاقي بشرة الوجه من اللحية واجبة رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وأشار في باب الوضوء إلى أنه يفرض إيصال الماء إلى مواضع الوضوء ما ظهر منها.
وذكر الزندويستي في (نظمه) أن حاصل الجواب أن على قول أبي حنيفة رحمه الله مسح ثلثها، وعلى قول محمد والشافعي وأبو يوسف في رواية يمسح كلها وهو أحسن الأقاويل؛ لأن الوجه ما يواجه به الناس واللحية هي التي تواجهها الناس، ولا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر اللحية عندنا باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الحاجبين والشارب باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب (إيصال) الماء إلى ما استرسل من الشعر من الذقن عندنا.
وأما البياض الذي بين العذار وبين شحمة الأذن. ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله إن ظاهر المذهب أن عليه أن يغسل ذلك الموقع ليس عليه سواه، وذكر الطحاوي أن عليه غسل ذلك الموضع.
وفي (القدوري): أنه يجب غسله عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وزعم الطحاوي: أن ما ذكر هو الصحيح، عليه أكثر مشايخنا، لكن فيه كلفة ومشقة، فالأولى أن يقال يكفيه بلّ الماء بناءً على ما روي عن أبي يوسف رحمه الله: أن المتوضئ إذا بل وجهه وأعضاء وضوئه بالماء ولم يسل الماء على عضوه جاز، ولكن قيل تأويل ما روي عن أبي يوسف: أنه إذا سال من العضو قطرة أو قطرتان ولم يتدارك.
وذكر الفقيه أبو إسحاق الحافظ: روي عن أبي يوسف، ومحمد، وزفر رحمهم الله يفترض عليه غسله. قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: إن غسل فحسن، وإن لم يغسل أجزأه.
أما فرض غسل اليد: فمن رؤوس الأصابع إلى المرفقين، ويدخل المرفقان في الغسل عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن اسم اليد يقع على هذه الجملة، وهل يجب إيصال الماء إلى ما تحت الأظافر؟ قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: يجب، حتى إن الخباز إذا توضأ وفي أظفاره عجين أو الطيان إذ توضأ وفي أظفاره طين يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وكان يفرق بين الطين والعجين وبين الدرن أن الدرن يتولد من الآدمي فيكون من أجزائه ولا كذلك الطين والعجين.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله في (شرحه): أن الظفر إذا كان طويلًا بحيث يستر رأس الأنملة يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان قصيرًا لا يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان في أصبعه خاتم إن كان واسعًا لا يجب تحريكه ولا نزعه، وإن كان ضيقًا ففي ظاهر الرواية (قال) أصحابنا رحمهم الله لابد من نزعه أو تحريكه، وروى الحسن عن أبي حنيفة، وأبو سليمان عن أبي يوسف ومحمد أنه لم يشترط النزع أو التحريك وبين المشايخ اختلاف في هذا الفصل.
وأما فرض مسح الرأس: مقدر بالناصية وذلك قدر ربع الرأس وقدره بعض العلماء رحمهم الله بثلاثة أصابع، هكذا ذكر (القدوري)، وفي صلاة (الأصل) قدره بثلاثة أصابع وفي (المجرد): قدره بربع الرأس، ولو أخذ الماء بثلاثة أصابع ووضعها عليه وضعًا ولم يمدها أجزأه على قول من قدره بثلاثة أصابع ولم يجزئه على قول من قدره بالربع حتى تستكمل بالإمرار، هكذا ذكره (القدوري).
وذكر الزندويستي في (نظمه) وقال: روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإبراهيم بن رستم عن محمد رحمهم الله: أنه يجوز، وقال في اختلاف زفر لا يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا أن يمسح بقدر ثلث رأسه أو ربعه، وذكر في صلاة الأثر أنه يجوز من غير ذكر خلاف، وإن مسح بأصبع واحد بجوانب الأصبع قدر ثلاثة أصابع روى زفر عن أبي حنيفة: أنه يجوز، وهذا الجواب مستقيم على الرواية التي قدر المسح فيها بثلاثة أصابع، ولو مسح بالأصبعين لا يجوز إلا أن يمسح بالإبهام والسبابة مفتوحتين فيضعها مع ما بينهما من الكف على رأسه فحينئذ يجوز، لأنهما أصبعان وما بينهما من الكف قدر أصبع، فيصير ثلاثة أصابع فيجوز، وإن كان على رأسه شعر طويل فمسح بثلاثة أصابع إلا أن مسحه وقع على شعره، إن وقع على شعر تحته رأس يجوز عن مسح الرأس، وإن وقع على شعر تحت جبهته أو رقبته لا يجوز عن مسح الرأس لأن المسح على الشعر عن المسح على البشرة التي تحته، ولو مسح على بشرة الجبهة أو العنق لا يجوز عن مسح الرأس، ولو مسح على بشرة الرأس أجزأه فكذا إذا مسح على الشعر، وذكر الزندويستي هذه المسألة بهذه العبارة، وفي موضع آخر ذكر بعبارة أخرى.
ولو كان شعره طويلًا، فمسح ما تحت أذنيه لا يجزئه عن مسح الرأس، ولو مسح ما فوقه يجوز، وإن وضع إصبعًا واحدًا على رأسه ومدها قدر ثلاثة أصابع لم يجزه، هكذا ذكر في (نوادر ابن رستم) وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه ماء: قد توضأ به فالتحق به بمسألة لو أخذ الماء ووضعه على جبهته ومدها إلى أصل الذقن حتى استوعب جميع الوجه أجزأه، وأشار إلى المعنى فقال: لأن بملاقاة الماء الجبهة لا يصير الماء مستعملًا إلا بالسيلان؛ لأن فرض الوجه الغسل، ولا يتأتى الغسل إلا بالسيلان على العضو، والماء في عضو واحد لا يصير مستعملًا.
أما في فصل الرأس الماء بملاقاة بشرة الرأس يصير مستعملًا؛ لأن فرض الرأس المسح؛ والمسح يحصل بمجرد الملاقاة فيصير الماء مستعملًا بمجرد الملاقاة.
ذكر الناطفي في (الهداية) إذا اختضب ومسح برأسه عند وضعه على خضابه لا يجزئه وإن وصل الماء إلى شعره، قال: وهو كالمرأة إذا مسحت على الوشاح ووصل الماء إلى شعرها وذلك لا يجوز فهاهنا كذلك.
ورأيت مسألة الخضاب في شرح بعض المشايخ: أنه إذا اختلط البلة بالخضاب، وخرج من حكم الماء المطلق لا يجوز المسح وهو بمنزلة ماء الزعفران.
ورأيت مسألة مسح المرأة على الخمار في نسخ بعض المشايخ أيضًا أنّ الماء إن كان متقاطرًا بحيث يصل إلى الشعر يجوز المسح، وإلا فلا.
وذكر الزندويستي في نظمه قال بعض في العلماء: إذا وصل الماء إلى الشعر جاز وإلا فلا.
وقال بعضهم إن كان الخمار غير لا يجوز؛ لأنه لا يصل الماء.
وقال بعضهم إن ضربت يديها المبلولتين فوق الخمار جاز وما لا فلا لأن بالضرب يصل الماء إلى الشعر.
ولو كان ذؤابتان مشدودتان حول الرأس كما يفعله النساء فوقع مسحه على رأس الذؤابة بعض مشايخنا قالوا بالجواز إذا لم يرسلهما؛ لأنه مسح على شعر تحته رأس، فصار كما لو مسح على الشعر الأصلي، وعامتهم على أنه لا يجوز أرسلهما أو لم يرسلهما؛ لأنه مسح على شيء مستعار، فصار كما لو مسحت المرأة فوق الخمار ولم يصل الماء إلى ما تحته.
وإذا نسي المتوضئ مسح الرأس، فأصابه ماء المطر مقدار ثلاث أصابع فمسحه بيده أو لم يمسحه أجزأه عن مسح الرأس؛ لأن الله تعالى وصف الماء بكونه طهورًا، والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره، فلا يتوقف حصول التطهير على فعل يكون منه كان كالذي هو محرق لا يتوقف حصول الإحراق على فعل يكون من الغير.
وإذا نسي أن يمسح برأسه، فأخذ من لحيته ماء ومسح به رأسه لا يجوز؛ لأن هذا مسح بالمستعمل والماء يأخذ حكم الاستعمال عندنا كما زايل العضو استقر على الأرض أو لم يستقر، وهاهنا زايل العضو بدليل أنه يخرج عن الجنابة بالإجماع، وفي المسألة أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولو كان في كفه بلل فمسح به رأسه أجزأه قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا إذا لم يستعمله في عضو من أعضائه بأن أدخل يده في إناء حتى ابتلت، فأما إذا استعمله في عضو من أعضائه بأن غسل بعض أعضائه وبقي على كفه بلل لا يجوز، وأكثرهم على أن قول الحاكم خطأ.
والصحيح أن محمدًا رحمه الله أراد بذلك ما إذا غسل عضوًا من أعضائه وبقي البلل في كفيه، بدليل أن محمدًا رحمه الله، قال: وهذا بمنزلة ما لو أخذ الماء من الإناء، ولو كان المراد ما قاله الحاكم لم يكن لهذا التشبيه معنى.
وفرّقوا بين بلل اللحية وبين بلل الكف، والفرق أن بلل الحلية ما سقط به فرض غسل الوجه وصار مستعملًا، فلا يقام به فرض آخر.
أما بلل الكف ما لم يسقط به فرض الغسل؛ لأن فرض غسل الأعضاء أقيم بالماء الذي زايل العضو لا بالبلل الذي على الكف، فلم يصر هذا البلل مستعملًا، فجاز أن يقام به فرض مسح الرأس.
ولو أمر الماء على رأسه ولحيته ثم حلقها لا يلزمه إعادة المسح عليهما هكذا روى ابن سماعة في (نوادره) عن محمد رحمه الله.
قال الناطفي: ورأيت في كتاب الصلاة محمد بن مقاتل أن في الرأس لا يلزمه الإعادة، وفي اللحية يلزمه الإعادة.
وأشار إلى الفرق فقال: إن في الرأس قبل نبات الشعر كان فرضه المسح كما بعد نباته، فزوال الشعر لا يغير صفة الفرض.
أما في الوجه صفة الفرض قد تغيرت ألا ترى أن قبل ما نبت الشعر على الوجه، فرضه الغسل وبعد نباته لا يكون فرضه الغسل.
وفي (القدوري) يذكر هذه المسألة بعبارة أخرى فيقول: وليس في زوال عضو من وضوء ولا إمرار ماء على موضع المزال، يريد به إذا توضأ ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: بإعادة المسح في الرأس واللحية وأشباههما، وكان يقيس هذه الصورة على المسح على الخف فإنه لو مسح على الخفين ثم نزعمهما يسقط حكم ذلك المسح ويفرض غسل القدمين.
ونقل ابن سماعة عن محمد رحمه الله فرقًا بين المسح على الخف وبين هذه الصورة فقال: الجلد والشعر والرأس شيء واحد ذهب بعضه وبقي البعض فلم يرتفع حكم ذلك المسح بمرة فأما الخف فهو غير الرجل، فإذا نزعه فقد ارتفع حكم ذلك المسح بالمرة، قياس مسألة الخف في هذه المسألة أن لو كان الخف ذا طاقين فمسح عليه ثم نزع أحد الطاقين إذا تقشر بنفسه وهناك لا يلزمه إعادة المسح أيضًا.
وأما فرض غسل الرجلين فمن رؤوس الأصابع إلى الكعبين، ويدخل الكعبان في الغسل عند علمائنا رحمهم الله.
والكعب هو العظم الناتئ في الساق الذي يكون فوق القدم.
والذي روى هشام عن محمد رحمه الله أن الكعب هو العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك، فذاك وهم منه، لم يرد محمد رحمه الله في هذا تفسير الكعب في الطهارة والصلاة، وإنما أراد به في حق المحرم إذا لم يجد نعلين ومعه خفان قال يقطعهما أسفل من الكعبين، وأراد بالكعب العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك ليصير آلة في معنى النعلين.
وأما تفسير الكعب في الطهارة والصلاة العظم الناتئ الذي هو في الساق فوق القدم، ولو قطعت رجله من الكعب وبقي النصف من الكعب يفرض عليه غسل ما بقي من الكعب وموضع القطع، وكذلك هذا الحكم في المرفق في اليد إذا قطع اليد من المرفق وبقي نصف المرفق يفرض عليه غسل ما بقي من المرفق وموضع القطع.
وإن كان القطع فوق الكعب وفوق المرفق لم يجب غسل موضع القطع.
وتخليل الأصابع إن كانت مضمومة وتوضأ من الإناء، وإن كانت مفتوحة فترك التخليل جاز.
وإن كان توضأ في الماء الجاري أو في الحياض، فأدخل رجليه الماء وترك التخليل جاز، وإن كانت الأصابع مضمومة، هكذا ذكر الزندويستي في (نظمه).
وفي (شرح شيخ الإسلام): أن تخليل الأصابع قبل وصول الماء إلى ما بين الأصابع فرض وبعده سنة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن تخليل الأصابع سنة مطلقًا.
قال رحمه الله: ومن الناس من قال تخليل أصابع القدم فرض قال محمد رحمه الله في (الأصل) لو توضأ مرة واحدة تامة أجزأه.
وتكلموا في تفسير الشيوع، قال بعضهم: غسل العضو بالماء أولًا ثم يسيل عليه الماء، فيتيقن بوصول الماء إلى جميع العضو.
وقال بعضهم: يسيل الماء على عضوه ويدلكه حتى يصل الماء إلى جميعه، والفقيه أبو جعفر رحمه الله مال إلى القول الأول في زمان الشتاء وإلى القول الثاني في زمان الصيف.
وروى هشام عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا بل الأعضاء ثلاث مرات يجزئ عن الغسل ثم إذا توضأ مرة واحدة، فإن فعل ذلك لقلة الماء أو للتبرد أو للحاجة لا يكره ولا يأثم، وإن فعل ذلك من غير عذر وحاجة يكره ويأثم هكذا قيل.
وقد قيل أيضًا إن اتخذ ذلك عادة يكره.
وإن فعل ذلك أحيانًا لا يكره.
وإذا كان ببعض أعضاء الوضوء جرح قد انقطع قشره أو نحو منه هل يجب إيصال الماء إلى ما تحته؟ كان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول ننظر إن كان ما يقشر يزال من غير أن يتألم لم يجزه إلا أن يصل الماء إلى ما تحته، وإن كان لا يزال من غير أن يتألم أجزأه إن لم يصل الماء إلى ما تحته، قال: لأنه بمنزلة ما لم يقشر.
وفي (مجموع النوازل): رجل ببعض أعضائه قرحة قشر أو بأطراف وضوءه وضوء قشر القرحة موصولة بالجلد إلا الطرف الذي يخرج منه القيح، فغسل الجلد ولم يصل الماء إلى ما تحت الجلد جاز وضوءه، وجاز له أن يصلي؛ لأن ما تحت الجلد ليس بظاهر فلا يعتبر غسله.
وفيه أيضًا وإن كان على بعض أعضاء وضوئه قرحة نحو الدمل وشبهه وعليه جلدة رقيقة، فتوضأ وأمرّ الماء على الجلدة ثم نزع الجلدة قيل يلزمه غسل ما تحت الجلدة، قال: إن نزع الجلدة بعد ما بدأ بحيث لم يتألم بذلك، فعليه أن يغسل ذلك الموضع، وإن نزع محل البثر وبحيث تألم بذلك إن خرج منها شيء وسال نقض الوضوء، وإن لم يخرج لا يلزمه غسل ذلك الموضع والأشبه أنه لا يلزمه الغسل في الوجهين جميعًا.
وفي (فوائد القاضي الإمام) ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: إذا كان على بعض أعضاء وضوئه خرء ذباب أو برغوث، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته جاز؛ لأن التحرز عنه غير ممكن.
ولو كان جلد سمك وخبز ممضوغ قد جف، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته لم يجز؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وقد قيل إذا كان على أعضاء وضوئه.
... ولا يصل الماء إلى ما تحته فتوضأ كذلك يجوز؛ لأنه يتولد من البدن فهو بمنزلة الدرن.
وفي (مجموع النوازل) إذا كان برجله شقاق، فجعل فيها الشحم وغسل الرجل ولم يصل الماء إلى ما تحته ننظر إن كان يضره إيصال الماء إلى ما تحته يجوز، وإن كان لا يضره لا يجوز والله أعلم.

.نوع منه في تعليم الوضوء:

قال محمد رحمه الله في (الأصل): الوضوء أن يبدأ فيغسل يديه ثلاثًا ولم يذكر كيفيته، وحكي عن الفقيه أي جعفر الهندواني رحمه الله: أنه ينظر إلى الإناء إن كان الإناء صغيرًا يمكنه رفعه لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثًا، وإن كان الإناء كبيرًا لا يمكن رفعه كالحب وشبهه، وكان معه كوز صغير يرفع الماء بالكوز، ولا يدخل يده فيه ثم يغسل يديه بالكوز على نحو ما بينا.
وإن لم يكن معه كوز صغير أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ولا يدخل الكف ويرفع الماء من الحب ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، فيفعل كذلك ثلاثًا ثم يدخل يده اليمنى بالغًا ما بلغ في الإناء، وقوله عليه السلام: «لا يَغْمُسَنَّ في الإناء» محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة أو كانت كبيرة، ولكن معه آنية صغيرة.
وأما إذا كان الإناء كبيرًا وليس معه آنية صغيرة، فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة.
ثم يستنجي والكلام في الاستنجاء يأتي بعد هذا في النوع الذي يلي هذا النوع.
وبين المشايخ اختلاف في أنه يغسل يديه قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء.
قال بعضهم: قبل الاستنجاء.
وقال بعضهم: بعد الاستنجاء.
وأكثرهم على أنه يغسل يديه مرتين، من قبل الاستنجاء ومن بعد الاستنجاء، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في (الأصل)، ولم يقل ثم يغسل يديه.
من أصحابنا من قال: إنما ذكر ذراعيه؛ لأنه سبق غسل اليدين، فلا يجب الإعادة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه يعيد غسل اليدين؛ لأن الأول كان شبه افتتاح الوضوء، فلا ينوب عن فرض الوضوء وأنه مشكل؛ لأن المقصود هو التطهير، فإذا حصل التطهير بأي طريق حصل فقد حصل المقصود، فلا معنى لإعادة الغسل. ثم يمسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء واحد ثم يغسل رجليه مع الكعبين والله أعلم.

.نوع منه في بيان سنن وضوئه وآدابه:

فنقول: السنّة سنّتان.
سنّة الرسول عليه السلام.
وسنّة أصحابه.
فسنّة الرسول: هي الطريق التي فعلها رسول الله عليه السلام وواظب عليها كركعتي الفجر والأربع قبل الظهر وأشباهها.
وسنّة أصحابه رضوان الله عليهم: هي الطريق التي فعلها الصحابة، وواظبوا عليها كالتراويح، فإن التراويح يقال: سنّة عمر رضي الله عنه؛ لأن عمر فعلها وواظب عليها.
والأدب: ما فعله رسول الله عليه السلام مرة وترك مرة، فنقول: من السنّة أن يغسل يديه إلى الرسغ ثلاثًا، ويغسلها قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء، فيه كلام وقد ذكرناه، وهذا إذا لم يكن على بدنه نجاسة حقيقية، أما إذا كانت فإنه يفترض غسلها.
قال الطحاوي رحمه الله: ويسمي، فيقول: (بسم) الله العظيم والحمد لله على الإسلام، وفي كون التسمية سنّة كلام.
ففي ظاهر الرواية ما يدل على أنه أدب فإنه قال: ويستحب له أن يسمي، وذكر في (صلاة الأثر) أنها سنّة، وهكذا ذكر الطحاوي والقدوري رحمهما الله.
وفي محل التسمية اختلاف المشايخ، قال بعضهم يسمي قبل الاستنجاء وقال بعضهم يسمي بعد الاستنجاء.

.فصل في الاستنجاء وكيفيته:

ومن السنة الاستنجاء، وإنه نوعان:
أحدهما: بالماء.
والثاني: بالحجر أو المدر أو ما يقوم مقامها من الخشب أو التراب.
والاستنجاء بالماء أفضل إن أمكنه ذلك من غير كشف العورة، وإن لم يمكنه ذلك إلا بكشف العورة يستنجي بالأحجار، ولا يستنجى بالماء، وإتباع الماء الأحجار أدب وليس بسنّة؛ لأن النبي عليه السلام فعله مرة وتركه مرة.
من مشايخنا من قال: هذا كان أدبًا في زمن النبي عليه السلام وأصحابه، أما في زماننا فهو سنّة، واستدل هذا القائل بما روي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال: هو سنّة، فقيل له: كيف يكون سنّة وقد تركه رسول الله عليه السلام مرة وفعل مرة، وكذلك خيار الصحابة، فقال الحسن: إنهم كانوا يبعرون بعرًا وأنتم تثلطون ثلطًا، ولا خلاف لأحد في الأفضلية، فإتباع الماء الأحجار أفضل بلا خلاف، والاستنجاء من البول والغائط والمذي والمني والدم الخارج من أحد السبيلين دون غيرها من الأحداث.
وينبغي أن يستنجي بالأشياء الطاهرة نحو الحجر والمدر، والرماد، والتراب، والخرقة، وأشباهها، ولا يستنجي بالأشياء النجسة مثل السرقين ووضع الإنسان، وكذلك بحجر استنجى به مرة هو أو استنجى به غيره إلا إذا كان حجرًا له أحرف، فيستنجى في كل مرة بحرف لم يستنج به في المرة الأولى، فيجوز من غير كراهته.
وكذلك لا يستنجى بالعظم والروث، فقد قيل العظم طعام الجن والروث علف دوابهم، فلا يفسد عليهم طعامهم وعلف دوابهم، وكذلك لا يستنجى بمطعوم الآدمي وعلف دوابهم نحو الحنطة والشعير أو الحشيش وغيرها.
وذكر الزندويستي أنه يستنجي بالمدر والحجر والتراب، ولا يستنجي بما سوى هذه الأشياء.
وعدد الثلاثة في الاستنجاء بالأحجار أو ما يقوم مقامها ليس بأمر لازم، والمعتبر هو الإنقاء، فإن أنقاه الواحد كفاه وإن لم ينقه الثلاث زاد عليه.
وقيل في كيفية الاستنجاء بالأحجار أن الرجل في زمن الصيف يدبر بالحجر الأول، ويقبل بالحجر الثاني، ويدبر بالثالث، وفي الشتاء يقبل بالحجر الأول ويدبر بالثاني ويدبر بالثالث؛ لأن في الصيف خصيتاه متدليتان، ولو أقبل بالأول تتلطخ خصيتاه، فلا يقبل ولا كذلك في الشتاء. والمرأة تفعل في الأحوال كلها مثل ما يفعل الرجل في الشتاء.
وقد قيل المقصود هو الإنقاء، فيفعل على أي وجه يحصل المقصود.
قيل في كيفية الاستنجاء بالماء: أنه ينبغي أن يجلس كأفرج ما يكون ويرخي كل الإرخاء حتى يطهر ما بداخل فرجه من النجاسة، فيغسلها وإن كان صائمًا لا يبالغ في الإرخاء حتى لا يصل الماء إلى باطنه، فيفسد صومه.
وعن هذا قيل: لا ينبغي أن يقوم عن موضع الاستنجاء حتى ينشف ذلك الموضع بخرقة حتى لا يصل الماء إلى باطنه، وكذلك قيل: لا ينبغي أن يتنفس في الاستنجاء للمعنى الذي ذكرنا، ويستنجي بيساره سواء كان الاستنجاء بالماء أو بالحجر، ويستنجي بأصبع أو أصبعين أو ثلاث، ولا يستعمل جميع الأصابع لأن ذلك الموضع لا تتسع فيه الأصابع كلها، فلو استعمل الأصابع كلها يخرج الماء النجس من بين أصابعه، ويسيل على فخذيه فينجس به فخذاه وعسى لا يشعر به.
أو نقول المقصود يحصل بالثلاث، ففي الزيادة على الثلاث استعمال النجاسة بلا ضرورة، وإن كان المستنجي رجلًا يستنجي بأوساط أصابعه، وإن كان امرأة تستنجي برؤوس الأصابع عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تستنجي بأوساط الأصابع.
بقي الكلام بعد هذا في عدد سكب الماء، وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من لم يقدر في ذلك تقديرًا وفوضه إلى رأي المستنجي، وقال: يغسل إلى أن يقع في قلبه أنه قد طهر، وبعضهم قدروا في ذلك تقديرًا، واختلفوا فيما بينهم، فمنهم من قدره بالثلاث، ومنهم من قدره بالسبع، ومنهم من قدره بالتسع، ومنهم من قدره بالعشر، ومنهم من قدره في الإحليل بالثلاث، وفي المقعد بالخمس.
وينبغي أن يستنجي بعد ما خطا خطوات حتى لا يحتاج إلى إعادة الطهارة، وإن كان المستنجي لابس الخفين وماء الاستنجاء يجري تحت خفه يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، إلا إذا كان على الخف خروق، ويدخل ماء الاستنجاء باطن الخف، فحينئذٍ يغسل باطن الخف، وإن كانت الخروق بحالٍ يدخل الماء فيها من جانب ويخرج من جانب آخر يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار رحمه الله.
وفي قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله: أنه سئل عن رجل شلت يده اليسرى، ولا يقدر أن يستنجي بها كيف يستنجي؟ قال: إن لم يجد من يصب الماء عليه والماء في الإناء لا يستنجي، وإن قدر على الماء الجاري يستنجي بنفسه، وإن كانت يداه كلاهما قد شلتا ولا يستطيع الوضوء والتيمم، قال: يمسح يده على الأرض يعني ذراعيه مع المرفقين ويمسح وجهه على الحائط ويجزئ ذلك عنه، ولا يدع الصلاة على كل حال.
وفيه أيضًا الرجل المريض إذا لم يكن له امرأة ولا أمة وله ابن أو أخ، وهو لا يقدر على الوضوء، قال: يوضئه ابنه أو أخوه غير الطهور، فإنه لا يمس فرجه ويسقط عنه الاستنجاء، وفرائض المرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج ومن لا يقدر على الوضوء ولها أخت، قال: توضئها الأخت إلا الطهور وسقط عنها الاستنجاء.
ثم الاستنجاء بالأحجار إنما يجوز إذا اقتصرت النجاسة على موضع الحدث، وأما إذا تعدت عن موضعها بأن جاوزت الفرج أجمعوا على أن ما جاوز موضع الفرج من النجاسة إذا كان أكثر من قدر الدرهم إنه يفرض غسلها بالماء، ولا يكفيه الإزالة بالأحجار.
وإن كان ما جاوز موضع الفرج أقل من قدر الدرهم أو قدر الدرهم إلا أنه إذا ضم موضع الفرج يكون أكثر من قدر الدرهم، فأزالها بالحجر ولم يغسلها بالماء فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أنه يجوز ولا يكره.
وعلى قول محمد رحمه الله لا يجوز إلا أن يغسله بالماء، وهكذا روي عن أبي يوسف أيضًا. وإذا كانت النجاسة على موضع الاستنجاء أكثر من قدر الدرهم واستجمر ولم يغسلها ذكر في (شرح الطحاوي) أن فيه اختلاف، بعضهم قالوا: إن مسحه بثلاثة أحجار والماء جاز، قال: وهو أصح، وبه قال الفقيه أبو الليث رحمه الله.
وإذا استنجى بالأحجار ثم سبح في ماء قليل أو جلس في طست ماء، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في (غريب الرواية): إن قيل لا ينجس فله وجه، وإن قيل ينجس فلا وجه، قال: وهو الأصح، وبه كان يقول الناطفي، ذكره في (الهداية)، وإن خرج من ذلك الموضع دم أو قيح أو أصابه نجاسة أخرى لا يجزئه الإزالة بالأحجار والله تعالى أعلم.
ومن السنة: النية، وإذا تركها تجزئه صلاته عندنا، وتكلموا في أنه إذا ترك النية هل يثاب ثواب الوضوء؟ قال الأكثر من المتقدمين من أصحابنا؛ لا يثاب، وقال بعض المتأخرين: يثاب، هكذا ذكره الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، وأشار الكرخي في (كتابه) إلى أن الوضوء الذي هو بغير النية ليس الوضوء الذي أمر به الشرع، وإذا لم ينو فقد أساء وأخطأ وخالف السنّة إلا أنه تجوز صلاته؛ لأن الحدث لا يبقى مع الوضوء ثم كيف ينوي حتى تكون متممة للسنّة، قالوا: ينوي إزالة الحدث أو إقامة الصلاة.
ومن السنّة: الترتيب في الوضوء يبدأ بيديه إلى الرسغ ثم بوجهه ثم بذراعيه ثم برأسه ثم برجله. ومن السنّة أيضًا الموالاة. ومن السنّة السواك، وينبغي أن يكون السواك من أشجار مرة؛ لأنه يطيب نكهة الفم ويشد الأسنان ويقوي اللثة، وليكن رطبًا في غلظ الخنصر وطول الشبر، ولا يقوم الإصبع مقام الخشب، حال وجود الخشب، فإن لم توجد الخشبة فحينئذٍ تقوم الإصبع مقامها.
ومن السنّة أيضًا أن يتمضمض ثلاثًا، ويستنشق الماء، والمضمضة والاستنشاق نفلان في الوضوء عندنا، ولكنهما سنّتان والمبالغة فيهما سنّة أيضًا.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: المبالغة في المضمضة أن يخرج الماء من جانب إلى جانب، وقال شيخ الإسلام: المبالغة في المضمضة الغرغرة.
وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة تكثير الماء حتى يملأ الفم فإن لم يملأ الفم يغرغر حينئذٍ، والمبالغة في الاستنشاق أن يضع الماء على منخريه ويجذبه حتى يصعد من أنفه، وبعضهم قالوا المبالغة في الاستنشاق في الاستنثار.
وتكون المضمضة باليد اليمنى والاستنشاق باليد اليسرى، وفي بعض المواضع: إذا تمضمض واستنشق، فليس عليه أن يدخل أصبعه في فمه وأنفه.
قال الزندويستي: والأولى أن يفعل ذلك وينبغي أن يأخذ لكل واحد منهما ماء على حدة عندنا، وإن أخذ الماء بكفه ورفع منه بفمه ثلاث مرات وتمضمض يجوز مثله، ولو رفع الماء من الكف بأنفه ثلاث مرات واستنشق لا يجوز؛ لأن في الاستنشاق يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف، وفي المضمضة لا يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف لأنه يرميه إلى الأرض.
ومن السنّة تكرار الغسل ثلاثًا فيما يفرض غسله نحو اليدين والوجه والرجلين، لما روي أن رسول الله عليه السلام؛ «توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من يضاعف الله تعالى له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم» قيل: المراد زاد على أعضاء الوضوء، أو نقص على أعضاء الوضوء.
وقيل زاد على الحد المحدود أو نقص عن الحد المحدود.
وقيل المراد زاد على الثلاث أو نقص متعمدًا؛ لأن السنّة هذا فأما إذا زادهما بنية الطب عند السواك أو بنية وضوء آخر فلا بأس به؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما (لا) يريبه.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ أن من توضأ وزاد على الثلاث هل يكره؟ كان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: يكره، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: لا يكره، إلا أن يدعي أن السنّة في الزيادة، وبعض مشايخنا قالوا: إن كان من نعته الزيادة تكره، وإن كان من نعته تجديد الوضوء لا يكره بل يستحب له ذلك.
وذكر الناطفي في (الهداية)، أن الوضوء مرة واحدة فرض ومرتين فضيلة وثلاثًا في المغسولات سنة وأربعًا بدعة، وهذا كله إذا لم يفرغ من الوضوء، فأما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء، فلا كراهة بالاتفاق، ذكره في متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله، والأصل فيه قوله عليه السلام: «من توضأ على وضوء يكتب له عشر حسنات».
ومن السنّة: استيعاب جميع الرأس في المسح وتكرار المسح والاستيعاب بماء واحد لا بأس به، فالتثليث في المسح بماء.... بدعة، هكذا ذكره شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رواية أبي حنيفة أنه يمسح ثلاث مرات يأخذ لكل مرة ماءً جديدًا، وقد روي عن معاذ بن جبل أنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم توضأ مرة مرة ورأيته توضأ مرتين مرتين ورأيته توضأ ثلاثًا ثلاثًا وما رأيته مسح برأسه إلا مرة واحدة».
وبيان كيفية الاستيعاب: أن يأخذ الماء ويبل كفه وأصابعه ثم يلصق الأصابع، ويضع على مقدم رأسه من كل يد ثلاث أصابع، ويمسك إبهاميه وسبابتيه ويجافي بين كفيه، ويمدهما إلى قفاه، ثم يرسل الأصابع ويضع كفيه ويمسح على فوديه بكفيه، ويمسح ظاهر أذنيه بباطن إبهاميه وباطن أذنيه بباطن مسبحتيه حتى يصير ماسحًا جميع الرأس ببلل لم يصر مستعملًا والرواية من مقدم الرأس قول عامة المشايخ.
وروي عن أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله أنه يبدأ من أعلى رأسه، فيمد يديه إلى مقدم جبينه، ثم إلى قفاه، وذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله: يبدأ في مسح الرأس من مقدم الرأس، ويجرهما إلى مؤخر الرأس ثم يعيدهما إلى مقدم الرأس، ولا تكون الإعادة استعمال المستعمل؛ لأن اليد ما دام على العضو لا يأخذ حكم الاستعمال وإذا غسل الرأس مع الوجه أجزأه عن المسح هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأن في الغسل مسح وزيادة ولكن يكره لأنه خلاف ما أمر به.
ومن السنّة: مسح الأذنين بالماء الذي يمسح به الرأس، ولا يأخذ لهما ماءً جديدًا، وقال الشافعي: يأخذ لهما ماءً جديدًا؛ لأنهما عضوان منفصلان؛ ولهذا كان مسح الرأس فرضًا ومسح الأذنين سنّة، ولا يكتفى فيها بماء واحد كالمضمضة والاستنشاق مع غسل الوجه، ولنا قوله عليه السلام: «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم لا بيان الحقيقة؛ لأنه مشاهد ولا حكم لجعل الأذنان فيه من الرأس إلا ما قلنا، وأما المضمضة والاستنشاق، فيؤخذ لهما ماء جديد في ظاهر الرواية، وروى ابن شجاع أنه إذا أخذ غرفة، فتمضمض بها وغسل وجهه جاز، فإن أخذنا بهذه الرواية نحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق على ظاهر الجواب أن المضمضة والاستنشاق يكون مقدمًا على غسل الوجه فلو أصابهما بماء واحد صار المفروض تبعًا للمسنون، وذلك لا يجوز، ولا كذلك الأذنان مع الرأس، وإدخال الإصبع في صماخ أذنيه أدب وليس بسنّة هو المشهور، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه كان يرى ذلك.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه يدخل الخنصر في صماخ أذنيه ويحركها، ويرويان في ذلك حديثًا عن «النبي صلى الله عليه وسلّم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك».
لم يذكر محمد رحمه الله في (الكتاب) مسح الرقبة، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إنه سنّة وبه أخذ أكثر العلماء، وقال أبو بكر بن أبي سعيد: إنه ليس بسنّة، وبه أخذ بعض العلماء، وقد روت الربيع بنت معوذ بن عفراء: «أن رسول الله عليه السلام مسح على رأسه وأذنيه ورقبته في بيتها».
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «امسحوا رقابكم قبل أن تغل بالنار».
وأما تخليل اللحية فليس بمسنون، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول محمد وقال أبو يوسف هو سنّة.
ومن السنّة عند غسل الرجلين أن يأخذ الإناء بيمينه وألقاه على مقدم رجله الأيسر، ودلكه بيساره، وإنما أخبرنا اليسار والدلك؛ لأن الرجل موضع الأذى واليسار للأذى، وإنما بدأنا من مقدم الرجل؛ لأن الله تعالى جعل الكعبين غاية، وكذلك في غسل اليدين يبدأ من رؤوس الأصابع، لأن الله تعالى جعل المرفق غاية.

.آداب الوضوء:

جئنا إلى بيان الأدب فنقول: من الأدب أن لا نسرف ولا نقتر، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن هذا سنّة.
ومن الأدب أن يقول عند غسل كل عضو: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام. ومن الأدب أن لا يتكلم فيه بكلام الناس.
ومن الأدب: أن يتولى أمر الوضوء بنفسه لحديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «إنا لا نستعين على طهورنا»، مع هذا لو استعان بغيره جاز بعد أن لا يكون الغاسل غيره، بل يغسله بنفسه، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام استعان بغيره، وكان المغيرة يفيض الماء ورسول الله عليه السلام كان يغسل».
ومن الأدب: أن لا يترك عورته مكشوفة يعني بعد الاستنجاء، فقد قيل: الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم إذا وجدها مكشوفة.
ومن الأدب أن يتأهب للصلاة قبل الوقت، لما روي عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال: من لم يتأهب للصلاة قبل الوقت لم يوقر لها. ومن الأدب أن يقول بعد الفراغ من الوضوء: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله عبده ورسوله.
ومن الأدب أن لا يمسح سائر أعضائه بالخرقة التي يمسح بها موضع الاستنجاء.
ومن الأدب: أن يستقبل القبلة عند الوضوء بعد الفراغ من الاستنجاء.
ومن الأدب: أن يقول بعد الفراغ من الوضوء أو في خلال الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
ومن الأدب: أن يشرب فضل وضوئه أو بعضه مستقبل القبلة إن شاء قائمًا، وإن شاء قاعدًا، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زادة رحمه الله أنه يشرب ذلك قائمًا قال: ولا يشرب الماء قائمًا، إلا في موضعين أحدهما: هذا، والثاني: عند زمزم.
ومن الأدب: أن يصلي ركعتين بعد الفراغ من الوضوء، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لبلال: «ما لك سبقتني إلى الجنة»، فقال بلال: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلّم «كنت أمس البارحة في الجنة، فسمعت أمامي خَشخَشَتَك (بجزم الشين أو بفتح الشين) فنظرت، فإذا هي أنت»، فقال بلال: ما توضأت قط إلا رأيت لله تعالى عليّ صلاة ركعتين، فقال عليه السلام: «هي ذاك» الخشخشة بالجزم صوت النعلين وبالفتح الحركة.
ومن الأدب: أن يملأ آنيته بعد الفراغ من الوضوء لصلاة أخرى والله أعلم.

.الفصل الثاني: في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه الغائط يوجب الوضوء قل أو كثر،:

وكذلك البول، وكذلك الريح الخارج من الدبر، واختلف المشايخ أن عين الريح نجس، أو هو طاهر إلا أنه يتنجس بمروره على النجاسة، قالوا: وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا خرج منه الريح وعليه سراويل مبتلة هل تتنجس سراويله، فمن قال عينه نجس يقول تتنجس، ومن قال عينه ليس بنجس يقول لا تتنجس.
وأما الريح الخارج من قبل المرأة وذكر الرجل، فقد روي عن محمد أنه يوجب الوضوء، هكذا ذكر القدوري، وبه أخذ بعض المشايخ، وقال أبو الحسن الكرخي: لا وضوء فيه إلا أن تكون المرأة مفضاة، فيستحب لها الوضوء.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله يقول: إذا كانت المرأة مفضاة يجب عليها الوضوء، وما لا فلا، وهكذا ذكر هشام عن محمد في (نوادره).
ومن المشايخ من قال في المفضاة: إن كان الريح، نتنًا يجب عليها الوضوء ومالا فلا، والدودة إذا خرجت من قبل المرأة، فعلى الأقاويل التي ذكرنا، هكذا ذكر الزندويستي في (نظمه)، وفي (القدوري): أنها توجب الوضوء.
وإن خرجت من الدبر وجب الوضوء بلا خلاف، فرق بين الخارج من الدبر وبين الخارج من الجراحة.
فإن الدودة الخارجة عن رأس الجراحة لا تنقض الوضوء، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن الخارج من الدبر يولد من محل النجاسة، فيكون نجسًا والساقط عن رأس الجرح يولد من محل الطهارة لأنه يولد عن اللحم واللحم طاهر والمتولد منه يكون طاهرًا.
والثاني: أن عين الساقط حيوان ليس من جملة الأحداث إنما الحدث ما عليه من البلة وهي قليلة، غير أن القليل حدث في السبيلين، وليس بحدث في سائر الجراحات، لعدم السيلان، وعلى قياس مسألة الدودة الساقطة عن رأس الجراحة استحسن المشايخ في العرق المدني الذي يقال له بالفارسية (رشته) لو خرج من عضو إنسان لا ينقض وضوؤه، وإن خرجت الدودة من الإحليل حكي عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله أنه ينقض، وكان يحيله إلى (فتاوى خوارزم).
ولو خرجت الدودة من الفم قيل لا تنقض الوضوء وكذلك الخارجة من الأذن والأنف لا تنقض الوضوء. والمذي ينقض الوضوء، وهو الماء الأبيض الذي يخرج بعد البول، وكذلك الحصاة إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء؛ لأنها لا تخلو عن بلة وتلك البلة بانفرادها إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء.
والمني إذا خرج من غير شهوة بأن حمل شيئًا، فسبقه المني أو سقط من مكان مرتفع، فخرج منه مني لم يجب عليه الغسل لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، ويوجب الوضوء، وكذا دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء عندنا، والأصل فيه قوله عليه السلام: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة»، ولأنه خارج نجس فيكون حدثًا كالغائط والبول.
وفي هذا المقام نحتاج إلى بيان حد الاستحاضة، فنقول: الاستحاضة إنما تعرف باستمرار الدم بها وقت صلاة كامل، حتى أنه لو سال الدم في وقت صلاة، فتوضأت وصلت ثم خرج الوقت ودخل وقت صلاة أخرى وانقطع الدم ودام الانقطاع إلى آخر الوقت، توضأت وأعادت تلك الصلاة، وإن لم ينقطع الدم في وقت الصلاة الثانية حتى خرج الوقت جازت تلك الصلاة؛ لأن في الوجه الأول السيلان لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يحكم باستحاضتها. وثبوت الطهارة مع السيلان أمر عرف بثبوتها في حق المستحاضة، فإذا لم يحكم باستحاضتها تبين أنها صلت بغير طهارة، فلزمها الإعادة.
وفي الوجه الثاني: السيلان استوعب وقت صلاة كامل، فحكم باستحاضتها، فتبين أنها صلت بطهارة، فلا يلزمها الإعادة، وإنما شرطنا استيعاب السيلان وقت صلاة كامل اعتبارًا لظرف الثبوت بظرف السقوط، فإن المستحاضة إذا انقطع دمها وقت صلاة كامل خرجت من أن تكون مستحاضة، وإن كان أقل من ذلك لا تخرج من أن تكون مستحاضة، ومتى حكم باستحاضتها في وقت صلاة إنما يحكم بذلك في وقت صلاة أخرى إذا وجد السيلان في وقت الصلاة الأخرى مقارنًا للوضوء، أو طارئًا على الوضوء، ولا يكتفى بوجود السيلان في وقت الصلاة الأخرى سابقًا على الوضوء، حتى إن المرأة إذا استحيضت، فدخل وقت العصر ودمها سائل، وانقطع فتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها.
ولو حكم باستحاضتها لا تنقض طهارتها بخروج وقت العصر؛ لأن طهارة المستحاضة تنتقض بخروج الوقت على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فينبغي أن لا تمضي على صلاتها، وحد صيرورة الإنسان صاحب جرح سائل بالسلس والرعاف والدمامل والجراحات واستطلاق البطن وحد المستحاضة سواء؛ لأن المعنى يجمعهما.
وكان الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله يقول: صاحب الجرح السائل أن يسيل جرحه في وقت الصلاة مرتين أو مرارًا، فإن كان أقل من ذلك لا يكون صاحب جرح سائل. وفي (الفتاوى): وينبغي لمن رعف أو سال من جرحه دم أن ينتظر آخر الوقت، وإن لم ينقطع الدم يتوضأ ويصلي.
بعد هذا يحتاج إلى معرفة أحكام المستحاضة ومن بمعناها وبمسائلها، وإنها تنبني على أصول:
أحدها: أن الثابت مع المنافي لضرورة يتقدر بقدر الضرورة؛ لأن الموجب للثبوت الضرورة، فإذا ارتفعت الضرورة فقد ارتفع الموجب للثبوت، فينبغي نقضه الباقي.
قلنا وطهارة المستحاضة ثابتة مع قيام المنافي، وهو السيلان، لضرورة وهي الحاجة إلى الطهارة، ولإسقاط ما في الذمة من الصلاة المفروضة بالأداء إذ لا أداء إلا بالطهارة، فثبتت الطهارة، وكلما مست الضرورة إلى الثبوت مست الضرورة إلى البقاء إذ لا أداء إلا بالبقاء، كما لا أداء إلا بالثبوت.
بعد هذا اختلف العلماء في تقدير هذه الطهارة، فالشافعي رحمه الله قدرها بالأداء حتى قال: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مكتوبة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل؛ لأن ثبوت طهارتها ضرورة الحاجة إلى أداء المفروضة وإذا أدى المفروضة في وقتها فقد ارتفعت الضرورة إذ المشروع في وقت فرض واحد على ما على الأصل.
ولا يجوز بقاء ما ثبت بالضرورة بعد ارتفاع الضرورة، وإليه أشار علماؤهم في قوله: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة إلا أن النوافل تابعة للفرائض، فتثبت الطهارة في حق النوافل بطريق التبعية، أما فرض آخر فليس بتبع لهذا الفرض فثبوت الطهارة في حق فرض الوقت لا يوجب ثبوت الطهارة في حق فرض آخر.
وعلماؤنا رحمهم الله قدروا البقاء بالوقت حتى قالوا المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل والفرائض في الوقت؛ لأن الفرض معرفة مقدار البقاء، وذلك إنما يحصل بتقديره بما هو معلوم في نفسه، وفعل الأداء يتفاوت بتفاوت الناس، فقدرناه بالوقت لكونه معلومًا في نفسه بالتفاوت، فيصير مقدار بقاء الطهارة معلومًا، ولأن ثبوت الطهارة وإن كان ضرورة الحاجة إلا أن الوقت قائم مقام الحاجة؛ لأن لها حق التنفل كل الوقت بالأداء إلا أن الشرع رخص لها صرف بعض الأزمان إلى حاجة نفسها تيسرًا عليها، وشرع اليسر بطريق الرخصة لا يوجب بطلان اليسر المتعلق بالعزيمة واليسر المتعلق بالعزيمة بقاء الطهارة ما بقي الوقت، وإليه أشار عليه السلام في قوله: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» وما روي محمول على الوقت، فإن اسم الصلاة يحتمل الوقت قال عليه السلام: «إن للصلاة أولًا وآخرًا» أي لوقت الصلاة أولًا وآخرًا، فوجب العمل على الوقت توفيقًا بين الروايتين، وإذا تقدر بقاء الطهارة بالوقت كان لها أن تصلي في الوقت ما شاءت.
ثم إذا خرج الوقت في الصلوات التي اتصلت أوقاتها لانعدام الوقت المهمل بين أوقاتها وثبت انتقاض الطهارة تضاف بالانتقاض إلى خروج الوقت، أو إلى دخول وقت آخر، وقال عامة المشايخ: إن على قول أبي حنيفة ومحمد تضاف إلى خروج الوقت. وعند زفر تضاف إلى دخول وقت آخر. وعند أبي يوسف تضاف إلى أيهما وجد.
وثمرة الخلاف لا تظهر في هذه الصلوات التي اتصلت أوقاتها؛ لأن ما من وقت يخرج إلا ويدخل وقت آخر وما من وقت يدخل إلا ويخرج وقت آخر، وإنما تظهر في الصلوات التي لا تتصل أوقاتها، ولذلك صورتان:
إحداهما: إذا توضأت بعد طلوع الفجر للفجر، وطلعت الشمس تنتقض طهارتها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بخروج الوقت، حتى لم يكن لها أن تصلي صلاة الضحى بتلك الطهارة، وكذلك عند أبي يوسف؛ لأنه يعتبر أي الأمرين وجد إما الخروج أو الدخول، وعند زفر لا تنتقض لانعدام دخول الوقت.
والثانية: إذا توضأت بعدما طلعت الشمس لا تنتقض طهارتها إلا بخروج وقت الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، حتى كان لها أن تصلي الظهر بتلك الطهارة، وعند أبي يوسف وزفر تنتقض بدخول وقت الظهر.
والصحيح ما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن طهارة المستحاضة للحاجة إلى أداء فرض الوقت، وخروج الوقت يدل على انقضاء الحاجة، وانقضاء الحاجة يدل على انتقاض الطهارة، أما دخول الوقت يدل على تحقق الحاجة، وتحقق الحاجة يدل على ثبوت الطهارة يجب أن يضاف انتقاض الطهارة إلى خروج الوقت الدال على انتفاء الحاجة التي تدل على انتقاض الطهارة، لا إلى دخول الوقت الدال على تحقق الحاجة التي تدل على ثبوت الطهارة.
وأصل آخر: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت عندهما يستند الانتقاض إلى السيلان السابق، وهذا لأن خروج الوقت ليس سببًا لانتقاض الطهارة؛ لأنه ليس بحدث، ولا يثبت حكم ما بغير سبب، فيثبت الانتقاض مستندًا إلى السيلان السابق، ليكون الانتقاض بسببه هذا كما قلنا في البيع بشرط الخيار إذا سقط الخيار بمضي المدة أو بإسقاطهما ويثبت الملك، يثبت مستندًا إلى البيع ولا يقتصر، لأن الملك حكم لابد له من السبب، ولا سبب هنا سوى البيع ويستند الملك إليه ليكون ثبوت الملك بسببه إلا أن الاستناد إنما يظهر في حق القائم من الأحكام، ولا يظهر في حق المقتضي، ولهذا لا يظهر في حق الصلاة المؤداة حتى لا يبطل ما أدت من الصلاة.
وأصل آخر: أن الطهارة متى وقعت للسيلان لا يضرها سيلان مثله في الوقت ويضرها حدث آخر، وخروج الوقت. ومتى وقعت للحدث يضرها حدث آخر والسيلان، ولا يضرها خروج الوقت، وإنما تعتبر الطهارة واقعة للسيلان إذا كان السيلان مقارنًا للطهارة حقيقة أو اعتبارًا، فالحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعًا وقت الطهارة حقيقة ثم سال قبل أن يستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، ويشترط مع ذلك أن تكون الطهارة محتاجًا إليها لأجل السيلان.
وإنما تعتبر الطهارة واقعة للحدث إذا لم يكن السيلان مقارنًا للطهارة حقيقة واعتبارًا والحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعًا وقت الطهارة واستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، أما الطهارة إذا وقعت للسيلان إنما لا يضرها سيلان مثله في الوقت؛ لأن الدم يسيل مرة بعد مرة فتبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فتحرج ويضرها حدث آخر؛ لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في الوقت لا محالة.
وإن كان يوجد إلا أنه لا يوجد مرة بعد مرة، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها خروج الوقت لما ذكرنا أن طهارة المستحاضة مقدرة بالوقت، فلا تبقى بعد خروج الوقت؛ وأما إذا وقعت الطهارة للحدث إنما يضرها حدث آخر لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها السيلان أيضًا؛ لأنه لا حرج فيه؛ لأنها لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت أيضًا؛ لأن السيلان إنما يوجد بعد مضي وقت صلاة كامل إذا كانت الطهارة واقعة للحدث، ولا يضرها خروج الوقت؛ لأن الطهارة عن الحدث ليست بطهارة ضرورية مع قيام المنافي، فكانت هذه الطهارة وطهارة الصحيح سواء، طهارة الصحيح لا يضرها خروج الوقت كذا هاهنا.
مسائل الأصل الأول ذكرناها في الأصل الأول.
مسائل الأصل الثاني بعضها يأتي في فصل المسح على الخفين، وبعضها في آخر هذا النوع.
مسائل الأصل الثالث:
إذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت ثم انقطع الدم بعد الوضوء، فصلت الظهر ودام الانقطاع إلى أن خرج وقت الظهر تنتقض طهارتها؛ لأن هذه الطهارة وقعت للسيلان لكون السيلان مقارنًا لها، وقد ذكرنا أن الطهارة الواقعة للسيلان يضرها خروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر والدم منقطع وصلت العصر ثم سال الدم بعد ذلك في وقت العصر لا تنتقض طهارتها؛ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارنًا لها اعتبارًا بثباته، وهو من الانقطاع الناقص، وهو الانقطاع الذي لا يستوعب وقت صلاة كامل، وإنما يوجد في بعض وقت الصلاة دون البعض ليس بفاصل بين الدمين والانقطاع التام الذي يستوعب وقت صلاة كامل فاصل، وهذا لأن الدم لا يسيل على الولاء، بل ينقطع ساعة ويسيل أخرى، فلو جعلنا الناقص فاصلًا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا يمكنها إقامة الصلاة في الوقت أبدًا. أما لو جعلنا الكامل فاصلًا لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت فعليها الأداء في الوقت.
إذا ثبت هذا، فنقول في مسألتنا: الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يصر فاصلًا بل جعل كالدم المتوالي، فكان السيلان مقارنًا للطهارة في وقت العصر اعتبارًا، فكانت واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقيًا.
فإن كان الدم لم يسل وقت العصر، بل دام الانقطاع إلى أن دخل وقت المغرب، فإذا توضأت تعيد الظهر، ولا تعيد العصر. وإنما تعيد الظهر لأن الانقطاع استوعب وقت صلاة كامل، فجعل فاصلًا بين الدمين، وحكم بزوال ذلك العذر، فتبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين ولا عذر بها، وإنما لا تعيد العصر؛ لأنها صلتها بطهارة كاملة، أكثر ما في الباب أن الظهر وقع فاسدًا، ولكن وقوعه فاسدًا ظهر للحال لا وقت أداء العصر، فوقت أداء العصر لا ظهر عليها بزعمها، فكانت في معنى الناس للظهر وقت أداء العصر والترتيب يسقط بالنسيان، فإن كان حين ما توضأت للظهر الدم سائل، فصلت الظهر والدم كذلك سائل ثم انقطع بعد ذلك، وسال في وقت المغرب لا تعيد الظهر؛ لأنه تبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين والعذر قائم من أوله إلى آخره، وإنما زال العذر بعد الفراغ منها، وزوال العذر بعد الفراغ لا يوجب الإعادة، كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ، والعاري إذا وجد الثوب بعد الفراغ.
وإذا استحيضت المرأة فدخل وقت العصر ودمها سائل، فتوضأت والدم كذلك سائل، فقامت تصلي العصر فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس انتقضت طهارتها؛ لأن طهارتها وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارنًا لها، فتنتقض بخروج الوقت. فتتوضأ وتستأنف الصلاة، ولا تبني لما ذكرنا أن انتقاض الطهارة بخروج الوقت يستند إلى وقت السيلان السابق، فتبين من وجه أن الشروع في الصلاة كان مع الحدث، وجواز البناء عرف شرعًا بخلاف القياس في موضع كان الحدث طارئًا على الشروع من كل وجه فبينما عداه يبقى على أصل القياس.
ولو دخل وقت العصر ودمها سائل وانقطع، وتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها ولا تعيد الوضوء، وإن سال الدم بعد ذلك في وقت المغرب وهي في العصر تعيد، فإنها تتوضأ وتبني على صلاتها.
طعن عيسى بن أبان رحمه الله فقال: ينبغي أن تعيد الوضوء ولا تمضي على صلاتها؛ لأن الطهارة هاهنا وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارنًا لها حكمًا؛ لأن الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت المغرب، فلا يجعل فاصلًا بين الدمين كما قلتم في مسألة الطهر التي تقدم ذكرها، بل يجعل الدم المتوالي، فكان السيلان قائمًا حكمًا، فكانت الطهارة واقعة للسيلان فتنتقض بخروج الوقت، وإذا انتقضت بخروج الوقت يستند الانتقاض إلى الحدث، وتبين أن الشروع كان مع الحدث من وجه، فينبغي أن تستأنف الصلاة.
والجواب: أن السيلان منقطع حقيقة وقت الوضوء، إلا أن الانقطاع الناقص لا يجعل فاصلًا، ويجعل السيلان قائمًا حكمًا تخفيفًا عليها، كما في مسألة الظهر التي تقدم ذكرها، فإن هناك لو جعلنا الانقطاع الناقص فاصلًا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلم يجعل فاصلًا، وجعل السيلان قائمًا حكمًا تخفيفًا عليها.
فأما هاهنا لو لم يجعل الانقطاع الناقص فاصلًا، وجعلنا السيلان قائمًا حكمًا، كانت طهارتها في وقت العصر واقعة للسيلان، فتنتقض بخروج الوقت، وفي ذلك تغليظ عليها، فيعود على موضوعه بالنقض، وإنه لا يجوز، وإذا لم تنتقض طهارتها بخروج وقت العصر لا يستند الانتقاض إلى وقت الحدث السابق، فلا يتبين أن الشروع كان مع الحدث والله أعلم.
وإذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت وصلت ودمها كذلك سائل، ثم انقطع الدم وأحدثت حدثًا آخر غير الدم وتوضأت لحدثها والدم كذلك منقطع، ثم دخل وقت العصر، لا تنتقض طهارتها؛ لأن الطهارة الثانية في وقت الظهر ما وقعت للسيلان، لعدم مقارنة السيلان إياها وعدم طريانه عليها، فلا ينتقض بخروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر مع أن طهارتها لم تنتقض بخروج وقت الظهر والدم كذلك منقطع ثم سال الدم، فعليها أن تتوضأ.
وكان ينبغي أن لا تتوضأ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان؛ لكون السيلان مقارنًا لها اعتبارًا لأن الانقطاع لو لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت العصر، فيجعل السيلان قائمًا حكمًا، فكانت الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله في الوقت.
والجواب: أن الطهارة إنما تعتبر للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجًا إليها، لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها أصلًا؛ لأن الطهارة الثابتة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجًا إليها، فصار وجودها والعدم بمنزلة، والطهارة الثابتة في وقت الظهر كانت واقعة عن الحدث حتى لم تنتقض بخروج الوقت، فجاز أن تنتقض بالسيلان، ولأن الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا اعتبر السيلان قائمًا حكمًا؛ لأن السيلان وقت الطهارة منقطعة عنها حقيقة، وإنما يعتبر السيلان قائمًا حكمًا فيما كان منقطعًا حقيقة تخفيفًا عليها، وهاهنا لو اعتبرنا السيلان قائمًا حكمًا كان فيه تغليظ عليها.
بيانه: أنا لو اعتبرنا السيلان قائمًا حكمًا كان طهارتها الثابتة في وقت الظهر واقعة للسيلان، فيلزمها الوضوء بخروج وقت الظهر، فلا يعتبر السيلان قائمًا حكمًا فلم تكن الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان.
فإن قيل: في اعتبار السيلان قائمًا حكمًا تخفيف عليها، وإن طهارتها في وقت العصر تكون واقعة عن السيلان، فلا يلزمها الوضوء متى سال الدم بعد ذلك في وقت العصر. قلنا؛ يوجه في هذه المسألة تحقيقان واعتبارهما متعذر لما فيهما من التنافي، فكان اعتبار التخفيف فيما ذكرنا أولى، لا أنا اعتبرنا التخفيف فيما هو سابق وأصل، وأنتم اعتبرتم التخفيف فيما هو متأخر وتبع، فكان ما قلناه أولى من هذا الوجه.
وكذلك لو أحدثت حدثًا آخر غير الدم في وقت العصر، فتوضأت لذلك الحدث ثم سال الدم بعد الوضوء في وقت العصر كان عليها أن تتوضأ، وكان ينبغي أن لا تتوضأ؛ لأن طهارتها هاهنا وقعت للسيلان لكون الطهارة محتاجًا إليها، ولمقارنة السيلان إياها، فينبغي أن لا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقيًا.
والجواب: الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجًا إليها؛ لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها؛ لأجل السيلان؛ لأنها إنما تكون محتاجًا إليها لأجل السيلان إن لو كانت الطهارة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجًا إليها؛ لأجل السيلان إليها بل كانت محتاجًا إليها لأجل الحدث، فاعتبرت واقعة عن الحدث، فجاز أن تنتقض بالسيلان وإن كانت في الوقت.
وفي (الفتاوى): وينبغي لصاحب الجرح أن يعصب الجرح، ويربط تقليلًا للنجاسة، ولو ترك التعصيب لا بأس به، وإن سال الدم بعد الوضوء حتى نفذ الرباط يصلي كذلك، وتجوز صلاته.
وإن أصابت ثوبه من ذلك الدم أكثر من قدر الدرهم لزمه غسل الثوب إذا علم أنه لو غسله لا يصيبه الدم ثانيًا وثالثًا، أما إذا علم أنه يصيبه ثانيًا وثالثًا لا يفترض عليه غسله.
وفي (واقعات الناطفي): إذا كان له جرح سائل، وقد شد عليه خرقة، فأصابها أكثر من قدر الدرهم أو أصاب ثوبه أكثر من قدر الدرهم، إن كان بحال لو غسل يتنجس قبل الفراغ من الصلاة ثانيًا جاز له أن لا يغسل ويصلي قبل أن يغسله، وإلا فلا. قال الصدر الشهيد رحمه الله هو المختار.
وفي (الأجناس): رجل يسيل من أحد منخريه دم فتوضأ والدم سائل، ثم احتبس الدم من هذا المنخر وسال من المنخر الآخر انتقض وضوءه، وإن كان به دمامل أو جدري منها ما هي سائلة، ومنها ما ليست بسائلة وبعضها سائلة، ثم سالت التي لم تكن سائلة انتقض وضوؤه، والجدري قروح وليست بقرحة واحدة.
وفي (المنتقى): أبو سليمان عن محمد رحمهما الله: رجل به جرحان لا يرقآن، فتوضأ ثم رقأ أحدهما قال: يصلي، وكذلك إن سكن هذا الآخر وسال الذي كان ساكنًا؛ لأنهما في هذا بمنزلة جرح واحد.
الحائض إذا حبست الدم عن الخروج لا تخرج من أن تكون حائضًا، وصاحب الجرح السائل إذا منع الدم عن الخروج لا يخرج من أن يكون صاحب جرح سائل، فعلى هذا المفتصد لا يكون صاحب جرح سائل، وأما المستحاضة إذا منعت الدم عن الخروج هل تخرج من أن تكون مستحاضة؟ ذكر هذه المسألة في (الفتاوى الصغرى).... إنها تخرج من أن تكون مستحاضة حتى لا يلزمها الوضوء في وقت كل صلاة وذكر في موضع آخر إنها لا تخرج من أن تكون مستحاضة.
وفي (المنتقى): عن أبي يوسف أنه سئل عن المستحاضة تحتشي ثم تصلي ولا يسيل الدم؟ الاحتشاء إذا منع ظهور الدم في حق المستحاضة لم يمنع حكم الاستحاضة، وفي الدبر الاحتشاء إذا منع ظهور الحدث منع حكمه، وهو الوضوء حتى إن من به استطلاق بطن إذا حشا دبره كيلا يخرج منه شيء، فلم يخرج فلا وضوء عليه، وليس بحدث حتى يظهر منه. وإذا حشا إحليله بقطنة خوفًا من خروج البول، ولولا القطنة يخرج منه البول، فلا بأس به، ولا ينتقض وضوءه حتى يظهر البول على القطنة، وإن ابتل الطرف الداخل من القطنة ولم ينفذ أو نفذ لكن الحشو متسفل عن رأس الإحليل لا يعطى له حكم الخروج حتى لا ينتقض وضوءه، وإن كان الحشو عاليًا عن رأس الإحليل أو محاذيًا لرأس الإحليل إن نفذ يعطى له حكم البروز، وينتقض وضوءه، وإن لم ينفذ لا يعطى له حكم البروز ولا ينقض وضوءه، وإن سقطت القطنة إن كانت رطبة يثبت لها حكم البروز، وإن كانت يابسة لا يثبت لها حكم البروز.
وإذا احتشت المرأة فإن كان الاحتشاء في الفرج الخارج والفرج الخارج بمنزلة الألسن والقلفة، فإذا ابتل داخل الحشو ونفذ إلى خارجه أو لم ينفذ انتقض وضوءها، وإن كان الاحتشاء في الفرج الداخل فابتل داخل الحشو إن لم ينفذ إلى خارجه لا ينتقض وضوءها، وإن نفذ إلى خارجه إن كان الكرسف عاليًا عن حرف الفرج الداخل، أو كان محاذيًا له ينتقض وضوءها، وإن كان متسفلًا عنه لا ينتقض وضوءها، وإن سقط الحشو إن كان يابسًا لا ينتقض وضوءها، وإن كان رطبًا ينتقض وضوءها وفي حق هذا الحكم يستوي الفرجان جميعًا والله أعلم.

.نوع آخر مما يوجب الوضوء:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): نفطة قشرت فسال منها ماء أو غيره عن رأس الجرح، ينتقض الوضوء، وإن لم يسل لا ينتقض الوضوء، وشرط السيلان لانتقاض الوضوء في الخارج من غير السبيلين، وهذا مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وإنه استحسان.
وقال زفر رحمه الله: إذا علا وظهر على رأس الجرح ينتقض وضوءه، وهو القياس. وأجمعوا على أن في الخارج من السبيلين لا يشترط السيلان، ويكتفى بمجرد الظهور، وجه الاستحسان: ما روى تميم الداري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «الوضوء من الدم السائل»، وعن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «الوضوء من كل دم سائل».
والمعنى: أن الحدث هو الخارج النجس، وإنما يتحقق الخروج بالانتقال عن موضع النجاسة، وإنما يتحقق الانتقال في غير السبيلين بالسيلان؛ لأن بدن الآدمي موضع الدماء والرطوبات السائلة، وإذا انقطعت الجلدة كانت الدماء بادية ظاهرة لا منتقلة عن موضعها، كالبيت إذا انهدم كان الساكن فيه ظاهرًا لا منتقلًا عن موضعه، بخلاف ما إذا ظهر البول عن رأس الإحليل؛ لأن موضع البول المثانة لا رأس الإحليل، فإذا ظهر على رأس الإحليل كان منتقلًا عن ضعه بيقين أما هاهنا بخلافه.
يوضحه: أن ما يواري الدم من أعلى الجرح محله كان كمن سكن دارًا (كان) ما يوازيه من الأعلى مكانه وحقًا له، وإذا كان ما يوازيه من الأعلى محلًا له، فبمجرد الظهور والعلو على رأس الجرح لا يتحقق الانتقال عن موضعه، فلا يتحقق الخروج، فلا يكون حدثًا كما لو لم يسل عن رأس الجرح والأعيان الخارجة من النفطة كلها مثل الدم، والقيح والصديد والماء سواء فقد تكون النفطة أولًا دمًا ثم تنضج، فتصير قيحًا ثم تزداد نضجًا، فتصير صديدًا ثم قد تصير دمًا، وقد تكون ماءً في الأصل.
وفي لفظ النفطة لغتان: أحدهما بكسر النون، والأخرى بضم النون، وإنها اسم القرحة التي امتلأت وحان قشرها مأخوذ من قولهم: انتفط فلان إذا امتلأ غيظًا، ولو نزل الدم من الرأس إلى موضع يلحقه حكم التطهير من الأنف والأذنين ينقض الوضوء، ولو نزل البول إلى قصبة الذكر لم ينقض الوضوء والفرق: أن في المسألة الأولى النجاسة خرجت بنفسها عن محلها الباطن إلى موضع له حكم الظاهر، ولا كذلك المسألة الثانية حتى أثبت في المسألة الثانية، لو خرج إلى القلفة نقض الوضوء لزواله عن ما لَه حكم الباطن.
وكذلك إذا خرج عن فرج المرأة إلى..... لزواله عمَّاله حكم الباطن، والموضع الذي يلحقه حكم التطهير من الأنف ما لان منه، فإذا وصل الدم إلى ما لان منه انتقض وضوءه، وإن لم يظهر على الأرنبة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه أدخل أصبعه في أنفه، فأدمت فلما أخرجه رأى على أنملته دمًا فمسحه ثم قام، فصلى ولم يتوضأ» وتأويله عندنا أنه بالغ في إدخاله حتى جاوز ما لان من أنفه إلى ما صلب وكان الدم فيما صلب من أنفه، وكان قليلًا بحيث لو ترك لا ينزل إلى موضع اللين، ومثل هذا ليس بناقض عندنا.
وعن محمد رحمه الله: فيمن.... فسقط من أنفه كتلة دم لم تنتقض طهارته، وإن نَقَطَ من أنفه قطرة دم انتقضت طهارته.
وإذا تبين الخنثى أنه رجل أو امرأة، فالفرج الآخر منه بمنزلة الجرح لا ينقض الوضوء ما يخرج منه ما لم يسل، وإذا كان بذكر الرجل جرح له رأسان أحدهما يخرج منه ما يسيل في مجرى البول، والآخر يخرج منه ما لا يسيل في مجرى البول، فالأول: إذا ظهر على رأس الإحليل ينقض الوضوء، وإن لم يسل بمنزلة البول؛ لأنه سال عن موضعه إلى مكان له حكم الظاهر، ولا كذلك الثاني.
المجبوب إذا ظهر منه ما يشبه البول من الموضع الذي يخرج منه البول إن كان قادرًا على إمساكه إن شاء أمسكه، وإن شاء أرسله إذا ظهر على رأس الثقب فهو بول ينقض الوضوء، وإن كان لا يقدر على إمساكه لا ينقض ما لم يسل، هكذا حكي عن علي الرازي.
المعلّى عن أبي يوسف إذا زال الدم عن رأس الجرح لا ينتقض وضوءه حتى يسيل.
ولو غرز رجل إبرة في يده وخرج منه الدم وظهر أكثر من رأس الإبرة لم ينتقض وضوءه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: كان محمد بن عبد الله يميل في هذا إلى أن ينتقض وضوءه ورآه سائلًا.
وفي (مجموع النوازل): إذا حزت في عضوه شوكة أو إبرة أو نحوهما مما جرح ذلك، وظهر منه الدم ولم يسل ظاهرًا انتقض وضوءه؛ لأن الظاهر أنه سال عن رأس الجرح.
وفي (فتاوى خوارزم): الدم إذا لم ينحدر عن رأس الجرح، ولكن علا، فصار أكثر من رأس الجرح لا ينتقض وضوءه، والفتوى على أنه لا ينتقض وضوءه في جنس هذه المسائل، وإذا عصرت القرحة، فخرج منها شيء كثير، وكانت بحال لو لم يعصرها لا يخرج منها شيء ينتقض الوضوء.
وفي (مجموع النوازل) وفيه أيضًا: جرح ليس فيه شيء من الدم والقيح والصديد دخل صاحبه الحمام أو الحوض، فدخل الماء الجرح، فعصر الرجل الجرح وخرج منه الماء وسال لا ينتقض الوضوء، لأن الخارج ماء، وليس بنجس وإذا مسح الرجل الدم عن رأس الجراحة ثم خرج ثانيًا، فمسحه ينظر: إن كان ما خرج بحال لو تركه سال أعاد الوضوء، وإن كان بحيث لو تركه لا يسيل لا ينقض الوضوء، ولا فرق بين أن يمسحه بخرقة أو أصبع وكذلك إذا وضع عليه قطنة حتى ينشف ثم صعد ففعل ثانيًا وثالثًا وإنه يجمع جميع ما ينشف، فإن كان بحيث لو تركه سال جعل حدثًا، وإنما يعرف هذا بالاجتهاد وغالب الظن.
وكذلك إن كان ألقى عليه التراب ثم ظهر ثانيًا وتربه ثم ثالثًا أو ألقى عليه دقيقًا أو نخالًا فهو كذلك يجمع كل ذلك، قالوا: وإنما يجمع إذا كان في مجلس واحد مرة بعد أخرى، أما إذا كان في مجالس مختلفة لا يجمع، وكذلك إذا وضع عليه دواءً حتى ينشف جميع ما يخرج منه، فلم يسل عن رأس الجرح، فإن كان ينشف بحيث يسيل بنفسه يجعل حدثًا، ومالا فلا.
وإذا خرج من أذنه قيح أو صديد ينظر، إن خرج بدون الوجع لا ينقض وضوءه، وإن خرج من وجع ينقض وضوءه؛ لأنه إذا خرج من الوجع، فالظاهر أنه خرج من الجرح، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وفي (نوادر هشام) عن محمد رحمه الله: الشيخ إذا كان في عينيه رمد، وتسيل الدموع منها آمره بالوضوء لوقت كل صلاة: لأني أخاف أن ما يسيل قيح أو صديد، فإنه قد يكون في الجفون جرح. وإذا جرح دبره إن عالجه بيده أو بخرقة حتى أدخله تنتقض طهارته، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن بمجرد خروج المقعد ينتقض وضوءه لخروج النجاسة من الباطن إلى الظاهر.
وإذا عض شيئًا فرأى عليه أثر الدم من أصول أسنانه لا وضوء عليه، وكذلك.... لأنه ليس بسائل، هكذا ذكر في بعض الفتاوى، وذكر الشيخ الإمام علاء الدين في كتاب..... أن من أكل خبزًا أو شيئًا من الفواكه، ورأى فيه أثر الدم من أصول أسنانه ينبغي أن يضع إصبعه أو طرف كمه على ذلك الموضع، إن وجد فيه أثر الدم فيه ينتقض وضوءه، وإلا فلا.
وفي (فتاوى سمرقند): القراد إذا مص من عضو إنسان وامتلأ دمًا إن كان صغيرًا لا ينتقض وضوءه، لأن الدم فيه ليس بسائل، وإن كان كبيرًا انتقض وضوءه؛ لأن الدم فيه سائل.
العلقة إذا أخذت بعض جلد إنسان ومص حتى امتلأ من دمه بحيث لو سقط لسال انتقض الوضوء؛ لأن الدم فيه سائل، والذباب أو البعوض إذا مص عضو إنسان وامتلأ دمًا لا ينتقض وضوءه، وكذلك الذباب إذا مص عضو إنسان وظهر الدم لا ينتقض وضوءه.

.نوع آخر:

وفي (الأجناس): إذا احتقن الرجل بدهن ثم عاد، فعليه الوضوء؛ لأنه لا ينفك عن نجاسة، وإن أقطر في إحليله دهنًا ثم عاد، فلا وضوء عليه عند أبي حنيفة خلافًا لهما.
وفيه أيضًا: إذا صب دهنًا في أذنه ومكث في دماغه يومًا ثم سال وخرج فلا وضوء عليه، وإن خرج من الفم نقض وضوءه، وذكر هذه المسألة في (القدوري)، وقال: روي عن أبي يوسف أنه لو خرج من فمه، فعليه الوضوء، وأشار إلى أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن خرج من الفم، فلا وضوء عليه، وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يخرج من الفم إلا بعد نزوله الجوف، فصار كالقيء. ولهما أن الرأس ليس موضع النجاسة، والوصول إلى الجوف ليس بمعلوم، فلا ينتقض وضوءه بالشك.
وفي (نوادر هشام): لو دخل الماء أذن رجل في الاغتسال ومكث ثم خرج من أنفه، فلا وضوء عليه.
وفي (المنتقى): إبراهيم عن محمد في رجل أدخل عودًا في دبره أو قطنة في إحليله وغيبها كلها، ثم أخرجها أو خرجت بنفسها، فعليه الوضوء، علل فقال: لأنه حين غيبها صارت بمنزلة طعام أكله ثم خرج منه، ولو كان طرف العود بيده ثم أخرجه لم يجب عليه شيء، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل لو أدخل المحقنة ثم أخرجها فلم يكن عليه الوضوء، هكذا ذكر، ولكن تأويله إذا لم يكن على العود والمحقنة بلَّة، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل يتوضأ، فيدخل يده أي إصبعه في الاستنجاء، ولا ينقض الوضوء، وقال: من استنجى فلم يدخل إصبعه، فليس بتنظيف. قال أبو العباس رحمه الله: مراده في المسح الظاهر فإنه متى جاوز المسح الظاهر كان تفتيتًا للنجاسة لا تطهيرًا والله أعلم.

.نوع آخر منه في مسائل القيء وما يتصل بها:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): رجل قلس أقل من ملء فمه لا ينقض وضوءه، وإن ملء قلس فمه مرة أو طعامًا أو ماء نقض الوضوء، وهذا مذهبنا وهي مسألة الخارج من غير السبيلين.
والأصل فيه ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قاء أو رعف في صلاته، فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» والمعنى في ذلك من وجهين:
أحدهما: أن النجاسة متى خرجت يتنجس شيء من ظاهر البدن وثبت احتمال النجاسة في كل البدن، لأنه يحتمل أن يده أصابت ذلك الموضع، وتنجس ثم أصاب يده موضعًا آخر وتنجس، وإذا ثبت هذا الاحتمال وجب غسل كل البدن، لتحصيل القيام إلى الصلاة ببدن طاهر بيقين، هذا وجه مناسب، والشرع ورد به في بعض الأحداث وهو الجنابة، فيمكن إيجاب غسل كل البدن عليه.
والثاني: أن النجاسة إذا أصابت موضع الخروج يجب غسل ذلك الموضع؛ لإزالة النجاسة يقينًا، لأن القيام بين يدي... وعليه شيء مما تستقذره الطباع قبيح عند الناس في الشاهد، فكذا في الغائب وهو معنى قوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا، فهو عند الله قبيح».
وإذا وجب غسل موضع الإصابة يجب غسل الباقي لا لإزالة، ولكن لأن غسل بعض البدن يخل بالزينة كغسل بعض الثوب من الوسخ، والزينة مطلوبة، قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] أي عند كل صلاة، فيجب غسل كل البدن صيانة للزينة المطلوبة عن الخلل، فهذان الوجهان يثبتان وجوب غسل كل البدن، إلا أن الشرع أقام غسل الأعضاء الأربعة مقام غسل كل البدن دفعًا للحرج، بهذا الطريق وجب غسل الأعضاء الأربعة في الخارج من السبيلين. ثم القليل منه حدث في القياس، وهو قول زفر. وفي الاستحسان: ليس بحدث لم يشترط أن يكون ملء الفم، واختلفت الأقاويل في تفسيره ملء الفم، بعضهم قالوا: إذا كان بحيث لو ضم شفتيه لم يعلم الناظر أن في فمه شيئًا، فهو أقل من ملء الفم، وإن انتفخ شفتاه وخداه حتى كان يعلم الناظر أن في فمه شيئًا، فهو ملء الفم.
وقال أبو علي الدقاق في (كتابه): إذا كان القيء بحيث يمنعه من الكلام كان ملء الفم، وإن كان لا يمنعه لا يكون ملء الفم، وقال الحسن بن زياد: إن كان القيء بحيث لا يمكن للرجل ضبطه وإمساكه كان ملء الفم، وإن كان يمكن ضبطه وإمساكه لا يكون ملء الفم.
زاد على هذا بعض المشايخ، فقال: إن كان القيء بحيث لا يمكن ضبطه وإمساكه إلا بتكلف كان ملء الفم، وإن كان بحيث يمكن ضبطه وإمساكه من غير تكلف، لا يكون ملء الفم. وإليه مال كثير من المشايخ، وهو الصحيح. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله (يقول) الصحيح أنه مفوض إلى صاحبه إن وقع في قلبه أنه قد ملأ فاه، فقد ملأ فاه.
وجهُ القياس في القليل: أن الخارج من غير السبيلين لما كان حدثًا يجب أن يستوي فيه القليل، والكثير كالخارج من السبيلين.
وجه الاستحسان: أن ما روي عن علي رضي الله عنه أنه عد الأحداث، وذكر من جملتها دسعة تملأ الفم، وهكذا روي عن عمر رضي الله عنه، والدسعة: القيء، فقد قيداه بملء الفم، والمعنى أن الحدث هو الخارج النجس، والخروج هو الانتقال من الباطن إلى الظاهر، والفم ظاهر من وجه باطن من وجه، حقيقة وحكمًا.
أما من حيث الحقيقة: باطن (من) وجه فلأن للفم اتصالًا بالباطن بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك متى ضممت شفتيك صار باطنًا كالبطن وظاهر من وجه؛ لأن له اتصالًا بالوجه بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك لو فتحت شفتيك صار الفم ظاهرًا كالوجه، وأما من حيث الحكم باطن من وجه، فإنه لا يجب غسله في الوضوء كما لا يجب غسل الباطن، وإذا جمع الصائم ريقه في فمه ثم ابتلعها لم يفطره كما لو انتقل الطعام من زاوية البطن إلى زاوية، ظاهر من وجه فإنه يجب غسله في الجنابة كما يجب غسل وجهه، وإذا كان ظاهرًا من وجه باطنًا من وجه وفّرنا على الشبهين حظهما، فجعلناه باطنًا فيما بينه وبين البطن، فالمنتقل إليه من البطن كالمنتقل من زاوية البطن إلى زاوية أخرى، وجعلناه ظاهرًا فيما بينه وبين الوجه، فالمنتقل منه إلى الوجه كالمنتقل من الظاهر إلى الظاهر.
قلنا والقيء إذا كان قليلًا، وتفسيره الصحيح: أن يمكنه الإمساك من غير تكلف لا تقع الحاجة فيه إلى فتح الفم، فتبقى النجاسة في الفم صورة، وفي البطن معنى، فلا يتحقق الخروج من الباطن إلى الظاهر فبعد ذلك إن ابتلعه فبها، وإن ألقاه قائمًا وجد الخروج من الظاهر إلى الظاهر، وإنه ليس يعتبر هذا إذا كان قليلًا مرة واحدة.
وإن قاء مرارًا قليلًا قليلًا وكان بحيث لو جمع يبلغ ملء الفم هل يجمع؟ وهل يحكم بانتقاض الطهارة؟ لم يذكر هذا الفصل في (ظاهر الرواية). وذكر في (النوادر) خلافًا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فقال: على قول أبي يوسف رحمه الله: إن اتحد المجلس يجمع، وإن اختلف لا يجمع؛ لأن المجلس الواحد عرف جامعًا في الشرع، والمجالس المختلفة لا.
وقال محمد رحمه الله: إن اتحد السبب يجمع وإن اختلف لا يجمع، وتفسير اتخاذه عند محمد أن تكون المرة الثانية والثالثة قبل سكون الغثيان الأول، وعن أبي علي الدقاق أنه كان يقول بالجمع، اتحد المجلس أو اختلف، اتحد السبب أو اختلف، هذا إذا قاء مُرة أو طعامًا أو ماءً، وإن قاء بلغمًا إن كان نزل من الرأس لا ينتقض وضوءه، وإن كان ملء الفم بالاتفاق، وإن صعد من الجوف على قول أبي يوسف رحمه الله ينتقض وضوءه إذا كان ملء الفم، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا ينتقض، وإن كان ملء الفم، وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من ملء الفم إنه لا ينتقض وضوءه.
والحاصل: أن نجاسة الخارج أمر لابد منها لكون الخارج حدثًا، والبلغم طاهر عندهما، وعند أبي يوسف نجس، وكان الطحاوي يميل إلى قول أبي يوسف حتى روي عنه أنه قال: يكره للإنسان أن يأخذ البلغم بطرف ردائه أو كمه ويصلي معه، فمن مشايخنا من أسقط الخلاف، وقال: قولهما محمول على ما إذا نزل من الرأس وذلك طاهر بالإجماع، وقول أبي يوسف محمول على ما إذا خرج من المعدة وذلك نجس بالإجماع لما نبين إن شاء الله تعالى.
ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة، وهو الصحيح، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الخارج من المعدة جاور أنجاس المعدة، فيصير نجسًا بحكم المجاورة. دليله الطعام. وجه قولهما قوله عليه السلام لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواسية» (قرن) النخامة بالماء الذي في ركوته فيدل على طهارتها، والدليل عليه: أن الناس من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا تعارفوا أخذ البلغم بأطراف أرديتهم من غير نكير منكر، ولو كان نجسًا لوجد الإنكار من منكر كما في سائر الأنجاس، وما قال من المعنى بأنه جاور أنجاس المعدة فمسلم، إلا أن البلغم شيء لزج لا يحتمل النجاسة للزوجته كالسيف الصقيل، فلا يصير نفسه نجسًا، وإنما تكون النجاسة على ظاهره، وإنه قليل لا يبلغ ملء الفم بخلاف الطعام والشراب، لأنهما يحملان النجاسة فينجسان بمجاورة أنجاس المعدة، وإن قاء طعامًا أو ما أشبهه مختلطًا بالبلغم ننظر إن كانت الغلبة للطعام، وكان بحال لو انفرد الطعام بنفسه كان ملء الفم نقض وضوءه، وإن كانت الغلبة للبلغم وكان بحال لو انفرد البلغم بلغ ملء الفم كانت المسألة على الاختلاف، وإنما كان كذلك، لأن العبرة في أحكام الشرع للغالب، والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلة الغالب.
وإن قاء دمًا إن نزل من الرأس وهو سائل انتقض وضوءه، وإن كان علقًا لا ينتقض وضوءه، وإن صعد من الجوف إن كان علقًا لا ينتقض وضوءه إلا أن يملأ الفم؛ لأنه يحتمل أنه صفراء تجمد أو سوداء انعقد أو بلغم احترق، فيشترط فيه ملء الفم، وإن كان سائلًا وقد صعد من الجوف على قول أبي حنيفة رحمه الله ينتقض وضوءه، وإن لم يكن ملأ الفم، وقول أبي يوسف مضطرب، وإنما يعرف بسيلانه، وعلى قول محمد رحمه الله: لا ينتقض وضوءه إلا إذا كان ملأ الفم إذا خرج بقوة نفسه لا بقوة البزاق.
وجه قول محمد رحمه الله أنه صاعد من الجوف، والفم أعطي له حكم الباطن فيما بينه وبين الجوف إلا أن يخرج منه دمًا دون ملء الفم ليس له حكم الخارج على ما مر، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الفم في حق الدم ظاهر من كل وجه؛ لأن الفم إنما أعطي له حكم الباطن، فيما يخرج من المعدة، لأن الفم متصل بالمعدة بمنفذ أصلي، والمعدة ليست بمحل للدم، إنما محل الدم العروق، والفم لا يتصل بالعروق بمنفذ أصلي، وله اتصال بالوجه، فيكون الفم ظاهرًا في حق الدم من كل وجه، فكان كالخارج من الأسنان، فيشترط فيه السيلان لا غير، بخلاف ما يخرج من المعدة؛ لأن الفم أعطي له حكم الباطن فيما يخرج من المعدة؛ لأن للفم اتصالًا بالمعدة بمنفذ أصلي، فيشترط فيه ملء الفم على ما مر، أما هاهنا بخلافه، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف في المسألة على الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله محمول على ما إذا خرج الدم من منابت الأسنان، من اللهوات وكان أقل من ملء الفم.
وعند محمد رحمه الله في هذه الصورة الجواب كما قال أبو حنيفة، وما قاله محمد محمول على ما إذا خرج من المعدة، وعند أبي حنيفة الجواب في هذه الصورة كما قاله محمد، ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة على نحو ما بينا والله تعالى أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع من المسائل: روى ابن رستم في (نوادره) عن محمد رحمه الله: إذا دخل العلق حلق إنسان ثم خرج من حلقه دم رقيق سائل لا ينتقض وضوءه ما لم يملأ الفم، وإذا بزق وخرج في بزاقه دم، إن كان الدم هو الغالب ينتقض وضوءه وإن كان أقل من ملء الفم، وهذا لأن الحدث هو الخارج النجس، وقد تحقق الخروج إذا كانت الغلبة للدم لأنه إذا كانت الغلبة للدم على أنه خرج بقوة نفسه، وما أخرجه البزاق وإن كانت الغلبة للبزاق لا ينتقض وضوءه؛ لأنه إذا كانت الغلبة للبزاق علم أن البزاق أخرجه، وما خرج بقوة نفسه، وإن كانا سواء، فالقياس أن لا تنتقض طهارته؛ لأنه يحتمل أنه خرج بقوة نفسه، ويحتمل أن البزاق أخرجه فوقع الشك في انتقاض الطهارة.
وفي الاستحسان: ينتقض وضوءه؛ لأنه لما احتمل الخروج بقوة نفسه، رجحنا جانب الخروج احتياطًا لأمر العبادة؛ بخلاف ما إذا شك في الحدث؛ لأن الموجود هناك مجرد الشك ولا عبرة لمجرد الشك مع اليقين بخلافه، وهاهنا الحدث وجد من وجه دون وجه، فرجحنا جانب الوجود احتياطًا.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في هذا الفصل: وهو ما إذا كان الدم والبزاق على السواء، عامة مشايخنا على أن وضوءه بهذا ينتقض، وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: آمره بإعادة الوضوء احتياطًا، وهو باقٍ على وضوئه الأول، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن كان لونه يضرب إلى الصفرة، فليس بناقض، وإن كان يضرب إلى الحمرة فهو ناقض، وإذا كانت عروق الدم تجري بين البزاق كالعلقة لم يكن ناقضًا.
وفي (النوادر) عن أبي حنيفة: إذا بزق أو امتخط ورأى في ذلك علقة من الدم لم ينتقض وضوءه، وإن كان الذي يرى من الدم في جميع البزاق أو النخامة، فكانت حمرته أو صفرته غالبة على البزاق فعليه الوضوء، وإن كان الذي فيه شبيه غسالة اللحم، وكان البياض غالبًا، فلا وضوء.
وذكر هشام عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اصفر البزاق من الدم، فلا وضوء، وإن احمر فعليه الوضوء، وهذه الرواية موافقة لقول الفقيه أبي جعفر على ما تقدم ذكره، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن كان البزاق يخرج من لهاته أو لسانه فهو على التفصيل إن (كان) الدم غالبًا أو مغلوبًا، أو كانا على السواء، فأما إذا خرج ذلك من جوفه فالأمر فيه أسهل، والله أعلم.

.نوع آخر في النوم والإغمام والغشي والجنون والسكر:

إذا نام في صلاته قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا، فلا وضوء عليه، ولو نام مضطجعًا أو متوركًا، فعليه الوضوء، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نام في صلاته، ومضى فيها، فلما فرغ قال: «إذا نام الرجل راكعًا أو ساجدًا أو قائمًا، فلا وضوء عليه، إنما الوضوء على من نام مضطجعًا فإنه إذا نام مضطجعًا استرخت مفاصله» فهذا الحديث حجة لنا في الفصول كلها من حيث النص، وإنه ظاهر، وكذلك من حيث التعليل حجة؛ لأن النبي عليه السلام علل لوجوب الوضوء باسترخاء المفاصل، ولم يرد به أصل الاسترخاء؛ لأن أصل الاسترخاء موجود في حالة الركوع والسجود، لأن الاسترخاء نتيجة النوم، والنوم موجود في الأحوال كلها. ولو حمل آخر الحديث على أصل الاسترخاء صار كأن النبي عليه السلام، قال في صدر الحديث: «لا وضوء على من استرخت مفاصله»، ثم قال في آخر الحديث: «إنما الوضوء على من استرخت مفاصله» وفيه تناقض ظاهر، فلضرورة رفع التناقض يحمل آخر الحديث على النهاية في الاسترخاء، وإذا حمل عليه صار كأن النبي عليه السلام قال: إذا وجد استرخاء المفاصل على النهاية والمبالغة، بأن زال التماسك من كل وجه وجب الوضوء، فالاسترخاء على النهاية والمبالغة، لا توجد في حال القيام والركوع والسجود، لأن بعض التماسك في هذه الأحوال باقٍ؛ إذ لو لم يكن باقيًا لكان سقط، وإذا كان بعض التماسك باقيًا في هذه الأحوال لم يكن الاسترخاء في هذه الأحوال على سبيل النهاية والمبالغة، والنبي عليه السلام إنما جعل النوم حدثًا حال وجود الاسترخاء على سبيل النهاية والمبالغة.
ثم لم يفصل محمد رحمه الله في (الأصل) بينما إذا غلبه النوم، وبينما إذا نام متعمدًا، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إنما لا ينتقض وضوءه إذا غلبه النوم، أما إذا نام متعمدًا ينتقض وضوءه على كل حال، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في (شرح الأصل)، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله في السجود إذا تعمد النوم. والصحيح: ما ذكر في ظاهر الرواية: إذ لا فصل في الحديث.
وإن نام قاعدًا وهو يتمايل في حال نومه ويضطرب، وربما يزول مقعده عن الأرض، إلا أنه لم يسقط، ظاهر المذهب أنه ليس بحدث، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه حدث، وفي النوم مضطجعًا، الحال لا يخلو إن غلبت عيناه، فنام ثم اضطجع في حال نومه، فهو بمنزلة ما لو سبقه الحدث، فيتوضأ ويبني، ولو تعمد النوم في الصلاة مضطجعًا، فإنه يتوضأ ويستقبل الصلاة، هكذا حكي عن مشايخنا رحمهم الله.
وفي (الفتاوى): في المريض لا يستطيع أداء الصلاة إلا مضطجعًا، فنام في الصلاة انتقض وضوءه، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قيل: لا ينتقض، والأول أصح.
وفي (نوادر إبراهيم) عن محمد رحمه الله إذا قعد في الصلاة وإحدى أليتيه على قدمه فنام، فلا وضوء عليه، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف ما روي عن محمد رحمه الله في (الأصل)، هذا إذا نام في الصلاة، وأما إذا نام خارج الصلاة إن نام مضطجعًا أو متوركًا ينتقض وضوءه، وإن نام قائمًا أو على هيئة الراكع أو الساجد ذكر القدوري رحمه الله في (شرحه) أنه لا ينتقض وضوءه.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في (شرح المبسوط) فيما إذا نام ساجدًا أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر هو أيضًا عن علي بن موسى العمّي أنه قال: لا نص في هذه الصورة عن أصحابنا رحمهم الله، وينبغي أن لا ينتقض وضوءه إذا نام على هيئة الساجد على وجه السنّة، بأن كان رافعًا بطنه عن فخذيه جافيًا عضديه عن جنبيه.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا نام ساجد في غير الصلاة، فظاهر المذهب أن يكون حدثًا.
قال رحمه الله: وقد ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في (إشاراته)، وقد قال بعض العلماء: إن النوم في حالة السجود لا يكون حدثًا وإن كان خارج الصلاة، وذكر محمد رحمه الله في (صلاة الأثر) أن من نام قاعدًا أو واضعًا أليتيه على عقبيه وصار شبه المكب على وجهه واضعًا بطنه على فخذيه لا ينتقض وضوءه، وعن علي بن يزيد الطبري قال: سمعت محمدًا رحمه الله يقول: من نام هكذا على وجهه لا ينتقض وضوءه.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الشرط عند محمد رحمه الله أن يضطجع على غيره، أما اضطجاعه على نفسه لا يعتبر، وقال أبو يوسف رحمه الله: اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره في زوال الاستمساك، فيكون حدثًا ولم يذكر قول أبي حنيفة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد نقل عنه فصل يدل على أنه كان يميل إلى ما قاله أبو يوسف رحمه الله، فإنه قال فيمن كان محدودبًا، فسجد على فخذه أو ركبته بأن وضع أنفه على طرف ركبتيه صح سجوده، وجعل سجوده بمنزلة السجود على الوسادة أو اللبنة، فجعل سجوده على نفسه كسجوده على غيره، فجاز أن يجعل اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره.
وجه قول من يقول إنه ينتقض وضوءه أنه نام والمسكة زائلة عن مستوى جلوسه، فيكون حدثًا كما لو نام مضطجعًا على غيره، وكان القياس في حالة الصلاة كذلك لكن عرفناه بالأثر.
وجه قول من قال: إنه لا يكون حدثًا أن النوم في هذه الأحوال إنما لم يجعل حدثًا في الصلاة لانعدام استرخاء المفاصل على سبيل النهاية والمبالغة، وهذا المعنى موجود في غير حالة الصلاة، وأما إذا نام قاعدًا مسويًا أليتيه على الأرض لا ينتقض وضوءه، وإن نام قاعدًا (على) مستوى الجلوس، ولكن مستندًا إلى جدار أو أسطوانة، ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن ظاهر المذهب أنه لا ينتقض وضوءه.
وعن الطحاوي رحمه الله: أنه قال: إن كان بحيث لو أزيل السناد سقط، فهو كالمضطجع، وعلى هذا بعض المشايخ، وهذا لأنه إذا كان بهذه الصفة، فقد وجد زوال التماسك من كل وجه؛ لأنه لم يقعد لقوة نفسه إنما قعد لقوة الأسطوانة أو الحائط، فينتقض وضوءه.
وفي (القدوري): روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينتقض وضوءه إذا كانت أليتاه مستوية على الأرض، وذكر شيخ الإسلام رواية عن أبي حنيفة غير مقيدة بما إذا كانت أليتاه مستوية على الأرض، ومنهم من قال: إن جعل عقبه عند مقعده، واستند إلى شيء ونام، لا يكون حدثًا، وقيل: إذا كان مستقرًا على الأرض غير مستوقر لا ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد سقط، وإن كان مستوقرًا غير مستقر على الأرض ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد لا يسقط، ولو نام قاعدًا مستوي الجلوس فسقط على الأرض ذكر شمس الأئمة رحمه الله: أن ظاهر الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله أنه إن انتبه قبل أن يزايل مقعده الأرض في حال سقوطه لم تنتقض طهارته.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لو استيقظ حتى يضع جنبيه على الأرض، فلا وضوء عليه، وإن وضع جنبيه وهو نائم بطل وضوءه؛ لأنه وجد شيء من النوم مضطجعًا فينتقض وضوءه. وعلى قولهما لا تنتقض طهارته حتى يسقط على الأرض قبل أن ينتبه، ويشترط لانتقاض الطهارة عند أبي يوسف رحمه الله أن يكون الانتباه بعدما استقر نائمًا على الأرض، وهكذا روى ابن رستم عن محمد، وعن محمد رحمه الله في رواية كلما اضطجع إذا انتبه فعليه أن يتوضأ، لأنه وجد شيء من النوم مضطجعًا.
وإذا نام راكبًا على دابة والدابة عريانة، فإن كان في حالة الصعود والاستواء لا ينتقض وضوءه لأن مقعده يكون متمكنًا على ظهر الدابة، فلا يخاف خروج شيء منه، كما لو كان جالسًا على الأرض ومقعده متمكن من الأرض، أما حالة الهبوط يكون حدثًا؛ لأن مقعده لا يكون متمكنًا على ظهر الدابة حالة الهبوط، فهو بمنزلة ما لو نام على الأرض متوركًا، هذا هو الكلام في النوم.
وأما النعاس في حالة الاضطجاع، فلا يخلو إما أن يكون ثقيلًا أو خفيفًا، فإن كان ثقيلًا فهو حدث، وإن كان خفيفًا لا يكون حدثًا، والفاصل بين الخفيف (والثقيل) أنه إن كان يسمع ما قيل عنده، فهو خفيف، وإن كان يخفى عليه عامة ما قيل عنده فهو ثقيل، هكذا حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
والنوم في سجده التلاوة لا ينقض الوضوء، كالنوم في السجدة الصلبية، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. قال رحمه الله: وكذلك في سجدة الشكر عند محمد، وعند أبي حنيفة رحمه الله حدث؛ لأن سجدة الشكر عنده ليست بمروية، وفي (فوائد القاضي) الإمام أبي علي النسفي قوله مثل قول محمد، قال القاضي الإمام رحمه الله: وسواء سجده على وجه السنة، والنوم في سجدة السهو ليس بحدث.
والإغماء ينقض الوضوء وإن قل، وكذلك الجنون والغشي؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء سبب لخروج النجاسة بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فيقام مقام خروج النجاسة.
والسكر ينقض الوضوء أيضًا؛ لأنه سبب لخروج الحدث بواسطة استرخاء المفاصل، فيقام مقام خروج الحدث احتياطًا.
بعد هذا الكلام في حده وذكر بعض المشايخ في (شرح المبسوط) أن حد السكران هنا ما هو حد السكران في باب الحد، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (واقعاته)، فإنه قال: إن كان لا يعرف الرجل من المرأة ينتقض وضوءه، وهذا الحد ليس بلازم إذا دخل في بعض مشيته تحرك، فهو سكر ينتقض به وضوءه، كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الصحيح، وهذا لأن السكر إنما أوجب انتقاض الوضوء لكونه سببًا لخروج الحدث بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فلما دخل في مشيته تحرك فقد زالت المسكة والله أعلم.

.نوع آخر في القهقهة:

يجب أن يعلم بأن القهقهة في كل صلاة فيها ركوع وسجود تنقض الصلاة والوضوء عندنا لحديث خالد الجهني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي بأصحابه إذ أقبل أعمى، فوقع في بئر أدركته هناك، فضحك بعض القوم قهقهة، فلما فرغ النبي عليه السلام من الصلاة قال: «ألا من ضحك منكم، فليعد الوضوء والصلاة»، والقهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة بخلاف القياس؛ لأن انتقاض الطهارة بخارج نجس، ولم يوجد ذلك، وليست القهقهة خارج الصلاة في معنى القهقهة في الصلاة؛ لأن حالة الصلاة حالة المناجاة مع الله تعالى فتعظم الجناية بالقهقهة فيها، ولا كذلك القهقهة خارج الصلاة، فبقيت القهقهة خارج الصلاة على أصل القياس.
وكذلك القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة، والسنّة وردت في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقًا، فيعمل فيها بالقياس؛ ولكن تبطل صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وكذلك القهقهة من النائم في الصلاة لا تنقض الوضوء، هكذا وقع في بعض الكتب.
وذكر الزندويستي في (نظمه): إذا نام في صلاته قائمًا أو ساجدًا ثم قهقه: لا رواية لهذا في الأصول، قال شداد بن أوس: وقال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته، ولا يفسد وضوءه، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد رحمه الله، قال الحاكم أبو محمد الكفيني: فسدت صلاته ووضوءه جميعًا، وبه أخذ عامة المتأخرين احتياطًا.
ولو نسي كونه في الصلاة ثم قهقهة قال شداد: قال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته ولا يفسد وضوءه، وقال الحاكم الكفيني والفقيه عبد الواحد: فسدا جميعًا.
وجه قول من قال بفسادهما: أن هذه قهقهة حصلت في خلال الصلاة، فتنقض الوضوء كما في الذاكر المستيقظ.
وجه قول من قال بعدم فساد الوضوء: أن السنّة وردت في حق اليقظان الذاكر، وليس النائم والناسي في معنى المستيقظ الذاكر؛ لأن فعل النائم والناسي لا يوصف بكونه جناية، فيعمل فيه بالقياس، وقضية القياس أن لا يفسد الوضوء.
والقهقهة من الصبي في حالة الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن فعل الصبي لا يوصف بالجناية، فيعمل فيه بالقياس.
وإذا أحدث الرجل فذهب وتوضأ وعاد إلى مكانه وقهقه في الطريق حكي عن بعض المشايخ أنه ينقض وضوءه، وذكر الشيخ الإمام الزاهد علي البزدوي، رحمه الله أنها تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء استحسانًا.
ولو تبسم في صلاته لا ينقض وضوءه لما روي «أن رسول الله عليه السلام كان إذا رأى جرير بن عبد الله تبسم ولو في الصلاة»، وقال عليه السلام في قصة الأعمى الذي وقع في الركية: «ومن تبسم فلا شيء عليه»؛ ولأن القهقهة عرفت هاهنا بالسنّة بخلاف القياس، والتبسم ليس في معناها؛ لأن في القهقهة من المأثم والحرمة ما ليس في التبسم، فلم يكن التبسم في الجناية يظهر القهقهة، فيرد التبسم إلى أصل القياس.
ثم في حدّ القهقهة اختلاف المشايخ، قال بعضهم: القهقهة ما تكون مسموعًا له ولجيرانه، وقال بعضهم: ما يظهر فيه القاف والهاء، والتبسم: ما لا يكون مسموعًا له ولجيرانه، وما بينهما وهو ما يكون مسموعًا له ولا يكون مسموعًا لجيرانه، فسمي ضحكًا، وإنه ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء، وهكذا ذكر شيخ الإسلام في (شرح المبسوط).
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في (شرح المبسوط) أن ما فوق التبسم ودون القهقهة لا ذكر له في (المبسوط)، قال: وكان القاضي الإمام يحكي عن الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة أو عن التسبيح نقض وضوءه، قال رحمه الله: وغيره من المشايخ على أنه لا ينتقض الوضوء حتى يسمع صوته وإن قل.
والقهقهة عامدًا كان أو ناسيًا تنقض الوضوء ويبطل التيمم كما يبطل الوضوء، ولا تبطل طهارة الاغتسال، وقد قيل: تبطل طهارة الأعضاء الأربعة، لهذا إن المغتسل في الصلاة إذا قهقه بطلت الصلاة، وجاز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد على القول الأول، وعلى القول الآخر: لا يجوز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد.
ولو صلى الفريضة بالإيماء بعذر وقهقه فيها انتقض وضوءه؛ لأن هذه صلاة لها ركوع وسجود وقام الإيماء بعذر مقام الركوع والسجود، ولو صلى المكتوبة أو التطوع راكبًا خارج المصر أو القرية وقهقه فيها انتقض وضوءه، وإن كان في مصر أو قرية لا ينتقض عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه ليس في الصلاة، وكذلك لو افتتح التطوع راكبًا خارج المصر، ودخل المصر ثم قهقه، فلا وضوء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله.
ولو صلى في المصر ركعة من التطوع راكبًا ثم خرج من المصر يريد السفر وقهقهة لا وضوء عليه في قول أبي حنيفة. ولو صلى راكبًا وهو منهزم من العدو والدابة واقفة أو سائرة أو تعدو به وهو يومئ إيماء إلى القبلة أو إلى غيرها ثم قهقهة كان عليه الوضوء.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلم، فضحك بعده من خلفه، فعليهم الوضوء، علل فقال: لأني كنت آمرهم أن يسلموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضل: قد روي عن محمد رحمه الله أنه قال: لا آمرهم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة، فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحليل.
ذكر الحاكم في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد، ولم يتشهد والقوم على مثل حاله، فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه، قال: أما في قول أبي حنيفة رحمه الله، فعلى الإمام الوضوء، ولا وضوء على القوم من قبل أن الإمام قد أفسد عليهم ما بقي من صلاتهم، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئًا.
ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا، فعليهم الوضوء عندهما، لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمدًا أو الضحك يفسد عليهم ما بقي، وعند محمد رحمه الله: لا وضوء على القوم في هذه الصورة، وهو ما إذا ضحكوا بعدما سلم الإمام؛ لأن عند سلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منهم لم يصادف حرمة الصلاة، فلا يوجب الوضوء.
أبو سليمان عن محمد رحمه الله فيمن سها عن التشهد خلف الإمام في الثانية حتى يسلم الإمام في آخر الصلاة ثم ضحك هذا الرجل، فلا وضوء عليه، وليس هذا كسهوه عن التشهد في الرابعة.
في (الأمالي) عن أبي يوسف رحمه الله: لو أن إمامًا انصرف من غير أن يسلم وخرج عن المسجد وضحك أو ضحك بعض القوم، فلا وضوء عليه ولا عليهم.
وابن سماعة عن أبي يوسف في (النوادر): إذا صلى الجمعة ركعة ثم خرج وقتها ثم قهقهة، فلا وضوء عليه، وهذه المسألة تبنى على أصل أبي يوسف رحمه الله أن خروج الوقت في صلاة الجمعة توجب الخروج عن الجمعة، فالقهقهة بعد ذلك لم تصادف حرمة صلاة مطلقة.
أبو سليمان عن محمد رحمه الله: ظن القوم أن الإمام كبر ولم يكن كبر، فكبروا ثم قهقهوا، فلا وضوء عليهم.
عمرو بن أبي عمرو في مسافر صلى ركعة من الظهر بغير قراءة ثم قهقه، فعليه الوضوء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد وزفر: لا وضوء عليه، وكذلك في المقيم: إذا صلى ركعة من الفجر بغير قراءة ثم قهقه، وكذلك قال أبو يوسف فيمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر ثم قهقه، وقاس على قول أبي حنيفة، وكذلك إن ذكر صلاة عليه وهو في صلاة أخرى ثم قهقه، وكذلك إن نوى الإمام إمامة النساء، فجاءت امرأة فقامت إلى جنبه تأتم به ثم قهقه، فعليه الوضوء، وأما في قول محمد وزفر، فلا وضوء عليه في شيء من ذلك إذا فسدت الصلاة، فكأنه تكلم فيها ثم قهقه.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا إذا وقفت بجنب الإمام وكبرت بعد تكبيره، فأما إذا كبرت مع الإمام لا تنعقد تحريمة الإمام، فلا تنتقض طهارته. ولو وقفت المرأة بجنب إمام يؤمها ثم ضحكت قهقهة هل تنتقض طهارتها؟ في رواية لا تنتقض، وفي رواية تنتقض، والأول أصح، لأنها ليست في صلاة. وإذا صلى فريضة عند طلوع الشمس أو عند غروبها سوى عصر يومه لم يكن داخلًا في الصلاة حتى لا تنتقض طهارته بالقهقهة. وإذا شرع في التطوع عند طلوع الشمس أو عند غروبها ثم قهقهة كان عليه الوضوء.
حكي عن بشر عن أبي يوسف: كل صلاة افتتحت صحيحة ثم دخل فيها ما يفسدها على وجه ما سمينا ثم ضحك، فعليه الوضوء. وهو إشارة إلى المسائل المتقدمة.
وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله في رجل صلى ركعتين تطوعًا ولم يقرأ في إحديهما ثم قهقه، فلا وضوء عليه. وهذا الجواب يخالف جوابه في المسائل المتقدمة، وقال في (التحري): إذا تبين له في خلال الصلاة أنه صلى إلى غير القبلة ثم ثبت على صلاته بعد العلم به فسدت صلاته، وإن قهقه، فلا وضوء عليه، وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: إن عليه الوضوء.
فالحاصل أن في جنس هذه المسائل روايتين عن أبي يوسف، وقال فيمن انقضى وقت مسحه في صلاته ثم قهقه، فلا وضوء عليه، لأن هذا صار غير طاهر، وكذلك في الجبائر: إذا برئ في صلاته، قال: ولو أن صحيحًا افتتح مكتوبة قاعدًا أو مضطجعًا من غير عذر ثم قهقه أعاد الوضوء، وكذلك: لو افتتح الصلاة خلف مومئ أو خلف أخرس أو أمي ثم قهقه، فعليه الوضوء، وكذلك لو افتتح المتوضئ خلف المتيم والمتوضئ يرى الماء والمتيمم لا يراه، وكذلك من يأتم بمن يعلم أن عليه صلاة قبلها ولا يعلمها الإمام أو الإمام على غير القبلة ولا يعلمها والمؤتم يعلم، وإن كان الإمام يعلم أنه افتتح لغير القبلة، فلا وضوء على المؤتم.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: لو سلم على تمام في نفسه ثم تذكر سجدة تلاوة عليه ثم قهقه قبل أن يسجد لها، فلا وضوء عليه. ولو اقتدى رجل بهذا الرجل بعد السلام لم يكن الرجل داخلًا في صلاته، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب خلاف جواب (الأصل)، فقد ذكر في (الأصل) عليه الوضوء، ولو كان مسافرًا ينوي الإقامة بعد السلام قبل الضحك كانت نيته قاطعة للصلاة، ولم يكن عليه أن يتمها وهو كمن سلم وعليه سجدتا السهو.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: في رجل لا يقرأ صلى ركعة بغير قراءة ثم تعلم سورة، قال: ينصرف على شفع وهو في الصلاة، وعليه الوضوء إن قهقه.
وعنه أيضًا: إذا صلى العريان ركعة ثم وجد ثوبًا، فلبس في الصلاة، قال: ينصرف على شفع، ولا وضوء عليه إن قهقه. وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: عليه الوضوء، فصار في المسألة روايتان، ويجب أن تكون المسألة الأولى على الروايتين أيضًا، إذ لا تفاوت بينهما.
وعنه أيضًا: أمة صلت بغير قناع ركعة ثم أعتقت، فصلت ركعة أخرى بغير قناع وهي تعلم بالعتق، قال: إنها ليست في صلاة، لا وضوء عليها إن قهقهت، وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: عليها الوضوء.
وعنه أيضًا: لو دخل بنية العصر في صلاة رجل يصلي الظهر لزمه المضي معه وهو متطوع، وعليه الوضوء إن قهقه.
إذا سلم المقتدي قبل سلام الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم قهقه لا وضوء عليه؛ لأنه صح خروجه عن الصلاة قبل خروج الإمام، فلا تنتقض طهارته بالقهقهة، وإذا قهقه القوم بعد التشهد دون الإمام تمت صلاتهم، وانتقضت طهارتهم، ولا تنتقض طهارة الإمام، ولو قهقه القوم بعد التشهد معًا تمت صلاتهم وانتقضت طهارتهم.

.نوع آخر من هذا الفصل:

مس الرجل المرأة أو المرأة الرجل لا ينقض الوضوء، وقال مالك إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض؛ لأن المس عن شهوة سبب لاستطلاق وكاء المذي، فيقام مقامه في حق إيجاب الوضوء احتياطًا لأمر العبادة، كما فعله أبو حنيفة رحمه الله في المباشرة الفاحشة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ولنا حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ» ولأن عين المس ليس بحدث، بدليل مس ذوات المحارم، وإنما الحدث ما يخرج عند المس، وذلك ظاهر، فلا حاجة إلى إقامة السبب مقامه.
ومس الذكر لا ينقض الوضوء بحال. وقال الشافعي: ينقض إذا مسه بباطن الكف من غير حائل، لحديث بُسْرة أن النبي عليه السلام قال: «من مس ذكره فليتوضأ» ولأنه سبب لاستطلاق وكاء المذي فيقام مقامه، ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عمن مس ذكره هل عليه أن يتوضأ؟ قال: «لا وهل هو إلا بضعة منك؟» ولأن إقامة السبب الظاهر مقام المعنى الخفي عند تعذر الوقوف على الخفي، وذلك غير موجود هاهنا؛ لأن المذي يرى.
فإذا باشر امرأته مباشرة فاحشة بتجرد وانتشار وملاقاة الفرج الفرج، ففيه الوضوء في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف استحسانًا، وقال محمد: لا وضوء عليه، وهو القياس؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «الوضوء مما خرج» وقد تيقن أنه لم يخرج منه شيء، فهو كالتقبيل. ولهما أن الغالب من حال من بلغ في المباشرة هذا المبلغ خروج المذي منه فيجعل كالمذي بناء للحكم على الغالب دون النادر، ألا ترى أن من نام مضطجعًا ينتقض وضوءه وهو وإن تيقن أنه لم يخرج منه شيء اعتبارًا للغالب كذا هاهنا.
والكلام الفاحش لا ينقض الوضوء وإن كان في الصلاة؛ لأن الحدث اسم لخارج نجس، ولم يوجد هذا الحدُّ في الكلام الفاحش.
ولا وضوء في أكل ما مسته النَّار أو لم تمسه، فقد صح «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ».
وليس في حمل الميت وغسله وضوء إلا أن يصيب يده أو جسده شيء من الماء، فيغسل ذلك الموضع.
وإذا ذبح شاة، فلا وضوء عليه إلا أن تتلطخ يده بدمها فيغسل يده.
قال القدوري رحمه الله: وليس في مزال عن بدن ولا موطوء عليه وضوء، ولا إمرار ماء على موضع المزال.
يريد به: إذا توضأ، ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وقد مرت مسألة الشعر من قبل، ومعنى الموطوء عليه: أن يطأ نجاسة لا يلصق به شيء منها، وإن لصقت فعليه غسلها والله أعلم.

.نوع آخر:

قال محمد رحمه الله في (الأصل): ومن شك في بعض وضوئه وهو أول ما شك غسل الموضع الذي شك فيه؛ لأن غسله لا يريبه وتركه يريبه، وقد قال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، ولأنه على يقين من الحدث في ذلك الموضع، وفي شك من غسله، واليقين لا يزال بالشك، فأما إذا كان يرى ذلك كثيرًا لم يلتفت ومضى؛ لأنه من الوساوس، والسبيل في الوساوس قطعها، وترك الالتفات إليها؛ لأنه لو التفت إليها تقع في مثل ذلك ثانيًا وثالثًا، فبقي في أكثر عمره في ذلك.
قالوا: وهذا إذا كان الشك في خلال الوضوء، فأما إذا كان هذا الشك بعد الفراغ من الوضوء لا يلتفت إليه ومضى، وهو نظير ما إذا شك في صلاته أنه صلاها ثالثًا أو أربعًا إن كان هذا الشك في خلال الصلاة كان معتبرًا، وإن كان بعد الفراغ من الصلاة لا يعتبر، حملًا لأمره على ما كان وهو الخروج عن الصلاة بعد التمام كذا هاهنا.
وتكلموا في قوله: وهو أول ما شك فيه، من المشايخ من قال: أراد به أول ما شك في عمره، ومنهم من قال: أراد به أن الشك في هذا لم تصر عادة له.
ومن شك في الحدث، فهو على وضوئه، لأنه على يقين من الطهارة، وعلى شك من الحدث واليقين لا يزال بالشك.
ومن شك في الوضوء، فهو محدث؛ لأنه على يقين من الحدث، وعلى شك من الوضوء، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: لا مدخل للتحري في باب الوضوء إلا في فصل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه إذا كان مع الرجل آنية وهو يتذكر أنه جلس للوضوء إلا أنه شك أنه قام قبل أن يتوضأ أو بعدما توضأ يتحرى ويعمل بغالب رأيه.
وإن شك أنه جلس للتوضؤ أولا والآنية هناك موضوعة، فهو محدث، ولا يجوز له التحري قال ابن سماعة في (نوادره): وهو نظير الخلاء، فإنه إذا كان يتذكر أنه دخل الخلاء للتخلي لكنه شك أنه خرج منها قبل أن يتخلى أو بعدما تخلى جعل محدثًا، ولا يجوز له التحري. ولو شك أنه دخل الخلاء أولم يدخل جاز له التحري، والعمل بغالب رأيه وهذه رواية مستحسنة.
وفي (المنتقى): إبراهيم عن محمد أنه سئل عن المتيقن بالوضوء إذا لم يذكر حدثًا، فقال له رجل: إنك بلت في موضع كذا فشك الرجل، وقد صلى بعد ذلك صلوات، فقال: إذا شهد عنده عدلان قضاها، وإن شهد واحد عدل لم يقض.
وفي (الأصل) عن محمد رحمه الله: إذا وقع في قلب المتوضئ أنه أحدث وكان على ذلك أكثر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن صلى بوضوئه الأول كان في سعة من ذلك عندنا.
وإن أخبره مسلم عدل رجل أو امرأة حرة أو مملوكة أنه أحدث أو رعف أو نام مضطجعًا لم يسع له أن يصلي حتى يتوضأ؛ لأن هذا أمر من أمور الدين وخبر الواحد حجة في أمور الدين.
ولو استيقن بالحدث وشك في الوضوء، فأخبره عدل أنه توضأ، ولم يعرف المخبر بكونه عدلًا، إلا أنه وقع في قلبه أنه صادق، وسعه أن يصلي، فإن كان مبتلى بهذا كثيرًا ويدخل عليه فيه الشيطان، فاستيقن بالحدث، واستيقن أنه قعد للوضوء، فإن كان أكثر رأيه أنه توضأ ورأى البلل سائلًا من ذكره بعد وضوئه، فإن كان الشيطان يريه ذلك كثيرًا ولا يستيقن أنه بلل ماء أو بول مضى في صلاته، ولا يلتفت إليه.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وتأويل هذا في الذي يرى البلل على طرف ذكره وقد استنجى، فيحتمل أن يكون ذلك من بلل الغسل، فأما إذا علم الرجل أنه خرج من داخل الإحليل فعليه أن يتوضأ.
ومن أصحابنا من قال: وإن علم أنه خرج من ذكره لا ينتقض وضوءه ما لم يستيقن أنه بول أو مذي إذا كان قد استنجى، فقد ذكر في بعض (النوادر) أن المستنجي إذا دخل الماء في ذكره ثم خرج لا ينقض وضوءه، فيحتمل أن يكون هذا الخارج من ماء الاستنجاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الحيلة في قطع هذه الوسوسة أن ينضح فرجه بالماء، فإذا أراه الشيطان ذلك أحاله على الماء.
وقد روى أنس رضي الله «أن رسول الله عليه السلام كان ينضح إزاره بالماء إذا توضأ، وقال: نزل جبريل صلوات الله عليه وأمرني بذلك»، قالوا: هذا الاحتيال إنما ينفعه إذا كان العهد قريبًا بحيث لم يجف البلل، فأما إذا مضى عليه زمان ثم رأى بللًا، فإنه يعيد الوضوء؛ لأنه لا يمكننا الإحالة على ذلك الماء والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:

.بيان أحكام المحدث:

المحدث لا يمس المصحف ولا الدرهم الذي كتب عليه القرآن، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79]، ولا بأس بأن يقرأ القرآن، لما روي عن بعض الصحابة أن رسول الله عليه السلام: «كان لا يحجزُهُ شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة».
والمعنى في الفرق بين القراءة والمس أن الحدث حل باليد دون الفم، ولهذا يفرض على المحدث إيصال الماء إلى اليد ولا يفترض عليه إيصال الماء إلى الفم. وإن أراد أن يغسل اليد ويأخذ المصحف لا يحل له ذلك؛ لأن الحدث لا يتجزأ زوالًا وثبوتًا.
وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض أيضًا، وإن لمس المصحف بغلافه فلا بأس به، والغلاف الجلد الذي عليه المتصل عند بعض المشايخ، وعن بعضهم المنفصل كالخريطة ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف من المصحف، ولهذا يدخل في بيع المصحف من غير ذكر.
وإن مس المصحف بكمه أو ذيله لا يجوز عند بعض المشايخ؛ لأن ثيابه تبع لبدنه ألا ترى لو قام على النجاسة في الصلاة، وفي رجليه نعلان أو جوربان، لا تجوز صلاته، ولو فرش نعليه أو جوربيه وقام عليهما جازت صلاته، وألا ترى أن من حلف لا يجلس على الأرض فجلس عليها وبينه وبينها ثيابه يحنث في يمينه واعتبر ثوبه تبعًا له حتى لم يعتبر حائلًا، وأكثر المشايخ على أنه لا يكره؛ لأن المحرم هو المس، وإنه اسم للمباشرة باليد بلا حائل، ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين وردغة حل للأجنبي أن يأخذ يدها بحائل ثوب، وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمس بحائل، وفي باب اليمين المعتبر هو العرف، وفي العرف يعتبر الجالس في ثيابه على الأرض جالسًا على الأرض.
ويكره له مس كتب التفسير، وكذلك يكره له مس كتب الفقه، وما هو من كتب الشريعة؛ لأنه لا يخلو عن آيات القرآن وإن لم يكن فيها آيات القرآن، ففيها معنى القرآن، والمشايخ المتأخرون وسعوا في مس كتب الفقه بالكم للبلوى والضرورة.
وكره بعض مشايخنا دفع المصحف واللوح الذي عليه القرآن إلى الصبيان، وعامة المشايخ لم يروا به بأسًا........... التوضؤ وفي التأخير تضييع القرآن، ويكره له أن يدخل المسجد وأن يطوف بالبيت وفي الأذان روايتان، وتكره الإقامة رواية واحدة، والله تعالى أعلم بالصواب.

.الفصل الثالث في تعليم الاغتسال:

هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضًا.

.نوع منه في تعليم الاغتسال:

قال محمد رحمه الله: ويبدأ في غسل الجنابة بيديه، فيغسلهما ثلاثًا ثم يأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على شماله حتى يغسل فرجه ثلاثًا وينقيه، وكذلك المرأة إذا اغتسلت بدأت وغسلت فرجها، ثم يتوضأ وضوء الصلاة غير غسل القدمين، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثًا، ثم يتنحى عن مغتسله فيغسل قدميه؛ فقد أمر بتأخري غسل القدمين في حق الجنب.
وقد اختلفت الروايات في فعل رسول الله عليه السلام، روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غسل القدمين في الوضوء»، وروت ميمونة «أنه عليه السلام لم يغسل القدمين في الوضوء، بل أخره إلى ما بعد الاغتسال»، وعلماؤنا رحمهم الله أخذوا برواية ميمونة، لأن غسل القدمين قبل إفاضة الماء على رأسه لا يقبل؛ لأن قدميه في مستنقع الماء المستعمل، فيتنجس ثانيًا وثالثًا بوصول الماء المستعمل إليه فلا يفيد الاغتسال في الوضوء، حتى لو أفاد بأن كان قائمًا على حجر أو لوح لا يؤخر غسل القدمين عن الوضوء، ثم أشار هاهنا إلى مسح الرأس في الوضوء، فإنه قال: يتوضأ وضوءه للصلاة، والوضوء اسم يشمل المسح والغسل جميعًا، وهو ظاهر المذهب.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يمسح برأسه في وضوئه؛ لأنه قد لزمه غسل الرأس، وفرضية المسح لا تظهر عند وجوب الغسل، والصحيح أن يمسح برأسه، فقد روت عائشة وميمونة رضي الله عنهما في بيان كيفية اغتسال رسول الله عليه السلام أن رسول الله عليه السلام «توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثًا».
واسم الوضوء مشتمل على الغسل والمسح جميعًا، وما قال من المعنى ليس بصحيح لأن تقديم الوضوء على الإفاضة يقع سنة لا فرضًا ليقال فرضيته لا تظهر مع فرضية الغسل، وإن أفاض الماء على رأسه مرة واحدة تجزئه، وهذا الترتيب الذي ذكرنا مذكور في (الأصل).
وفسر في (النوادر) فقال في موضع: يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا يغسل قدميه ثم يبدأ بمنكبه الأيمن فيفيض الماء عليه ثلاثًا بمنكبه الأيسر ويفيض الماء عليه ثلاثًا، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثًا، ثم يتنحى فيغسل قدميه.
قال في (المعلى): وقال أبو حنيفة رحمه الله: من اغتسل من الجنابة فليس عليه أن يضع في عينيه الماء.
قال في (الأصل): والدلك في الاغتسال ليس بشرط عندنا، خلافًا لمالك؛ لأن الواجب بالنص التطهير، فاشتراط الدلك يكون زيادة على النص. وفي (المنتقى): وقال أبو يوسف رحمه الله في (الأمالي): الدلك في الغسل شرط.
وإذا اغتسلت المرأة من الجنابة ولم تنقض رأسها إلا أنه بلغ الماء أصول شعرها وأبلها وإنه جائز بلا خلاف أجزأها، هكذا ذكر في (الأصل).
واعلم أن هاهنا فصلان: أحدهما: إذا بلغ الماء إلى (أصول الشعر) لما روي أن أم سلمة سألت رسول الله عليه السلام وقالت: «إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضها إذا اغتسلت؟ فقال: لا»، وفي حديث جابر أن النبي عليه السلام قال: «لا يضر الجنب والحائض أن ينقض الشعر إذا اغتسل بعد أن يصل الماء سور الشعر»، أي: أصول الشعر. وقالت عائشة رضي الله عنها: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكان لا ينقض شعري».
وأما إذا بلغ الماء أصول شعرها ولكن لم يدخل شعب عقاصها فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئها لقوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة، ألا فبلوا الشعر» ولم يوجد بلّ الشعر هاهنا.
وعن عبيد الله بن عمر أنه كان يأمر جواريه بنقض شعورهن عند الاغتسال من الحيض والجنابة، ويؤيد هذا القول ما روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: تبل ذوائبها ثلاثًا، مع كل بلة عصرة، وفائدة اشتراط العصر أن يصل الماء تحت قرونها.
سئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن هذه المسألة فروى عن رسول الله عليه السلام أنه علم أم سلمة الاغتسال، وقال لها: «احثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء مع كل حثية عصرة» قال: وفائدة اشتراط العصرة أن يبلغ الماء تحت قرونها، قاله الراوي عن الفقيه على أهل المجلس يذكر هذه المسألة.
وقال بعضهم: يجزئها لظاهر ما روينا من حديث أم سلمة وجابر وعائشة، ولأنها إذا نقضت شعرها احتاجت إلى الضفر ثانيًا وقال: فليحقها بذلك حرج وربما يتأثر بذلك شعرها، وفيه فساد، بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثناء اللحية، فيجب إيصال الماء إليه حتى إن المرأة إذا كانت لا تتحرج في إيصال الماء إلى أثناء الشعر بأن كانت منقوضة الشعر يفرض عليها إيصال الماء إلى أثناء الشعر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله. وتأويل حديث جابر على هذا القول أن المراد منه إذا لم تكن منقوضة الشعر.
وأما الرجل إذا كان على رأسه شعر وقد ضفره كما يفعله العلويون والأتراك هل يجب عليه إيصال الماء إلى أثناء الشعر؟ فظاهر حديث جابر يدل على أنه لا يجب، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله أنه يجب، والاحتياط في إيصال الماء إليه، والله أعلم.
وسئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن امرأة تغتسل من الجنابة هل تتكلف لإيصال الماء إلى ثقب القرط، قال: إن كان القرط فيه وتعلم أنه لا يصل الماء إليه من غير تحريك فلابد من التحريك كما في الخاتم، وإن لم يكن القرط فيه إن كان لا يصل الماء إليه لا تكلف، وكذلك إن انضم ذلك بعد نزع القرط وصار بحيث لا يدخل القرط فيه إلا بتكلف لا تتكلف أيضًا، وإن كان بحيث لو أمرَّت الماء عليه دخله، ولو عدلت لم يدخله أمرت الماء عليه حتى يدخله، ولا تتكلف إدخال شيء فيه سوى الماء من خشب أو نحوه لإيصال الماء إليه.
الأقلف إذا اغتسل من الجنابة ولم يدخل الماء داخل الجلدة جاز؛ لأنها خلقة، وقال في الأقلف إذا خرج بوله من طرف ذكره حتى صار في قلفته فعليه الوضوء.
ذكر القاضي الإسبيجابي هاتين المسألتين على هذا الوجه في (شرحه) وكل واحدة ترد إشكالًا على الأخرى، والجواب في هاتين المسألتين على هذا الوجه منقول عن ابن سلمة رحمه الله، وذكر في آخر (النوادر) قبيل باب التأويلات عن الفقيه أبي بكر رحمه الله أن الأقلف إذا لم يدخل الماء داخل الجلدة، ففي الغسل لا يجزئه، وفي الوضوء يجزئه، وجعله كالمضمضة والاستنشاق والله أعلم.

.نوع منه في بيان فرائضه وسننه:

والفرض فيه أن يغسل جميع بدنه ويتمضمض ويستنشق، والمضمضة والاستنشاق فرضان في الغسل، نفلان في الوضوء، والأصل فيه قوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعرة والبشرة»، وفي الأنف شعر وفي الفم بشرة. قال ابن الأعرابي: البشرة اسم لجلدة تقي اللحم من الأذى، ولأن الأنف والفم عضوان يمكن إيصال الماء إليهما من غير حرج، فيجب في الغسل عن الجنابة كما في سائر الأعضاء وهذا لأن الواجب تطهير البدن، قال الله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6] واسم البدن يتناول الكل إلا ما لا يمكن إيصال الماء إليه يسقط اعتباره لمكان الضرورة، فأما إذا أمكن إيصال الماء إلى هذين العضوين من غير حرج لا ضرورة إلى إسقاط اعتبارهما. أما في الوضوء الواجب غسل الوجه، والوجه اسم لما يواجه الناظر، والمواجهة لا تقع بباطن الفم والأنف.
وتقديم الوضوء على الاغتسال في الجنابة سنة، وليس فرضًا عند علمائنا رحمهم الله، حتى إنه لو لم يتوضأ وأفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثًا أجزأه إذا كان قد تمضمض واستنشق.
رجل اغتسل من الجنابة ولم يتمضمض، إلا أنه شرب الماء، هل يقوم شرب الماء مقام المضمضة؟ كان الفقيه أحمد بن إبراهيم يقول لعمرو هكذا كان جواب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله حسب ما بلغ: إذا تمضمض يجوز، وما لا فلا، وبنحوه روى الحاكم الشهيد رحمه الله في (المنتقى) عن محمد، والذي روي عنه جنب شرب الماء قال: إن كان الشرب أتى على جميع فمه يجزئه عن المضمضة، وإن كان مص الماء مصًا، فلم يأت على جميع فمه لم تجزئه عن المضمضمة.
وفي (نوادر هشام): جنب تمضمض وأدار الماء، قال: إن أصاب ذلك الفم كله أجزأه قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: إن أبا يوسف قال: لا يجزئه إلا أن يمجه، قال محمد: قال أبو يوسف: يجزئه إذا أصاب الفم كله، وعن بعض مشايخنا: إن الرجل إذا كان عالمًا لا يجزئه، وإن كان جاهلًا أجزأه، فإنه إذا كان عالمًا يمص الماء مصًا، وليس فيه مبالغة، فلا يصل الماء إلى جميع فمه، وإذا كان جاهلًا يغب الماء غبًّا والتقريب ما ذكرنا. وفي (واقعات الناطفي): أنه لا يجزئه كيف ما شرب ما لم يمجه.
وإذا اغتسل من الجنابة وبقي بين أسنانه طعام ولم يصل الماء تحته جاز؛ لأن ما بين الأسنان رطب، فلا يمنع وصول الماء إلى ما تحته، وذكر الناطفي في (واقعاته) أنه لا يجزئه ما لم يقلع ذلك الطعام ويجري الماء عليه.
وإذا كان على ظاهر بدنه جلد سميك أو خبز ممضوغ قد جف واغتسل ولم يصل الماء إلى ما تحته، لا يجوز ولو كان مكانه خرء ذباب أو برغوث وباقي المسألة بحالها جاز، وقد مر هذا في فصل الوضوء.
والمرأة إذا عجنت وبقي العجين في ظفرها فاغتسلت من الجنابة لم يجز، ولو بقي الدرن جاز يستوي فيه القروي والمدني عند عامة المشايخ وهو الصحيح، وقد مرت هذه المسألة في فصل الوضوء أيضًا، وذكرنا ثمة قول الإمام الزاهد الصفار رحمه الله.

.نوع منه في بيان أسباب الغسل:

فنقول أسباب الغسل ثلاثة: الجنابة، والحيض، والنفاس، وهذا النوع لبيان الغسل عن الجنابة وأحكامها، ومسائل الحيض والنفاس تأتي في آخر الباب في فصل على حدة إن شاء الله تعالى فنقول: الجنابة تثبت بشيئين:
أحدهما: انفصال المني عن شهوة، والثاني: الإيلاج في الآدمي، واختلفت عبارة أصحابنا رحمهم الله في الإيلاج الذي تثبت به الجنابة، فالمروي عن محمد رحمه الله: أنه إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة إنه يجب الغسل، والمروي عن أبي يوسف أنه إذا توارت الحشفة في قبل أو دبر من الآدمي يجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل.
والكرخي في (كتابه) يقول في الإيلاج في أحد السبيلين: إذا توارت الحشفة يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل، وهذا هو المذهب لعلمائنا رحمهم الله، فوجوب الغسل عند علمائنا رحمهم الله غير مقصور على التقاء الختانين، فإن الإيلاج في الدبر يوجب الغسل عليهما بالإجماع، وإن لم يوجب التقاء الختانين والإيلاج في البهيمة لا يوجب الغسل إلا بالإنزال؛ لأنه ناقص في قضاء الشهوة، فأشبه الاستمتاع بالكف، وذلك لا يوجب الغسل بدون الإنزال كذا هاهنا.
الإيلاج في الميتة بمنزلة الإيلاج في البهائم لا يوجب الغسل ما لم ينزل والإيلاج في الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا يوجب الغسل، هكذا ذكر في (الأجناس)، وفي (شرح الشافي) في كتاب الحدود أن عليه الغسل وإن لم ينزل.
وفي (الفتاوى): إذا أتى امرأته وهي بكر، فلا غسل عليه ما لم ينزل، لأن البكارة تمنع من التقاء الختانين وبدونه لا يجب الغسل ما لم ينزل، كذلك لا غسل عليها لانعدام السبب في حقها، وكذلك إذا كانت ثيبًا ولم يوار الحشفة، فلا غسل عليه ما لم ينزل ولا غسل عليها أيضًا لما قلنا، وقال محمد رحمه الله: في البكر إذا جومعت فيما دون الفرج فدخل من مائه فرجها: فلا غسل عليها؛ لأن الغسل إنما يجب بالتقاء الختانين أو بنزول الماء ولم يوجد واحد منهم حتى لو حبلت يجب الغسل لنزول مائها.
غلام ابن عشر سنين جامع امرأته البالغة، فعليها الغسل لوجود السبب في حقها وهو مواراة الحشفة بعد توجه الخطاب، ولا غسل على الغلام لعدم الخطاب إلا أنه يؤمر بالغسل تخلقًا واعتبارًا كما يؤمر بالصلاة تخلقًا واعتبارًا، ولو كان الرجل بالغًا والمرأة صغيرة يجامع مثلها، فعلى الرجل الغسل، ولا غسل عليها لوجود السبب في حقه وانعدام السبب في حقها، وجماع الخصي يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به لوجود السبب هو مواراة الحشفة.
والكافر إذا أجنب ثم أسلم ففي وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، قال بعضهم يجب، وإليه أشار محمد رحمه الله في (السير الكبير)، والمذكور في (السير): وينبغي للرجل إذا أسلم أن يغتسل غسل الجنابة، وعلل فقال؛ لأن المشركين لا يغتسلون من الجنابة ولا يدرون كيف الغسل في ذلك، وإنما أراد بما قال والله أعلم: إن من المشركين من لا يدين الاغتسال من الجنابة، ومنهم من يدين كقريش وبنو هاشم عامتهم توارثوا من إسماعيل عليه السلام إلا أنهم لا يدرون كيفيته، فكانوا لا يتمضمضون ولا يستنشقون، وهما فرضان ألا ترى فرضية المضمضة والاستنشاق في الاغتسال قد خفي على كثير من العلماء، فكيف على الكفار.
على أن ما أشار إليه في (الكتاب) لا يخلو عن أحد شيئين: لا إما يغتسلون عن الجنابة أو يغتسلون عنها، ولكن لا يدرون كيفيتها وأي ذلك ما كان يؤمرون بالاغتسال بعد الإسلام لبقاء حكم الجنابة.
ثم فيما ذكر محمد رحمه الله بيان أن صفة الجنابة تتحقق في حق الكفار عند وجود سببها، وبه تبين أن ما ذكر بعض مشايخنا أن الغسل بعد الإسلام مستحب، وذلك في حق من لم يكن قبل ذلك أجنب، وبه تبين أن ما قال بعض المشايخ بأن الجنابة في حق الكفار لا توجب الاغتسال بعد الإسلام لأن الكفار غير مخاطبين، غير سديد.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ؛ لأن الكفار هل يخاطبون بالشرائع أو لا يخاطبون بها؟ فمن قال: يخاطبون بها، يقول: الغسل يجب عليه في حال كفره ولهذا لو أتى به يصح، وهذا ظاهر، ومن قال بأنهم لا يخاطبون بها، لا ينبغي أن يقول: بوجوب الغسل بعد الإسلام، ولذلك وجهان:
أحدهما: أن الاغتسال لا يجب بالجنابة ليقال إنه وقت وجوب الاغتسال غير مخاطب في الشرائع، إنما وجوبه بإرادة الصلاة وهو جنب كما أن الوضوء لا يجب بالحدث، وإنما يجب بإرادة الصلاة وهو محدث، قلنا: وهو عند إرادة الصلاة جنب مسلم، فلذلك يلزمه الاغتسال.
والثاني: أن صفة الجنابة مستدامة، فاستدامتها بعد الإسلام كإنشائها، ولهذا قلنا: لو انقطع دم الحيض قبل أن تسلم ثم أسلمت لا يلزمها الاغتسال؛ لأنه لاستدامة للانقطاع حتى يجعل دوامه كابتدائه، فلم يوجد سبب وجوب الاغتسال في حقها بعد الإسلام لا حقيقة ولا حكمًا، فلا يلزمها الاغتسال. فظهر الفرق على هذا المعنى بين الكافر إذا أجنب ثم أسلم وبين الكافرة إذا حاضت وانقطع دمها ثم أسلمت. هذا هو الكلام في طرف الإيلاج.
جئنا إلى طرف انفصال المني؛ يجب أن يعلم بأن المني ماء دافق خاثر أبيض ينكسر منه الذكر هو المذكور في عامة الكتب، وزاد في (الشافي): ويخلق منه الولد، فمتى كان حركته- يعني مفارقته عن مكانه- وخروجه عن شهوة، سواء كان بمس أو نظر أو فكرة، أو ما أشبه ذلك من الملاقاة وغيرها يجب الغسل بلا خلاف، ومتى كان مفارقته عن مكانه وخروجه لا عن شهوة لا يوجب الغسل عند علمائنا المتقدمين وعامة مشايخنا المتأخرين.
وحكي عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه قال: يجب الغسل بخروج المني على كل حال، وهو قول الشافعي: حتى إن من حمل شيئًا، فسبقه المني، فلا غسل عليه عند علمائنا المتقدمين وعامة المتأخرين، خلافًا لعيسى والشافعي. وكذلك الرجل إذا أصاب الضرب ظهره فسبقه المني لا غسل عليه عند عامة علمائنا المتقدمين، وعامة المتأخرين خلافًا لعيسى والشافعي.
ومتى كان مفارقته عن مكانه عن شهوة وخروجه لا عن شهوة، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجب الغسل، وعلى قول أبي يوسف لا يجب الغسل، فالعبرة عند أبي حنيفة ومحمد لانفصال المني عن مكانه على وجه الدفق والشهوة، لا لظهوره على وجه الشهوة، وعند أبي يوسف العبرة لخروجه وظهوره على وجه الشهوة. وثمرة الخلاف تظهر في مسائل:
إحداها: إذا استمتع بالكف فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافًا لأبي يوسف.
الثانية: إذا جامع امرأته فيما دون الفرج ثم انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافًا لأبي يوسف.
الثالثة: إذا احتلم فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة استيقظ وأخذ بإحليله حتى انكسرت شهوته ثم خرج المني.
الرابعة: إذا جامع امرأته واغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المني وجب الغسل عندهما، وكذلك إذا خرج مذي، وأجمعوا على أنه إذا بال ثم اغتسل أو نام ثم خرج المني أنه لا غسل عليه.
وفي (الأجناس): لو جامع واغتسل قبل أن يبول وصلى، ثم بال فإنه يعيد الغسل عندهما ولا يعيد الصلاة بلا خلاف، وإذا بال فخرج من ذكره مني، فإن كان ذكره منتشرًا فعليه الغسل، وإن كان منكسرًا فعليه الوضوء.
وفي (مجموع النوازل): المرأة؛ إذا اغتسلت بعدما جامعها زوجها ثم خرج منها مني الزوج، فعليها الوضوء دون الغسل؛ لأن الخارج ليس ماءها بل هو حدث.
ومما يتصل بطرف خروج المني:

.مسائل الاحتلام:

إذا استيقظ الرجل ووجد على فراشه بللًا وهو يذكر احتلامًا، إن تيقن أنه مني أو تيقن أنه مذي أو شك أنه مني أو مذي، فعليه الغسل، وليس في هذا إيجاب الغسل بالمذي بل فيه إيجاب الغسل بالمني؛ لأن سبب خروج المني قد وجد وهو الاحتلام، فالظاهر خروجه إلا أن طبع المني الرقة بإطالة المدة، فالظاهر أنه مني إلا أنه رق قبل أن يستيقظ، وإن تيقن أنه ودي لا غسل عليه.
وإن رأى بللًا إلا أنه لم يتذكر الاحتلام، فإن تيقن أنه (مذي) لا يجب الغسل؛ لأن سبب خروج المني هاهنا لم يوجد، فلا يمكن أن يقال بأنه مني ثم رق لطول المدة، بل هو مذي حقيقة، والمذي لا يوجب الغسل وإن شك أنه مني أو مذي، قال أبو يوسف رحمه الله: لا يوجب الغسل حتى يتيقن بالاحتلام، وقالا يجب الغسل، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
وإذا تذكر الاحتلام ولم ير بللًا فلا غسل عليه لظاهر قوله عليه السلام: «من احتلم ولم ير بللًا فلا شيء عليه»، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: ذكر هشام في (نوادره) عن محمد رحمه الله: إذا استيقظ الرجل فوجد البلل في إحليله ولم يذكر حلمًا إن كان ذكره منتشرًا قبل النوم، فلا غسل عليه، إلا إذا تيقن أنه مني، وإن كان ذكره ساكنًا قبل النوم فعليه الغسل، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها غافلون، فيجب أن تحفظ.
إذا نام الرجل قاعدًا أو قائمًا أو ماشيًا ثم استيقظ ووجد بللًا فهذا وما لو نام مضطجعًا سواء، وإذا احتلم الرجل وانفصل المني عن مكانه إلا أنه لم يظهر على رأس الإحليل، فلا غسل عليه، لأن الخروج بهذا لا يتحقق، ألا ترى أنه لا يلزمه الوضوء بنزول البول إلى هذا الموضع.
المرأة إذا احتلمت، ولم تر بللًا روي عن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أنها إذا تذكرت الاحتلام والإنزال والتلذذ فعليها الغسل وإن لم تر بللًا، وبه أخذ بعض المشايخ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ولا يؤخذ بهذه الرواية؛ لأن النساء يقلن: إن مني المرأة يخرج من الداخل كمني الرجل، وفي ظاهر الرواية: أنه يشترط الخروج من الفرج الداخل إلى الفرج الظاهر لوجوب الغسل، حتى لو انفصل منها عن مكانه ولم يخرج عن الفرج الداخل إلى الفرج الخارج لا غسل عليها، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليهما.
وفي (صلاة ابن عبد الله): امرأة قالت...... حتى يأتيني في النوم مرارًا وأجد في نفسي ما أجد لو جامعني زوجي، وذكر (وجب) أنه غسل عليها.
رجل وامرأة ناما واستيقظا وجدا منيًا بينهما وكل واحد منهما ينكر الاحتلام وينكر أن المني منه، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: بوجوب الغسل عليهما وهو الاحتياط، ومن المشايخ من قال: إن (كان) ذلك الماء غليظًا أبيض فهو من الرجل، وإن كان رقيقًا أصفر فهو من المرأة، ومنهم من علل إن وقع طولًا فهو من الرجل وإن وقع مدودًا فهو من المرأة.
الرجل إذا صار مغشيًا عليه ثم أفاق ووجد مذيًا على فخذه أو ثيابه، فلا غسل عليه، وكذلك السكران إذا أفاق ووجد مذيًا على فخذه أو ثوبه، فلا غسل عليه، وليس هذا كالنوم والله تعالى أعلم.

.نوع منه في سبب وجوب الاغتسال:

اختلف المشايخ في سبب وجوب الاغتسال، قال بعضهم: سبب وجوبها الجنابة، وقال بعضهم: سبب وجوبها إرادة ما حرم عليه بسبب الجنابة، وسيأتي بيان ما حرم عليه بسبب الجنابة في النوع الذي يلي هذا النوع.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): أدنى ما يكفي في غسل الجنابة من الماء صاع لحديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كان يغتسل بالصاع، فقيل له: إن لم يكف؟ فغضب قال: لقد كفى من هو خير منكم، وأكثر شعرًا» والصاع ثمانية أرطال، كل رطل نصف مَنّ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، وهو قول الشافعي، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الصوم إن شاء الله، وهذا التقدير لماء الإفاضة فإن أراد تقديم الوضوء زاد مدًا، وكل ذلك ليس بتقدير لازم بل يستعمل من الماء بقدر ما يقع عنده أنه حصل التطهير، ولا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكنت أقول له: أبقِ لي وهو يقول لي: أبقِ لي».
وإذا أجنبت المرأة ثم أدركها الحيض فهي بالخيار إن شاءت اغتسلت؛ لأن فيه زيادة تنظيف وإزالة أحد الحدثين، وإن شاءت أخرت الاغتسال حتى تطهر؛ لأن الاغتسال للتطهير حتى تتمكن من أداء الصلاة، ألا ترى أن الجنب إذا أخر الاغتسال إلى وقت الصلاة لا يأثم، دل أن المقصود من الطهارة الصلاة، ومن لا يتمكن من الصلاة، فكان لها أن لا تغتسل.
وفي صلاة (فتاوى أبي الليث): ثمن ماء الاغتسال على الزوج، وكذا ماؤها عليه غنية كانت أو فقيرة. وفي وصايا الطحاوي: روي عن محمد بن سلمة أن على الزوج الماء الذي تغسل المرأة (به) ثوبها أو بدنها من الوسخ، وليس عليه أن يشتري لها ماء الوضوء والغسل كما لا يلزمه الدواء، قال محمد: وهكذا قول أصحابنا رحمهم الله، وقد قيل: ينبغي أن يجب عليه ماء الاغتسال، ولا يجب عليه ماء الوضوء؛ لأنه سبب لوجوب الاغتسال عليها، وليس سببًا لوجوب الوضوء عليها، بل وجوب الوضوء بإيجاب الله تعالى، وينبغي للجنب أن يدخل أصبعه في سرته إلا إذا علم أنه يصل الماء إليها من غير إدخال الأصبع، فحينئذٍ لا يلزمه ذلك.
المرأة إذا أجنبت ثم أدركها الحيض أو الحائض إذا أجنبت ثم طهرت حتى وجب عليها الاغتسال، فهذا الاغتسال يكون من الجنابة أو الحيض؟ حكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي محمد عبد الرحيم بن محمد الكرميني رحمه الله أنه كان يقول: اختلفت عبارات أصحابنا رحمهم الله: وظاهر الجواب أن الاغتسال يكون منهما جميعًا. وقال أبو عبد الله الجرجاني: يكون من الأول، ولا يكون من الثاني، وكذلك الرجل إذا رعف ثم بال، فإن الوضوء يكون من الأول لا من الثاني على قوله وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: إن كانا من جنسين متحدين يكون من الأول لا من الثاني، كما إذا بال ثم بال أما إذا كانا من جنسين مختلفين، فإنه يكون منها جميعًا، كما إذا رعف ثم بال.
وروي عن خلف بن أيوب أنه كتب إلى محمد بن الحسن رحمه الله يسأله عمن رعف ثم بال إن الوضوء يكون من الثاني أو من الأول؟ فكتب إليه أن الوضوء يكون منهما، ولهذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول أن الوضوء يكون منهما جميعًا.
وثمرة الخلاف إنما تظهر بمسألة، وصورتها: إذا قال الرجل: إن توضأت من الرعاف فامرأته طالق، فرعف ثم بال ثم توضأ، فإنه يقع الطلاق عليها على الأقوال كلها أما على أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه وجد الرعاف أولًا، وأما على قول الفقيه أبي جعفر وهو رواية عن أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، فلأن الوضوء منهما، وأما إذا بال ثم رعف ثم توضأ، فعلى قول أبي عبد الله الجرجاني لا يقع الطلاق عليها في هذه الصورة لأن شرط وقوع الطلاق عليها الوضوء من الرعاف والوضوء هاهنا وقع من البول عنده، ولأنه هو الأول وعلى الأقوال الأخر يقع الطلاق؛ لأن على الأقوال الأخر الوضوء منهما.
قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم رحمه الله: كنا نقول: الوضوء يكون بأغلظها حتى إن الرجل إذا رعف ثم بال فالوضوء يكون منهما لاستوائهما، فأما إذا رعف ثم أجنب أو بال ثم أجنب فالوضوء الذي يكون في الاغتسال من الجنابة لأنها أغلظ. ثم وجدنا رواية أبي حنيفة: أن الوضوء منهما. فرجعنا عن ذلك وأخذنا بقول أبي حنيفة والله أعلم.
ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه): أن الاغتسال على أحد عشر نوعًا، خمسة منها فريضة: الاغتسال من الحيض والنفاس، ومن التقاء الختانين، وغيبوبة الحشفة، ومن الاحتلام إذا أنزل، ومن إنزال المني عن شهوة دفعًا.
وأربعة منها سنّة: غسل يوم الجمعة وفي العيدين، والغسل يوم عرفة عند الإحرام. وواحد منها واجب وهو غسل الميت حتى لا تجوز الصلاة عليه قبل الغسل، والآخر مستحب وهو الكافر إذا أسلم، يريد بها: إذا لم يجنب قبل الإسلام فإنه يستحب له أن يغتسل.
وهاهنا فصل آخر، أن الكافرة إذا أسلمت بعدما انقطع دم الحيض والنفاس فإنه يستحب لها أن تغتسل، ولا يجب عليها ذلك، وإن كان انقطاع الدم بعد الإسلام فرض عليهم الغسل.
والكافر إذا أجنب قبل الإسلام فقد ذكرنا أن في وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، وذكرنا أن الصحيح أنه يجب وفرقنا بين الحيض وبين النفاس. وهاهنا فصلان آخران: أحدهما: الصبي إذا بلغ بالاحتلام. والثاني: الصبية إذا بلغت بالحيض هل يجب عليهما الغسل؟ وفي الفصلين جميعًا اختلاف المشايخ والاحتياط في القول بالوجوب والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:

.بيان أحكام الجنابة:

وإنها كثيرة: منها حرمة الصلاة لقوله تعالى: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل} معطوفًا على قوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43].
ومنها دخول المسجد وإنها ثابتة بالسنّة عندنا وهو قوله عليه السلام: «إني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض». وعند الشافعي بالكتاب وهو قوله تعالى: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل} [النساء: 43] حتى يجوز له الدخول في المسجد عنده على سبيل العبور دون القعود.
وعندنا لا يجوز له الدخول في المسجد أصلًا لا للعبور ولا للقعود لأنه لا فصل في السنة، والمراد من قوله تعالى: {إلا عابري سبيل} عندنا: المسافرون. سمّاهم الله تعالى بهذا الاسم لعبورهم على السبيل، كما أن المسافر يشبه ابن السبيل في المرور في السبيل.
ومنها حرمة الطواف بالبيت؛ لأن البيت في المسجد، ولا يحل له الدخول في المسجد فلا يحل له الطواف ضرورة. ومنها حرمة قراءة القرآن، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان نهى الجنب عن قراءة القرآن. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة، الآية وما دونها في تحريم القراءة سواء عند الكرخي؛ لأن الكل قرآن. وقيد الطحاوي حرمة القراءة بآية تامة؛ لأن المتعلق بالقراءة حكمان: أحدهما: جواز الصلاة به، والثاني: حرمة القراءة على الجنب في أَحَد حكمين وهو جواز الصلاة يفصل بين الآية وما دونها.
فكذلك في الحكم الآخر وهو حرمة القراءة على الجنب، وهذا إذا قصد القراءة، فإن لم يقصدها فلا بأس به نحو قوله: الحمد لله، على سبيل الشكر. وكذلك إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم إن قصد القراءة يكره، وإن قصد به افتتاح الكلام لا يكره، وكذلك إذا ذكر دعاء في القرآن وهو آية تامة يريد به الدعاء لا يكره.
ولا يكره له قراءة دعاء القنوت في ظاهر مذهب أصحابنا لأنه ليس بقرآن. وعن محمد رحمه الله أنه يكره لأنه قرآن عند بعض الصحابة. ولا يكره التهجي بالقرآن لأن التهجي بالقرآن ليس بقراءة القرآن. ويكره له قراءة التوراة والزبور والإنجيل. ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في (الفتاوى): ولا يمس المصحف ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن ولا الدرهم المكتوب (عليه) سورة الإخلاص لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79].
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بعض القبائل: «لا يمس القرآن حائض ولا جنب». وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض وإن مسّ المصحف بغلافه فلا بأس به. والكلام في الغلاف في حق الجنب نظير الكلام فيه في حق المحدث. وإذا مسه بكمه أو ذيله فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في المحدث.
وإذا أراد أن يغسل الفم ويقرأ القرآن أو يغسل اليد ويمس المصحف، فإنه لا يحل له القراءة والمس لأن الجنابة لا تتجزأ زوالًا كما لا تتجزأ ثبوتًا. ويكره مسّ كتب التفسير ومس كتب الفقه وما هو من كتب الشريعة، وقد ذكر هنا الوجه في حق المحدث، والمشايخ المتأخرون توسعوا في مس كتب الفقه.
ويكره له كتابة القرآن عند محمد، وهو قول الشعبي ومجاهد وابن المبارك لأنه في حكم الماس للصحيفة. وبقوله أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وكذلك الفقيه أبو جعفر أفتى بقوله إلا أن يكون أقل من آية، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا كانت الصحيفة على الأرض؛ لأنه ليس بحامل للقرآن والكتابة توجد حرفًا حرفًا. وإذ أراد الجنب الأكل فينبغي له أن يغسل يديه ثم يتمضمض ثم يأكل والله أعلم.

.الفصل الرابع في المياه التي يجوز التوضؤ بها والتي لا يجوز التوضؤ بها:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه في الماء الجاري:

ويجوز التوضؤ بالماء الجاري، ولا يحكم بتنجسه لوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وبعدما تغير أحد هذه الأوصاف وحكم بنجاسته لا يحكم بطهارته ما لم يزل ذلك التغير بأن يزاد عليه ماء طاهر حتى نزيل ذلك التغير، وهذا لأن إزالة عين النجاسة عن الماء غير ممكن فيقام زوال ذلك التغير الذي حكم بالنجاسة لأجله مقام زوال عين النجاسة.
والدليل على أن العبرة في الماء الجاري لتغير إحدى الأوصاف التي ذكرنا ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الأشربة: إذا صُبّ حِبٌّ من الخمر في الفرات ورجل أسفل منه يتوضأ به أجزأه إذا لم تتغير إحدى أوصاف الماء.
بعد هذا الكلام في تحديد أدنى ما يكون من الجريان في حق جواز الوضوء، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إذا كان يذهب بالنجاسة قبل اغتراف الغرفة الثانية فهو ماء جار.
وقال بعضهم: إذا كان بحال لو ألقي فيه تبن أو ورق يذهب به فهو جاري. وقال بعضهم: إذا كان بحال لو اغترف المتوضئ في أعمق موضع من الجدول انقطع جريانه ثم امتلأ حتى يجري فهو ليس بجار وإن لم ينقطع فهو جار، وقال بعضهم: إن كان بحال لو وضع إنسان يده عليه عَرْضًا فقطع الجري فهو ليس بجار، وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط.
قال بعضهم: إن كان بحال لو رفع باليد حسر ما تحته وينقطع الجريان فهو ليس بجار وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط الاغتراف من أعمق المواضع إذا كانت النجاسة غير مرئية فإن كانت النجاسة مرئية فلا يتوضأ من الموضع الذي فيه النجاسة وإنما يتوضأ من موضع آخر، هكذا قاله بعض المشايخ وبعض المشايخ قالوا: إن توضأ من الموضع الذي وقع فيه النجاسة بقرب النجاسة جاز إذا لم يتغير أحد أوصاف الماء.
وإذا جلس الناس صفوفًا على شط نهر وتوضئوا بمائه جاز وهو الصحيح، وفي (النوازل): إذا كانت مياه تجري ضعيفًا فأراد إنسان أن يتوضأ منه فإن كان وجهه إلى مورد الماء يجوز، وإن كان وجهه إلى مسيل الماء لا يجوز إلا أن يمكث بين كل غرفتين مقدار ما يذهب الماء بغسالته، قالوا: ودلت المسألة على فضيلة أهل..... حيث تجوز طهارة عالمهم وباطنهم.
وفي (نظم الزندويستي) إذا توضأ في الماء الجاري وهو كثير أو قليل فالأفضل أن يجعل يمينه إلى أعلى الماء، يعني إلى مورد الماء ويأخذ الماء من الأعلى، وإن لم يفعل كذلك وجعل يمينه أسفل الماء يعني إلى مسيل الماء وأخذ الماء من الأسفل ففي الماء الكثير يجوز، وفي الماء القليل ينبغي أن يتوضأ على التأني والوقار حتى يمر عنه الماء المستعمل وهذا إذا كان الماء لا يجري جريًا عاجلًا.
وأما إذا كان جريًا عاجلًا يجوز كيفما فعل، ومشايخ بخارى توسعوا في ذلك وجوزوا كيفما توضأ لعموم البلوى إذا كان الماء كثيرًا، أما النهر إذا انقطع من أعلاه وبقي الجريان في أسفل النهر فتوضأ رجل من أسفل النهر جاز لأنه ماء جار. هكذا ذكر في (واقعات الناطفي) وفيه أيضًا عن أبي يوسف ساقية صغيرة فيها كلب ميت قد سدّ عرضها فجرى الماء عليه لا بأس بالتوضؤ أسفل منه، وذكر الناطفي هذه المسألة بعينها في (الأجناس) وأجاب بما أجاب في (الواقعات) ثم قال: وعندي أن هذا قول أبي يوسف.
وأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله لا يجوز التوضؤ به، وفي (الطحاوي) و(النوازل): لو كان القدر الذي يلاقي الجيفة من الماء دون الذي لا يلاقي الجيفة جاز التوضؤ أسفل منه، وإن كان مثله أو أكثر لا يجوز، قال: وإذا كانت الجيفة تُرى من تحت الماء لقلة الماء لا لصفائه كان الذي يلاقيها أكثر إذا كان سدّ عرض الساقية فيها، وإن كانت لا ترى أو لم تأخذ أقل من النصف لم يكن للذي يلاقيها أثر.
ونظير ما ذكر في (الطحاوي) و(النوازل): ماء المطر إذا جرى في ميزاب السطح وكان على السطح عذرة فالماء طاهر لأن الماء الذي يجري على غير العذرة أكثر، وإن كانت العذرة عند الميزاب إن كان الماء كله أو أكثره أو نصفه يلاقي العذرة فهو نجس وإلا فهو طاهر.
وإن كان على السطح نجاسات كثيرة إن كان أكثر الماء يجري على النجاسة أو نصفه فالماء نجس، وإن كان أقل الماء يجري على النجاسة فالماء طاهر، وقال محمد رحمه الله: إن كانت النجاسة في جانب واحد من السطح فالماء طاهر، وكذلك إذا كان في جانبين. وإن كان في ثلاث جوانب فالماء نجس.
ورأيت مسألة المطر في بعض الفتاوى وكان المذكور: قال مشايخنا: ماء المطر ما دام يُمطر فله حكم الجريان حتى إذا أصاب العذرات على السطح ثم أصاب ثوبًا لا يتنجس إلا أن يتغير. وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله): المطر إذا أصاب السقف وفي السقف نجاسة فوكف وأصاب الماء ثوبًا ننظر إن كانت النجاسة في جميع السقف فجميع ما وكف السقف طاهر فيكون الغالب الماء الطاهر فلا يحكم بنجاسته وعامة السقف طاهر، فما وكف من السقف لا يكون نجسًا وتكون العبرة للغالب كماء جار في بعضه نجاسة والغالب هو الطاهر. وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يزيف هذا التفصيل وكان يقول: النجاسة وإن كانت في بعض السقف إلا أن الماء قدم عليها فتنجس فهذا ماء جار نجس ولكن الصحيح أنه ينظر في الذي يسيل من السقف، إن كان مطرًا دائمًا لم ينقطع بعد فما سال من المنقب فهو طاهر، وأما إذا انقطع المطر وسال من المنقب شيء فما سال فهو نجس.
وسئل الفقيه أبو جعفر عن كلب ميت احتبس في نهر والماء يجري في جانبي الكلب قال؛ ينظر إن كان للماء الذي يجري في جانبي الكلب قوة الجريان، ومعناه: أنه لو انفرد يجري بنفسه، يجوز التوضؤ به فكذلك إذا كان الماء يجري على أعلى كلب يجوز التوضؤ به. وإن كان جميع الماء يجري في جميع الكلب وليس في جانبيه قوة الجريان فإنه نجس.
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفرق بينهما ويقول الماء نجس في الأحوال كلها. وفي (المنتقى): إذا كان يظن النهر نجسًا، وهذه المسألة نظير مسألة (الطحاوي) و(النوازل) والله أعلم.

.نوع آخر في الحياض والغدران والعيون:

يجب أن يعلم أن الماء الراكد إذا كان كثيرًا فهو بمنزلة الماء الجاري لا يتنجس جميعه بوقوع النجاسة في طرف منه إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. على هذا اتفق العلماء وبه أخذ عامة المشايخ، وإذا كان قليلًا فهو بمنزلة الحباب والأواني يتنجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم تتغير إحدى أوصافه. وقال مالك: لا يتنجس ما لم تتغير إحدى أوصافه. وقال الشافعي رحمه الله: فيما دون القلتين مثل قولنا، وإذا بلغ قلتين وزيادة مثل قول مالك.
والقلتان: خمس قرب كل قربة خمسون منًا فتكون الجملة مائتان وخمسون، وقد قيل الجملة ثلاثمائة. وحجة مالك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من النجاسات فقال عليه السلام: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» فالنبي عليه السلام نفى تنجس المياه إلا بتغير إحدى الأوصاف الثلاثة.
حجة الشافعي: قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثًا». حجتنا على مالك قوله عليه السلام «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم اليسير ولا يغتسلن فيه عن جنابة»، والغسل عن الجنابة لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن الماء الراكد اليسير يتنجس بوقوع النجاسة فيه على كل حال وإلا لم يكن لهذا النهي معنى وفائدة. قال عليه السلام: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في إناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده». أمر بغسل اليد بطريق الاحتياط حال توهم النجاسة، وإدخال مثل هذه اليد في الإناء لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن النجاسة إذا كانت متيقنة يتنجس الماء على كل حال وإلا لم يكن لهذا الاحتياط حالة التوهم معنى، ولأن القياس في الكثير أن يتنجس أيضًا لأن الجزء الذي لاقاه النجاسة يتنجس بملاقاة النجاسة إياه كما في غير الماء من المائعات وإذا تنجس ذلك الجزء والذي يجاوره ثم وثم حتى يصير الكل نجسًا كما في غير الماء من المائعات لكن تركنا القياس في الكثير لأجل الضرورة لأن صون الكثير بالأواني غير ممكن والضرورة في القليل لأن صون القليل بالأواني ممكن فنعمل في القليل بالقياس وأما حديث بئر بضاعة فليس بثابت، ولو ثبت فهو محمول على أن ماءه كان كثيرًا، أو كان جاريًا فإنه روي أنه كان يُسقى منه خمسة بساتين أو سبعة بساتين.
وحجتنا على الشافعي أن رسول الله عليه السلام حكم بنجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة فيه وكذلك الصحابة أجمعوا على نجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة وفيه، ماء البئر في العادة تكون أكثر من مائتين وخمسين منًّا. وأما ما تعلق به الشافعي رحمه الله قلنا: لا يصح التعلق به من وجوه فإن في سنده ضعفًا، روي عن علي بن المديني إسناد البخاري أنه قال: لا يصح هذا الحديث عن رسول لله عليه السلام وفي متنه اضطراب، روي «إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثًا» وروي «إذا بلغ الماء أربعين قلة»، والقلّة مجهولة تذكر ويراد بها قامة الرجل، وتذكر ويراد بها رأس الجمل وتذكر ويراد بها الجرة، فلا يتعين البعض إلا بدليل، وقوله «لا تحمل خبثًا» يحتمل معنيين. يحتمل ما قاله الشافعي، ويحتمل معنى الضعف، يعني لا يحتمل النجاسة لضعفه فيتنجس لقلته كما يقال: فلان لا يحتمل الضرب أي يضعف عن تحمل الضرب، وهذه الدابة لا تحتمل هذا الحمل أي لا تطيق حمله، فلا يصح التعليق...، وعن أبي يوسف في تأويل الحديث أن تكون عينًا تنبع وهو مقدار القلتين وهو جار ولها معان فتوضأ رجل.... فلا بأس به لأنه في معنى الماء الجاري.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر) رحمه الله: وقال بعض المتأخرين: الوضوء بالماء الراكد لا يجوز وإن كان عشرًا في عشر أو أكثر منه، ووجه ذلك: أنا أجمعنا على أن الحوض إذا كان أقل من عشر فإنه لا يجوز التوضؤ فيه وإنما لا يجوز لأن بالاستنجاء يصير الماء نجسًا لكونه قليلًا فيحصل الوضوء بالماء النجس.
وإذا كان عشرًا في عشر فبالاستنجاء يتنجس من ذلك الجانب مقدار ما يتنجس إذا كان أقل من عشرة من ذلك الجانب، فيحصل التوضؤ بالماء النجس ولكن هذا ليس بشيء لأن فيه كلام أن النجاسة إذا كانت غير مرئية هل يتنجس موضع وقوع النجاسة وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى..
وإن سلمنا ذلك إلا أنه لا يطهر بالتحريك في حالة الاغتراف لأن الماء النجس يطهر بالاختلاط بالماء الطاهر، ألا ترى أن الماء الراكد في النهر إذا تنجس فنزل من أعلاه ماء طاهر وأجراه وسيّله فلا يطهر، وإنما يطهر باختلاط بالماء الطاهر، وبورود الماء الطاهر عليه فكذا هنا ما بقي من الماء طاهرًا واردًا على ما تنجس توسعة الأمر على الناس.
ثم لابد من حد فاصل بين القليل والكثير فنقول: إذا كان الماء بحيث يخلص بعضه إلى بعض بأن تصل النجاسة من الجزء المستعمل إلى الجانب الآخر كان قليلًا، وإن كان لا يخلص كان كثيرًا.
وإذا اشتبه الخلوص فالجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يخلص، ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله في الكتب المشهورة بأن الخلوص يعتبر بالتحريك إذا حرك طرف منه إن لم يتحرك الطرف الآخر فهو مما لا يخلص، وإن تحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، فنستدل بوصول الحركة إلى الجانب الآخر على أن النجاسة وصلت إليه، وتقدم وصول الحركة على أن النجاسة لم تصل إليه، وهذا لأنه تقدر معرفة الخلوص بوصول عين النجاسة لأن من النجاسات مما لا يرى وصوله إلى الجانب الآخر كالبول والخمر فيعتبر الوصول بشيء آخر.
فأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله اعتبروا الخلوص بالتحريك، والمتأخرون اعتبروا الخلوص بشيء آخر، فعن أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله أنه قال: إن كان الماء بحال لو اغتسل فيه وتكدّر الجانب الذي اغتسل فيه وصلت الكدرة إلى الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض، وأبو حفص الكبير رحمه الله اعتبر الخلوص بالصبغ فقال يلقى فيه الصبغ من جانب، فإن أثر الصبغ في الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض.
وأبو سليمان الجوزجاني رحمه الله كان يقول: إن كان عشرًا في عشر فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، وإن كان أقل من ذلك فهو مما يخلص، وعن محمد رحمه الله في (النوادر) أنه سئل عن هذه المسألة فقال: إن كان مثل مسجدي هذا فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فلما قام مسح مسجده فكان ثمان في ثمان في رواية، وعشرًا في عشر في رواية، واثني عشر في اثني عشر في رواية، وأكثر مشايخ بلخ على أنه إن كان خمسة عشر في خمسة عشر لا تبقى فيه شبهة، وإن كان ثمانية يحتاط فيه، وعامة المشايخ أخذوا بقول أبي سليمان وقالوا: إذا كان عشرًا في عشر فهو كبير، وبعضهم اعتمدوا على التحريك لأنه تعذر اعتبار الكدرة والصبغ لأن في النجاسة ما (لا) يرى نحو البول والخمر، فيصل إلى الجانب الآخر قبل وصول اللون والكدرة إليه لأن قدر الصبغ يتفاوت، والكدرة قد تكون وقد لا تكون وتعذر اعتبار المساحة لأن الروايات فيه اختلفت عن محمد، وقد صح أنه رجع عنه فيعتبر التحريك.
بعد هذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يعتبر التحريك بالاغتسال لأن حاجة الإنسان إلى الغسل في المياه الجارية والحياض أكثر من حاجته إلى الوضوء، فإن الوضوء يكون في البيوت غالبًا.
وفي رواية أخرى عنه يعتبر التحريك بالوضوء لأن التحريك بالوضوء أخف، ومبنى الماء في حكم النجاسة على الخفة دفعًا للضرورة، فإن القياس أن يتنجس الكثير، ولكن سقط حكم النجاسة عن الكثير تخفيفًا فلما اعتبر التخفيف في أصل الماء كنّا نعتبر التخفيف في التحريك، وعن محمد رحمه الله أنه يعتبر التحريك بغسل اليد لأن التحريك باليد أخف.
قال مشايخنا: وإنما يعتبر تحريك الجانب الآخر من ساعته لا بعد المكث، ولا يعتبر نفس التحرك وحباب الماء، فإن الماء وإن كثر يعلو الحباب ويتحرك، وإنما الشرط أن يرتفع وينخفض من الجانب الآخر من ساعته، وبنحوه روى الحسن عن أبي حنيفة.
جئنا إلى بيان مقدار العمق فنقول: ذكر المعلى في (كتابه): أنه ينبغي أن يكون عمقه قدر ذراعين، وهذا على قول من يعتبر التحريك بالاغتسال لأن على قوله: ينبغي أن يكون الماء بحال يتأتى فيه الاغتسال وذلك قدر ذراعين. وقال بعضهم قالوا: اشترط أن يكون بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه لا ينحسر ولا يظهر ما تحته، وقال بعضهم: يشترط أن يكون بحال لو حُرك وجه الماء لا يتكدر ماء وجه الأرض.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي بكر بن حامد رحمه الله أنه قال: قدّر مشايخنا العمق بأربعة أصابع مفتوحة.
ثم الحوض إذا كان كبيرًا بحيث لا يخلص بعضه إلى بعض حتى وقع فيه نجاسة حتى لا يتنجس جميعه هل يتنجس شيء منه؟ فهذا على وجهين: أما إن كانت النجاسة مرئية أو غير مرئية.
فإن كانت مرئية لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من ناحية أخرى كما في الماء الجاري.
بعد هذا اختلف المشايخ قال بعضهم: يحرك الماء بيده مقدار ما يحتاج إليه عند الوضوء والاستعمال فإن تحركت النجاسة لم يستعمل الماء من ذلك الموضع. وقال بعضهم: يتنجس حول البعرة مقدار حوض صغير وما رواه ظاهر.
وقال بعضهم: يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أن النجاسة لم تخلص إلى هذا الموضع توضأ وشرب منه. ويبنى على هذا ما إذا توضأ في بعضه فوجد في النجاسة بعدما فرغ من الوضوء.
وأما إذا كانت النجاسة غير مرئية بأن بال فيها إنسان واغتسل فيها جنب، حكي عن مشايخ العراق أنهم قالوا: لا فرق بين النجاسة المرئية وغيرها فإنما يجوز له التوضؤ من جانب آخر. ومشايخ بخارى ومشايخ بلخ رحمهم الله فرقوا بين المرئية وغيرها فقالوا: في غير المرئية يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة كما يتوضأ من الجانب الآخر بخلاف المرئية لأن الحوض الكبير بمنزلة الماء الجاري.
والجواب في الماء الجاري على هذا الوجه: إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من الموضع الذي وقعت فيه النجاسة ويتوضأ من موضع آخر، وإن كانت غير مرئية يتوضأ من أي جانب شاء، بدليل مسألة كتاب الأشربة وقد مرّ ذكرها.
وينبني على هذا ما إذا غسل وجهه في حوض كبير فسقط غسالة وجهه في الماء فرفع الماء في موضع الوقوع قبل التحريك. قالوا على قول أبي يوسف لا يجوز ما لم يتحرك الماء؛ لأن الذي وقع فيه الماء مستعمل، والماء المستعمل عنده نجس. وإلى هذا القول كان يميل القاضي الإمام أبو جعفر الأستروشني رحمه الله.
وغيره من مشايخ بخارى جوزوا ذلك وجعلوا كالماء الجاري الكثير لما توسعوا فيه لعموم البلوى.
ومن هذا الجنس مسألة أخرى وصورتها: إذا كانت به قرحة فغسل الدماء أو القيح فيها أو غسل النجاسة عن موضع من أعضائه أو ثوبه أو استنجى ودفع ذلك في الماء، أما إذا تغير الماء لا شك أنه يتنجس موضع التغير، وإن لم يتغير يدخل فيه شبهة (في) قول أبي يوسف رحمه الله.
وفي (أجناس الناطفي) أن من اغتسل من حوض فلا حرج أن يتوضأ في ذلك المكان، وليس لرجل أن يغتسل في الحوض الكبير بناحية الجيفة، وإذا كان الماء في... أو خندق وله طول مثلًا مائة ذراع وعرضه ذراع أو ذراعان فاعلم بأن في جنس هذه المسألة أقوال ثلاثة، على قول أبي سليمان الجوزجاني يجوز التوضؤ منه. من غير تفصيل به ولو وقع فيه نجاسة يتنجس وطول عشرة أذرع. وقال محمد بن إبراهيم: الكبير إن كان هذا الماء مقدار ما لو جعل في حوض عرضه عشرة في عشرة ملأ الحوض وصار عمقه قدر شبر يجوز التوضؤ فيه وإلا فلا، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر طرخان يقول: لا يجوز الوضوء فيه وإن كان من بخارى إلى سمرقند، فقيل له فما الحيلة في جواز الوضوء منه، قال يحفر حفيرة قريبًا من الخندق ثم يحفر نهيرة من الخندق إلى الحفرة حتى يسيل الماء من الخندق إلى الحفيرة في النهيرة فيصير الماء في الخندق جاريًا فيتوضأ إن شاء من الخندق وإن شاء من النهيرة وهذه حيلة حسنة.
الحوض الكبير إذا تجمد فثقب إنسان ثقبًا فتوضأ فهذه المسألة على أربعة أوجه:
الوجه الأولى: أن يخرج الماء من الثقب وصار على وجه الجمد والجواب فيه كالجواب فيما إذا كان على وجه الأرض من اعتبار العرض والطول والعمق.
الوجه الثاني: أن يكون الماء تحت الجمد منفصلًا عن الوجه وفي هذا الوجه يجوز التوضؤ منه ويكون الجمد كالسقف.
الوجه الثالث: أن يكون الماء تحت الجمد إلا أنه متصل بالجمد، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ بعضهم اعتبروا الثقب وقالوا: إن كان ماء الثقب كثيرًا على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به، وما لا فلا، وبعضهم اعتبروا جملة الماء وقالوا: إذا كان جملة الماء كثيرًا على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به وما لا فلا، وبه كان يفتي عبد الله بن المبارك والشيخ الإمام الزاهد أبو حفص البخاري رحمهما الله.
وعلى هذا جملة التوابيت التي في المشارع، فعند بعض المشايخ يعتبر جملة الماء، وعند بعضهم: بقية ماء التوابيت إذا كان الماء متصلًا بالألواح، واتصال ماء المشرعة بالماء الخارج منها لا ينفع كحوض كبير شعب منه حوض صغير فإنه لا يجوز التوضؤ من الحوض الصغير، وإن كان ماء الحوض الصغير متصلًا بماء الحوض الكبير، وكذلك لا يعتبر اتصال المشرعة بما تحتها إذا كانت الألواح مشدودة. وإن كان الماء أسفل من الألواح المشرعة قلنا: يجوز التوضؤ.
والزندويستي رحمه الله اعتمد على الجواز في مسألة الجمد في هذه الصورة ولكن شرط تحريك الماء في كل مرة برفع الماء.
الوجه الرابع: أن يكون الماء في الثقب كالماء في الطست، ذكر الزندويستي في (نظمه): أن التوضؤ منه لا يجوز عند عامة العلماء إلا إذا كان الثقب عشرًا في عشر بأن يتنجس الماء الذي في الثقب ثم ذاب الجمد ذكر هذا الفصل في (فوائد شمس الأئمة الحلواني رحمه الله)، وذكر أن الماء طاهر، وعن أبي يوسف رحمه الله في مشرعة يدخل فيها الماء ويخرج إلا أنه لا تظهر حركة الماء أنه هل يجوز التوضؤ فيها؟ وإن كان الماء لا يذهب كما وقع من يده ويدور فيها فلا خير فيه.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر) رحمه الله: لو توضأ في أعمدة القصب، فإن كان لا يخلص بعضها إلى بعض جاز، قال: واتصال القصب بالقصب لا يمنع اتصال الماء بالماء، وكذا لو توضأ من أرض فيها زرع وبعض الزرع متصل بالبعض يجوز. وإذا توضأ من غدير وعلى جميع وجه الماء... فقد قيل: إن كان بحال لو حرك يتحرك الماء يجوز.
إذا توضأ في حوض تجمد ماؤه إلا أنه رقيق ينكسر بتحرك الماء جاز وضوءه فيه، وإن كان الجمد على وجه الماء قطعا قطعًا؛ إن كان كثيرًا لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء به، وإن كان قليلًا يتحرك بتحرك الماء يجوز الوضوء به، بمنزلة ما لو كان على وجه الماء عود لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء فيه، وإن كان يتحرك يجوز.
الحوض إذا كان أقل من عشر في عشر لكنه عميق فوقعت فيه النجاسة حتى تنجس ثم انبسط وصار عشرًا في عشر فهو نجس لأن النجس لا يطهر بالانبساط والتفرق.
ولو وقعت فيه النجاسة وهو عشر في عشر ثم اجتمع الماء فصار أقل من عشر في عشر فهو طاهر في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله.
وفيه أيضًا: حوض هو عشر في عشر قل ماؤه ووقعت فيها نجاسة حتى تنجس ثم امتلأ الحوض ولم يخرج منه شيء لا يجوز التوضؤ به، لأنه كلما دخل الماء تنجس.
وفي (الجامع الصغير): سئل أبو نصر الدبوسي عن غدير كبير لا يكون فيه ماء في الصيف وتروث فيه الدواب والناس ثم يمتلئ في الشتاء ويرفع عنه الناس الجمد ويتوضئون منه قال: إن كان الماء الذي يدخل الغدير أولًا يدخل على مكان نجس فالماء والجمد نجس وإن كثر الماء بعد ذلك لأنه كلما دخل صار نجسًا فلا يطهر بعد ذلك وإن كان كثيرًا.
وإن كان الماء الذي يدخل الغدير أولًا يدخل على مكان طاهر ويستقر فيه حتى يصير عشرًا في عشر ثم انتهى إلى النجاسة فالماء والجمد طاهران لأن الماء صار كثيرًا قبل وصوله إلى النجاسة، والماء الكثير لا يتنجس باتصال النجاسة به ما لم يظهر فيه أثر النجاسة. وكذلك الغدير إذا قلّ ماؤه وصار أربعًا في أربع ووقعت فيه نجاسة ثم دخل الماء بأن صار الداخل عشرًا في عشر قبل أن يصل إلى النجاسة فهو طاهر وما لا فلا.
وفي (نظم الزندويستي) الحوض الكبير الخالي إذا بال فيه صبي أو تغوط ثم جاء الماء وملأه قال أكثر أهل بلخ وأبو سهل الكبير البخاري: الماء نجس، وقال الفقيه أبو جعفر والفقيه إسماعيل بن الحسن الزاهد البخاري: الماء طاهر ويجعل كأنه بال أو تغوط بعد ما قلّ. قال الزندويستي: وبه أخذ مشايخ بخارى، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد ألف مرة وقعت واقعة من هذا الجنس في زماننا ببخارى.
وصورتها: ماء المطر مرّ على النجاسات واجتمع بعد ذلك ودخل حوض خان وهو حوض كبير وماء المطر كان أكثر من ماء الحوض واتفقت أجوبة المفتين أن ماء الحوض لا يتنجس؛ لأن جميع ماء المطر لا يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة وإنما يتصل بدفعات وكل دفعة تتصل بماء الحوض، فماء الحوض غالب عليها فلا يتنجس ماء الحوض بها حتى لو صغرت يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة أكثر من ماء الحوض يتنجس ماء الحوض إذا كان أعلاه عشرة في عشرة، وأسفله أقل من ذلك وهو ماء يجوز التوضؤ والاغتسال فيه.
وإن نقص الماء حتى صار سبعًا في سبع لا يجوز التوضؤ منه وإن كان دون العشر أن يكون حوله ثمانية وأربعون ذراعًا لأن هذا أقصى ما قالوا فيه فكان أحوط.
والمعتبر عند بعض من اعتبر التقدير بالذراع في الحوض ذراع الكرباس، لا ذراع المساحة توسعة للأمر على المسلمين وعند بعضهم: المعتبر ذراع المساحة لأن هذا من الممسوحات، وذراع المساحة في الممسوحات، والأصح أن يقال: يعتبر في حق أهل كل زمان ومكان ذراعهم.
فإذا كان أعلى الحوض أقل من عشر في عشر وأسفله عشر في عشر أو أكثر ووقعت نجاسة في أعلى الحوض حكم بنجاسة الأعلى ثم انتقص الماء وانتهى إلى موضع هو عشر في عشر فتوضأ فيه إنسان أو اغتسل هل يجوز؟ صارت هذه المسألة واقعة الفتوى واختلفت فيه أجوبة المفتين، والأصح أنه يجوز التوضؤ والاغتسال فيه ويجعل كأن النجاسة وقعت فيها الآن.
وهو نظير الحوض المتجمد إذا كان الماء في ثقبه وبقيته أقل من عشرة في عشرة فوقع في الثقب نجاسة حكم بنجاسة ماء الثقب، ثم إذا سفل الماء كان ذلك الماء طاهرًا يجوز التوضؤ، والاغتسال منه كذا هنا.
حوض صغير تنجس ماؤه فدخل الماء الطاهر فيه من جانب وسال ماء الحوض من جانب آخر كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: كما سال ماء الحوض من جانب لآخر يحكم بطهارة الحوض، وهو اختيار الصدر الشهيد رحمه الله. وكان الفقيه أبو بكر بن سعد رحمه الله يقول: لا يحكم بطهارة الحوض حتى يخرج منه ثلاث مرات مثل ما كان في الحوض من الماء النجس، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، ومن المشايخ من شرط خروج مثل ما كان في الحوض من الماء النجس مرة واحدة.
حوض صغير يدخل الماء فيه من جانب ويخرج من جانب فتوضأ فيه إنسان، ذكر في (مجموع النوازل) عن الإمام أبي الحسن الرستفضني أنه قال: إن كان أربعًا في أربع فما دونه يجوز التوضؤ فيه، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز إلا في موضع دخول الماء وخروجه، لأن في الوجه الأول ما يقع فيه من الماء المستعمل يخرج من ساعته ولا يستقر فيه ولا كذلك الوجه الثاني. وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه سئل عن الماء. إذا كان خمسًا في خمس وكان يخرج الماء منه قال: إن كان يتحرك الماء من جوانبه ويستفيض بالحركة يجوز، وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله عن هذه المسألة وأجاب بالجواز مطلقًا. ففي الحوض الصغير إن كان يدخل فيه الماء من جانب ويخرج من جانب يكون هكذا لأن هذا ماء جار، والماء الجاري يجوز التوضؤ به وعليه الفتوى.
وإذا كان على شط النهر أو على شط الحوض مسيل لغدير يدخل فيه الماء من الحوض أو النهر والماء الذي فيه متصل بماء الحوض والنهر، إلا أن جريان الحوض لا يظهر فيه، فتوضأ رجل في ذلك الموضع، إن كان مقدار ما فيه من الماء من حيث الطول يبلغ ذراعين ونصف لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل ذلك تبعًا للحوض، وإن كان أقل من ذلك يجوز ويجعل ذلك تبعًا للحوض والنهر هكذا قيل. وقيل: لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل تبعًا للحوض والنهر على كل حال.
حوض صغير كرى رجل منه نهرًا وأجرى الماء فيه وتوضأ، ثم اجتمع ذلك الماء في مكان آخر فكرى منه رجل نهرًا آخرًا وأجرى فيه الماء وتوضأ جاز وضوء الكل إذا كان بين المكانين قليل مسافة وكذلك حفرتان يخرج الماء من إحداهما ويدخل في الأخرى فتوضأ إنسان فيما بينهما، فإن كان بين الحفرتين قليل مسافة فماء الحفرة الثانية طاهر، هكذا قال خلف بن أيوب ونصر بن يحيى، وإن لم يكن بينهما مسافة فماء الحفرة الثانية نجس. وكذلك في الحوض إذا لم يكن بين المكانين مسافة لا يجوز وضوء الثاني.
والفرق: أنه إذا كان بين المكانين مسافة فالماء الذي استعمله الأول يرد عليه ماء جار قبل اجتماعه في المكان الثاني فلا يظهر فيه حكم الاستعمال، فأما إذا لم يكن بينهما مسافة فالماء الذي استعمله الأول لا يرد عليه ماء جار قبل أن يجتمع في المكان الثاني فيظهر فيه حكم الاستعمال فلا يطهر بعد.
وعلى قياس مسألة الثقب ينبغي أن تشترط المسافة على قول بعض المشايخ. وصورة تلك المسألة: المسافر إذا كان معه ميزاب واسع ومعه إداوة من ماء يحتاج إليه ولا يتيقن وجود الماء لكنه على طمع من ذلك ماذا يصنع؟ قيل: ينبغي أن يأمر أحدًا من رفقائه حتى يصب الماء في طرف من الميزاب وهو يتوضأ، وعند الطرف الآخر من الميزاب إناء طاهر يجتمع فيه الماء فإنه يكون الماء طاهرًا وطهورًا.
هذا قول بعض المشايخ، وبعض المشايخ رفضوا ذلك وقالوا: الماء بالجري إنما لا يصير مستعملًا إذا كان له مدد العين والنهر وما أشبههما أما إذا لم يكن له مدد فلا، ويجوز للرجل أن يتوضأ من الحوض الذي يخاف أن يكون فيه قذر أو لا يستيقن به قبل أن يسأل عنه وليس عليه أن يسأل. ولا يدع التوضؤ حتى يستيقن أن فيه قذر للأثر.
وإذا أسِن ماء الحوض وهو كثير ولا يعلم بوقوع النجاسة فلا بأس بالتوضؤ منه لأن الماء قد يتغير بطول الزمان، وقد يتغير بوقوع الأوراق فيه فالتغير لا يدل على وقوع النجاسة فيه لا محالة، فيجوز التوضؤ منه والله أعلم.

.نوع آخر في ماء الآبار:

البئر عندنا بمنزلة الحوض الصغير يفسد ماؤه بما يفسد به ماء الحوض الصغير لأن عرض الآبار في الغالب يكون أقل من عشر في عشر حتى لو كان بئرًا عرضه عشرة في عشرة لا يحكم بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير لون الماء أو طعمه أو أثره.
وفي (نوادر ابن رستم) عن محمد رحمه الله أنه قال: اجتمعت أنا وأبو يوسف على أن نحكم على ماء البئر أنه لا يتنجس لأنه ماء جار ثم قلنا: وما علينا أن نأمر بنزح دلاء على ما جاءت به الأخبار حتى نتبع السلف فنكون قد حكمنا فيه بالأمرين. أشار إلى أن قضية القياس بالآبار والآبار تأتي من بعد، وإنما جاء ماء آخر جار لأنه ينبع من جانب ويستخرج من جانب.
وقيل: وأرادا بقولهما ماء جار ماء أُلْحق بالماء الجاري حكمًا لأجل الضرورة لأن التحرز عن وقوع النجاسة في البئر غير ممكن.
ثم ما يقع في البئر نوعان: نوع لا يفسد الماء، وهذا النوع في نفسه قسمان: قسم يستحب فيه نزح بعض الماء، وقسم لا يستحب فيه نزح شيء من الماء.
أما القسم الذي لا يستحب فيه نزح بعض الماء: الآدمي الطاهر، إذا دخل في البئر لطلب الدلو أو للتبرد وليس على أعضائه نجاسة وخرج منها حيًا وهذا جواب ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينزح عشرون دلوًا ويريد به بطريق الاستحباب لأن الماء يلاقي أعضاء الطهارة. وذلك يوجب استعمال الماء لو قصده، واعتبر هذا في إيجاب نزح أدنى ما ورد التقدير بنزحه، وذلك عشرون احتياطًا. وإن كان محدثًا ينزح أربعون لأن الحدث يزول به فصار حكمه أكثر من حكم المتطهر فضوعف في النزح فصار أربعين.
وكذلك سائر الجمادات الطاهرة كالخشب الطاهر والحجر الطاهر والمدر الطاهر وأشباهها لا يفسد الماء ولا يستحب نزح شيء منه. وكذلك كل حيوان طاهر السؤر، وما ينفصل عنه نحو الحمام وما أشبهه إذا وقع فيه وأُخرج حيًّا لا ينزح منه شيء.
وأما القسم الذي يستحب فيه نزح بعض الماء:
إذا وقع في البئر فأرة أو عصفور أو دجاجة أو سنور أو شاة وأخرجت منها حيّة لا ينجس الماء. ولا يجب نزح شيء منه، وهذا استحسان لأن هذه الحيوانات ما دامت حيّة فهي طاهرة. والقياس أن يتنجس البئر بوقوع واحد من هذه الحيوانات فيه وإن أخرج حيًا لأن سبيل هذه الحيوانات نجس فتحل النجاسة في الماء فيوجب تنجس الماء، لكن تركنا القياس لحديث رسول الله عليه السلام. وآثار الصحابة فإنهم لم يعتبروا نجاسة السبيل حتى يأمروا بنزح بعض ماء البئر بعد موت الفأرة ولو اعتبروا نجاسة السبيل لأمروا بنزح جميع الماء، ولكن مع هذا إن كان الواقع فأرة يستحب لهم أن ينزحوا عشرين دلوًا. وإن كان الواقع سنورًا أو دجاجة مخلاة يستحب لهم أن ينزحوا أربعين دلوًا؛ لأن سؤر هذه الحيوانات مكروه على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
والغالب أن الماء يصيب فم الواقع حتى لو تيقنا أن الماء لم يصب فم هذه الحيوانات لا ينزح شيء من الماء، فإن كانت الدجاجة غير مخلاة لا ينزح منها شيء. هذا الذي ذكرنا كلّه ظاهر الرواية.
وفي (النوادر) عن أبي يوسف رحمه الله في مسألة الشاة روايتان. في رواية قال: لا ينزح منه شيء كما هو جواب ظاهر الرواية. وفي رواية قال: ينزح ماء البئر كلّه، وعلق لهذه الرواية فقال: لأن البول الذي يجري على فخذيها ورجليها فيها، فكان المراد من الرواية الأخرى ومن ظاهر الرواية: إذا لم يكن على فخذيها ورجليها بول.
وفي (القدوري): الشاة التي تلطخ فخذها ببولها إذا وقعت في البئر قال أبو حنيفة رحمه الله: ينزح عشرون دلوًا لأن نجاسة بولها خفيفة توجب إظهار الحرمة في إيجاب نزح أدنى ما ورد التقدير به، وقال أبو يوسف: تنزح جميعها لأن أثر حرمة النجاسة يظهر في الثوب دون الماء، ألا ترى لو وقع فيه فرس فأخرج حيًا فعلى قولهما لا ينزح شيء منها لأن عينه طاهر عندهما وسؤره كذلك. وعلى قول أبي حنيفة ينزح منها دلاء بطريق الاستحباب لأنه طاهر في نفسه وهو لا يلطخ فخذه ببوله إلا أن سؤره مكروه على إحدى الروايتين عنه فينزح دلاء لهذا، ثم في كل موضع كان النزح مستحبًا لا ينقص من عشرين دلوًا، إليه أشار محمد رحمه الله في (النوادر) برواية إبراهيم عنه.
وصورة ما ذكر في (النوادر) فأرة أو هرة أو دجاجة مخلاة وقعت في بئر فأخرجت منها حيّةً قال: إن توضأ منه أجزأه وأحب إليّ أن ينزح منها عشرون دلوًا، ثم قال: ولا يكون النزح في شيء من الأشياء أقل من عشرين دلوًا. فقد قدّر النزح في هذه المسألة بعشرين دلوًا. والنزح في هذه المسألة بطريق الاستحباب ثم عطف عليه قوله:
ولا يكون النزح في شيء أقل من عشرين دلوًا، فيعلم بدلالة الحال أنه أراد بقوله ولا يكون النزح أقل من عشرين النزح المستحب. وقال أبو يوسف رحمه الله: النزح الواجب لا يكون أقل من عشرين، أما النزح المستحب يكون أقل من عشرين، ولا يكون أقل من عشرة، ألا ترى أنه قال في السّنور ينزح عشر دلاء أو نحو ذلك بطريق الاستحباب.
النوع الثاني: وهو الذي يفسد ماء البئر أقسام. قسم يفسد جميع ماء البئر لا محالة، وقسم يفسد جميع ماء البئر على أحد الاعتبارين، وقسم فيه اختلاف، وقسم يفسد بعض الماء.
أما القسم الأول: فسائر النجاسات، نحو بول الآدمي ورجيعه، وبول ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات على الاتفاق، وبول ما يؤكل لحمه على الخلاف. وسيأتي بيان النجاسات بعد هذا في فصل على حدة، وكذلك إذا وقع فيه خمر أو ما سواها من الأشربة التي لا يحل شربها وكذلك إذا وقع فيه خنزير أو سبع وجب نزح جميع الماء.
وكذلك لو دخل في البئر جنب أو محدث لطلب الدلو وعلى أعضائه نجاسة بأن لم يكن مستنجيًا أو كان مستنجيًا بالخذف ينزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع كافر في البئر وأخرج حيًّا نزح ماء البئر كلّه. ذكره في (كتاب الصلاة) للحسن.
وكذلك السقط إذا وقع في البئر قبل الغسل أو بعده ينزح ماء البئر كله، وذكر ابن رستم في السقط كذلك وفيما استهل قبل الغسل كذلك. وذكر فيما استهل بعد الغسل أنه لا يفسد الماء.
وفي (فتاوى أبي الليث) عن أبي القاسم الصفار: في الإنسان الميّت وقع في البئر يفسد الماء غسل أو لم يغسل. وكذلك إذا وقع شيء من الحيوانات في البئر ومات وانتفخت يجب نزح ماء البئر كله لأنه ينفصل منه بلّة نجسة وتلك البلّة مائعة. ومتى وقع في البئر نجس مائع وجب نزح ماء البئر كله لأن النجاسة تصير مجاورة للماء كله فيجب إخراج الكل، كما لو وقع فيه قطرة من خمر أو بول.
وعن هذا قلنا: لو وقع ذنب الفأرة في البئر يجب نزح جميع الماء، لأنها لا تخلو عن بلة وتلك البلّة بانفرادها، لو وقعت في الماء وجب نزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع فيها آدمي طاهر ومات فيها، يجب نزح ماء البئر كلّه انتفخ أو لم ينتفخ. فقد روي أنه وقع زنجي في ماء زمزم ومات فأمر عبد الله بن عباس بأن تُسدّ منابع الماء وينزح جميع الماء.
وكذلك لو كان الواقع في البئر شاة أو كلب ومات وانتفخ أو لم ينتفخ، وجب نزح الماء كله، لأن جثة الشاة والكلب تعدل جثة الآدمي وقد ورد الأثر الآدمي بنزح جميع الماء، وكذلك إذا كان الواقع بغل أو حمار أو فرس ومات وانتفخ أو لم ينتفخ ينزح جميع الماء.
القسم الثاني:
الحمار والبغل إذا وقع في البئر وأخرج قبل أن يموت، فإن أصاب الماء فمه ينزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه لا يجب نزح شيء لأن سؤرهما مشكل فيصير ماء البئر باتصاله بسؤرهما بمنزلة سؤرهما.
القسم الثالث:
الكلب إذا وقع في الماء فأخرج حيًّا؛ إن أصاب فمه الماء فهو من جملة القسم الأول يجب نزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه الماء فعلى قولهما يجب نزح جميع الماء لأن عين الكلب نجس عندهما حتى قالا: إذا وقع الكلب في ماء وخرج وانتفض فأصاب ثوبًا أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه. وعن أبي حنيفة رحمه الله في (الكتاب) إذا وقع في الماء ثم خرج حيًّا أنه لا بأس به، وهذه إشارة إلى أن عين الكلب ليس بنجس.
وقال أيضًا: في كلب وقع في ماء وخرج حيًّا، فاعجنوا منه فلا بأس بذلك، هكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي (الجامع الأصغر) إذا وقع الكلب في البئر لم يتنجس الماء. وقال غيره: يتنجس.
وفي (فتاوى أبي الليث رحمه الله): كلب مشى على الثلج فوضع إنسان رجله على ذلك الموضع أو جعل ذلك الثلج في المثلج فإن لم يكن رطبًا ويقال بالفارسية أن تاك لا بأس به، وإن كان رطبًا فهو نجس لأن عينه نجس، وكذا إذا مشى على طين وردغة فوضع إنسان رجله على أثر رجله تنجس رجله لأن عينه نجس.
وفيه أيضًا: الكلب إذا دخل الماء ثم خرج وانتفض فأصاب ثوب إنسان أفسده، ولو أصابه ماء مطر وباقي المسألة بحالها لم يفسده لأن في الوجه الأول الماء أصاب جلده وجلده نجس، وفي الوجه الثاني: أصاب شعره وشعره ليس بنجس. وذكر مسألة المطر في موضع آخر وفصلها تفصيلًا فقال: إن أصاب المطر جلده يمنع جواز الصلاة وإن لم يصب جلده لا يمنع جواز الصلاة.
القسم الرابع:
إذا ماتت فأرة أو عصفور في بئر فأخرجت حين ماتت قبل أن تنتفخ فإنه ينزح منها عشرون دلوًا إلى ثلاثين بعد إخراج الفأرة، والعشرون على سبيل الحتم، والزيادة على سبيل الاحتياط. ولو توضأ بماء البئر إنسان قبل نزح العشرين لا يجوز، وكان يجب أن يجوز التوضؤ به بعد إخراج الفأرة إذا لم تكن قد انتفخت؛ لأن الماء بوقوع النجاسة فيه، إنما تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة أجزاء الماء وإذا أخرجت الفأرة من ساعته لم يبق من أجزائها في الماء شيء، فكان يجب أن لا يحكم بنجاسة الماء متى أخرجت وهي ميتة كما لا يحكم بنجاسته متى أخرجت وهي حيّة إلا أنا تركنا القياس بالآثار.
روى القاضي الإمام أبو جعفر والفقيه أبو علي الحافظ بإسنادهما عن رسول الله عليه السلام أنه قال في الفأرة: «إذا وقعت في البئر فماتت فيه فأخرجت من ساعته أنه ينزح منها عشرون دلوًا أو ثلاثون». وعن علي رضي الله عنه أنه قال: في الفأرة إذا وقعت في البئر فماتت فيها فأخرجت: ينزح منها سبع دلاء، وفي رواية ينزح منها دلاء ولا يفسد بئر في هذه الرواية.
وفي رواية ينزح منها عشرون دلوًا أو ثلاثون، وفي رواية ينزح منها ثلاثون دلوًا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الفأرة إذا وقعت في البئر وماتت فيها إنه ينزح منها أربعون دلوًا فتركنا القياس بهذه الآثار. والسلف اتفقوا على هذا أيضًا فتركنا القياس اتباعًا لقولهم أيضًا.
وقد روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: ناظرت أبا حنيفة في الفأرة تموت في البئر فأخرجت من ساعته، فاتفق رأينا أنه لا يجب نزح شيء بعد إخراج الفأرة إلا أنا حكمنا بنجاسة الماء بالآثار، أشار إلى أنه ترك القياس بالآثار وأقوال السلف، ثم إنما قدرنا بالعشرين لأنها أوسط الأعداد التي ذكرت في الآثار، والقياس بعد ما جرى الحكم بنجاسة البئر أحد الشيئين.
أمّا ما قاله بشر أنه يطم البئر طمًا ويحفر في موضع آخر، ولا يحكم بطهارته بالنزح لأنه يتقاطر من الدلو في البئر وتلك القطرات نجسة فوجب تنجس الماء ولأن غاية ما في الباب أنه ينزح جميع الماء ويبقى الطين والحجارة نجسًا ولا يمكن كنسه ليغسل فيطم لهذا وما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أنه ينبغي أن يحكم بطهارة الماء إذا نزح منها دلو واحد أو اثنين أو ثلاثًا؛ لأنه كلما نزح من أعلاه يبقى في أسفله فيصير بمعنى الماء الجاري لكن تركنا كلا القياسين اتباعًا للآثار ولأقوال السلف على نحو ما بيّنا وهو معنى ما ذكر ابن رستم في (نوادره) لا يؤخذ في البئر شيء من القياس. ونوع من المعنى يدل على الفرق بين الماء الجاري والذي لا يخلص بعضه إلى بعض وبين ماء البئر: أن الشيء إذا أصابته النجاسة لا يحكم بطهارته إلا بإزالة النجاسة عن الموضع الذي أصابته كما في غير الماء، إلا أنه لا يمكن اعتبار حقيقة الإزالة في الماء فتعتبر الإزالة بقدر الإمكان، فقيل: متى كان الماء جاريًا ورد الطاهر على النجس وأزالها عن موضعها، فحكم بالطهارة بطريق زوال النجاسة بقدر الإمكان، وكذلك في الماء الذي لا يخلص بعضه إلى بعض فالطاهر اعتبر على النجس، لأن الجانب الذي وافته النجاسة إن يتنجس بالجانب الآخر بقي طاهرًا، فيرد على هذا الماء النجس ماء طاهر فيطهر بإزالة النجاسة عن موضعها، فكان هذا قولًا بإزالة النجاسة عن الماء بعد ما تنجس بقدر الإمكان.
ولا يمكن اعتبار هذا المعنى في البئر لأن ماء البئر لا يرد عليه ماء طاهر لأن جوانب البئر قد تنجس بوقوع النجاسة فيه، فلا يمكن اعتبار الإزالة عن موضع الإصابة إلى موضع آخر لم يصبه، فاعتبرت الإزالة بالإخراج من الوجه الذي ورد به الأثر.
ثم جعل في (الكتاب) العصفور بمنزلة الفأرة لأنه في الجثة مثل الفأرة، فالتقدير الوارد في الفأرة يكون واردًا في العصفور.
وإن كان الواقع في البئر سنورًا أو دجاجة فأخرجت ساعة ما ماتت ينزح أربعون أو خمسون، في (ظاهر الرواية) أربعون على طريق الحتم والإيجاب، وخمسون على طريق الاستحباب لأن السنور يعدل الدجاجة في الجثة وقد ورد الأثر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الدجاجة تموت في البئر أنه ينزح أربعون دلوًا فيكون واردًا في السنور دلالةً.
ففي (ظاهر الرواية) جعل جنس هذه المسائل على ثلاث مراتب: بعضهم أوجب نزح عشرين دلوًا إلى ثلاثين، وذلك العصفور والفأرة وأشباههما، وفي بعضهما أوجب نزح ماء البئر كلّه وذلك في الشاة والآدمي، وفي بعضها يجب نزح أربعين دلوًا أو خمسين وذلك السنّور والدجاجة ونحوهما.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله جعل جنس هذه المسائل على مراتب ثلاث ما ذكرنا والرابعة أوجب في الفأرة التي هي صغيرة الجثة وفي.... عشر دلاء والخامسة أوجب في الحمامة نزح ثلاثين دلوًا.
وإذا وقع في البئر بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم فأخرجت قبل التفتت لم يتنجس البئر وإن أخرجت بعد التفتت تنجس البئر وهذا استحسان والقياس أن يتنجس البئر على كلّ حال لأن هذه نجاسة وقعت في ماء قليل فتنجسه كما لو وقعت في وعاء ووعاء الماء قليل.
وللاستحسان وجهان: أحدهما: الضرورة والبلوى بيان ذلك أن آبار الفلوات ليس لها روشن حاجز والإبل والغنم تسقى بها فتبعر حولها فتسقط في البئر أو الرياح تلقيها في البئر، فلو حكمنا بالنجاسة لضاق الأمر على الناس.
والثاني: أن البعر شيء صلب متماسك لا يمازج الماء منه شيء، والمشايخ فيما بينهم اختلفوا منهم من اعتبر الوجه الأول ومنهم من اعتبر الوجه الثاني.
وأما سائر الأوعية فعلى الوجه الأول نجسه لأنه لا ضرورة ولا بلوى في سائر الأوعية، وعلى الوجه الثاني لا تنجسه لأن كونه صلبًا لا يختلف. وإذا خرج من الجب بعرة فعلى الوجه الأول يحكم بنجاسته وعلى الوجه الثاني لا يحكم بنجاسته. وأما إذا كان الواقع نصفًا فعلى الوجه الأول لا ينجسه لأن البلوى والضرورة لا تفصل بين الصحيح والنصف وعلى الوجه الثاني ينجسه لأن الماء تداخل أجزاؤه من الجانب الذي انكسر.
وأما إذا كان البعر رطبًا فنقول: في (ظاهر الرواية) لم يفصل بين الرطب واليابس وكأن في (ظاهر الرواية) اعتبر الوجه الأول لأن الريح الشديد يقوى على نقل الرطب وعليه كثير من المشايخ، وعن أبي يوسف رحمه الله في (الأمالي): أن الرطب بعيد وكأنه لم يعتبر الضرورة والبلوى في اليابس على هذه الرواية إنما اعتبر الوجه الثاني وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ.
ووجه هذه الرواية: أن الرطوبة تمزج بالماء وتلك الرطوبة نجسة وهذا القائل يقول: بأن الرطوبة التي على البيضة والسخلة نجسة إلا أنها إذا يبست طهرت، ومن اعتبر الوجه الأول في البعرة إذا كانت يابسة يقول: البلة التي على الرطبة طاهرة لأنها بلة الأمعاء وهذا القائل يقول: البلة التي على السخلة والبيضة طاهرة، وهذا كله إذا كانت البئر في المفازة.
فأما إذا كانت في المصر فقد اختلف المشايخ فيه فمن اعتمد على الوجه الأول يقول: نجسة لأنه لا ضرورة ولا بلوى في الأمصار لأن الآبار في الأمصار لا تخلو عن حاجز حولها فلا يقع فيها شيء ومن اعتمد على الوجه الثاني يقول: لا تنجسه، لأن الوجه الثاني لا يوجب الفصل بين المصر والمفازة، وهذا كلّه إذا كان البعر قليلًا.
وأما إذا كان كثيرًا فإنه ينجس الماء لأنه لا ضرورة في الكثير.
وقد اختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القليل والكثير، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن ما استكثره الناس فهو كثير وما استقلّه الناس فهو قليل، وعن محمد رحمه الله أنه إن كان بحال يأخذ ربع وجه الماء كان كثيرًا، وإن كان أقل من ذلك فهو قليل، ومن المشايخ من قال: إن كان بحال لو جمع يأخذ ثلث وجه الماء فهو كثير وما دونه قليل، ومن المشايخ من قال: إن أخذ وجه جميع الماء فهو كثير، ومنهم من قال: إن كان لا يخلو دلو عن بعرة فهو كثير، وإن كان يخلو فهو قليل.
ولم يذكر محمد رحمه الله في (الأصل) روث الحمار وخثي البقر، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: ينجسه على كل حال، يريد به قليلًا كان أو كثيرًا، رطبًا كان أو يابسًا، وقال بعضهم: إن كان من روث الحمار شيئًا مدور مستمسكًا فهو والبعر سواء، وكذلك إن كان من خثي البقر شيئًا صلبًا مستمسكًا فهو والبعر سواء.
وأكثر المشايخ على أنه تعتبر فيه الضرورة والبلوى إن كان فيه ضرورة وبلوى لا يتنجس، وإن لم يكن فيه ضرورة وبلوى يتنجس.
وفي (المنتقى): ابن سماعة عن أبي يوسف في روثة رطبة وقعت في بئر قال: ليستقى منها عشرون دلوًا، وإن وقعت وهي يابسة فابتلت وتفرقت فكذلك، وإن أخرجت يابسة فلا شيء وعن الحسن بن زياد رحمهما الله في السرقين والبعر والأخثاء إذا وقع في الماء لم يتوضأ منه وهو قول أبي يوسف ما خلا البعرة اليابسة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله في اليابس من البعر يقع في الإناء أو البئر لا بأس به إذا كانت واحدة أو اثنتين، وإن كان كثيرًا أفسد، وإن كان رطبًا فقليله وكثيره يفسد، وهذه الرواية توافق ما ذكرنا من رواية أبي يوسف.
والسرقين قليله وكثيره يفسد. وقال أبو يوسف رحمه الله: إلا أني استحسن شيئًا لا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان يسيرًا لا يفسده. وعن ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله في الأبعار الرطبة وبول ما يؤكل لحمه: إذا وقع في البئر يفسد الماء.
وإذا حلب شاة أو ضأنًا فوقع بعره في المحلب حكي عن المتقدمين من المشايخ أنهم توسعوا في ذلك، إذا رمي من ساعته، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد في (المنتقى) والمتأخرون اختلفوا فيه.
وإذا وقع في البئر خرء الحمام أو خرء العصفور لا يفسده، وهذا مذهبنا لما روي عن ابن مسعود رضي الله أنه ذرق عليه حمامة فأخذ حصاة ومسح بها وصلى ولم يغسل، وهكذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأن هذا الحيوان يذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه.
وهنا لو جعلناه مانعًا جواز الصلاة ضاق الأمر على الناس وبهذا الحرف يقع الفرق بين خرء هذه الحيوانات وبين خرء الدجاج لأن الدجاج لا يذرق من الهواء، فيمكن التحرز عن خرئه فلو جعلناه مانعًا جواز الصلاة لا يضيق الأمر عن الناس.
وأما خرء البط فقد ذكر القاضي صدر الإسلام رحمه الله في (شرح الجامع الصغير) وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الصلاة أن البط صنفان: صنف يعيش فيما بين الناس ولا يطير كالدجاج فيمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الدجاج.
وصنف لا يعيش فيما بين الناس ويطير ويذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الحمام والعصفور.
ولو وقع في البئر أكثر من فأرة واحدة فالمروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح عشرون دلوًا إلى الأربع. فإذا كانت خمسًا ينزح أربعون إلى التسع، فإذا كانت عشرًا ينزح ماء البئر كلّه. وعن محمد رحمه الله: أن الفأرتان كفأرة والثلاث كالحمامة.
وإذا توضأ رجل في بئر وصلى إمامًا ثم وجد فيها فأرة ميتة أو دجاجة ميتة فإن علم وقت وقوعها يعيد الوضوء والصلاة من ذلك الوقت بالإجماع؛ لأنه علم أنه صلى بغير وضوء، والصلاة بغير وضوء لا تجوز. أما إذا لم يعلم وقت وقوعها فالقياس أن لا يجب عليه إعادة شيء من الصلاة ما لم يتيقن أنه توضأ منها وهو فيها، سواء وجدها منتفخة متفسخة أو لا. وبه أخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إلا أن حنيفة رحمه الله استحسن وقال: إن وجدها منتفخة متفسخة يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وإن وجدها غير منتفخة يعيد صلاة يوم وليلة.
قال بشر قال أبو يوسف: كان قولي قول أبي حنيفة حتى رأيت يومًا في بستاني حدأة في منقارها فأرة ميتة طرحتها في بئر الماء فرجعت عن قوله. وفي (الإملاء) قال أبو يوسف: الفأرة كانت ميتة منتفخة ألقاها صبي ساعتئذٍ فلا يعيد الصلاة حتى يعلم أنه توضأ وهي فيها، وكذلك ما عجن من العجين بذلك الماء، القياس أن لا بأس بأكله ما لم يعلم أنه عجن به وهي فيه، وبه أخذ محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: إن كانت منتفخة متفسخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ ثلاثة أيام.
وإن كانت غير منتفخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ يوم، وبه أخذ أبو حنيفة. عن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في (الأصل) قوله كقول محمد، وفي (الإملاء) كقول أبي حنيفة.
وجه القياس: أنا تيقنا بطهارة الماء في الأصل وتيقنا بنجاسته في الحال وشككنا في نجاسته من قبل (أنه) إن وقعت وهي منتفخة لا تكون النجاسة ثابتة من قبل، وإن وقعت وهي حيّة ثم ماتت وانتفخت كانت النجاسة ثابتة من قبل فلا تثبت نجاسته من قبل بالشك.
وجه الاستحسان: أن الماء سبب لموت الحيوان الدموي فيه فيضاف إليه، وإن احتمل الموت بغيره كمن جرح إنسانًا ومات يحال بالموت على الجرح وإن احتمل الموت بغيره غير أنه كما وقع لا يموت فلابد من التقدير بشيء، فقدرنا الوقوع والموت بلا انتفاخ بيوم وليلة لأن له حكمًا في باب الصلاة من سقوط الترتيب وغيره، ولأن ما دونه ساعات لا يمكن التقدير بها، وقدرنا الوقوع والموت مع الانتفاخ بثلاثة أيام ولياليها لأن الانتفاخ لا يحصل بيوم واحد غالبًا ويحصل بثلاثة أيام، ألا ترى أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه يُصلى عليه في القبر إلى ثلاثة أيام، ولا يجوز بعدها لأن الصلاة شرعت على البدن لا على الأعضاء، وقبل الثلاث البدن لا يتفرق وبعد الثلاث يتفرق.
وإن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته، ستأتي هذه المسألة في كتاب الصلاة مع ما فيها من اختلاف الروايات إن شاء الله تعالى.
وفي (المنتقى): إبراهيم عن محمد: لو ماتت فأرة في ماء في طست ثم صب ذلك الماء في بئر ينزح عشرون دلوًا وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وذكر بعد هذه المسألة: لو ماتت فأرة في حُبّ فأريق في البئر ماء الحب، قال محمد رحمه الله ينزح من البئر أكثر من عشرين دلوًا وكما في الحب من الماء، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية قال: ينزح مثل ماء الحب وثلاثون دلوًا، وقال في رواية أخرى ينزح مثل ماء الحب وعشرون.
ثم في كل موضع وجب نزح جميع الماء ينزح حتى يغلبهم ماؤه ولم يقدر أبو حنيفة رحمه الله في الغلبة شيء وإنما يعمل فيه بغالب الظن، وهذا أصل ممهد له في مسائل كثيرة هكذا ذكر (القدوري)، ومعنى المسألة: أنه إذا وجب نزح جميع الماء وأخذوا في النزح فكلما نزحوا نبع من أسفله مثل ما نزحوا أو أكثر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عليهم أن ينزحوا مقدار ما يغلب على ظنهم أنه جميع ما كان فيه عند ابتداء النزح، وعنه في (النوادر) أنه ينزح منها مائتان، وفي رواية مائة، فإذا نزحوا هذا المقدار يحكم بطهارة البئر، وعن محمد رحمه الله في (النوادر) روايتان: في رواية قال: مائتا دلو أو ثلاثمائة. وفي رواية قال: مائتان وخمسون. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح مقدار ما كان فيها من الماء، وقيل في طريق معرفة ذلك أن يرسل قصبة في البئر ويُعلّم على مبلغ الماء علامة ثم ينزح منها دلاء فينظر كم انتقص فينزح بقدر ذلك، وقيل: ينظر إلى عمق البئر وعرضه ثم يحفر حفرة مثل ذلك ثم ينزح الماء من البئر ويصبّ في تلك الحفيرة فإذا امتلأت الحفيرة علم أنهم نزحوا مقدار ما كان فيها.
وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه ينظر إلى ماء البئر رجلان لهما بصارة في أثر الماء، فأي مقدار قالا إنه في البئر فإنه ينزح في ذلك المقدار، وهذا القول يريب بما حكينا من قول أبي حنيفة رحمه الله في الابتداء.
ثم إذا وجب نزح جميع الماء فلم ينزح حتى زاد الماء فقد اختلف المشايخ فيه:
قال بعضهم: ينزح مقدار ما كان في البئر وقت وقوع النجاسة وقال بعضهم: مقدار ما فيه وقت النزح، وكذلك اختلفوا في التوالي في النزح: فبعضهم شرطوا التوالي، وبعضهم لم يشترطوا، ثم على قول من لا يشترط التوالي إذا نزح بعض الماء في اليوم وتركوا النزح ثم جاؤوا من بعد فوجدوا الماء قد ازداد فعند بعضهم ينزح كل ما فيه وعند بعضهم: مقدار ما بقي عند ترك النزح من الأمس.
ثم عند بعض المشايخ يعتبر في كل بئر دلو ذلك البئر، وقال القدوري في (كتابه): يعتبر الدلو المعتاد الوسط. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قدره بما يسع صاعًا ليتمكن كل أحد من النزح من رجل أو امرأة أو صبي.
ولو جاؤوا بدلوٍ عظيم يسع عشرين دلوًا بدلوهم فاستقوا به جاز. قال القدوري: وهو أحب إليّ، وقال زفر والحسن بن زياد: لا يجوز، هما يقولان: الطهارة معلقة بعدد معلوم شرعًا بخلاف القياس فيراعى عين ما ورد به النص.
ولنا: أن النزح إنما وجب لمجاوزة بعض الماء الواقع في البئر، وفي حق هذا المعنى لا فرق بين أن يؤخذ ذلك بدلو عظيم واحد أو بعشرين دلوًا بل هذا المعنى في الدلو العظيم أظهر لأن الفضل العائد إلى البئر منه أقل فلهذا قال: وهو أحبّ إليّ.
وإذا نزح الماء وحكم بطهارة البئر حكم بطهارة الدلو والرشاء؛ لأن نجاستهما كانت بنجاسة البئر، فطهارتهما تكون بطهارة البئر، ألا ترى أن الخمر التي في الحب إذا صارت خلًا وحكم بطهارته يحكم بطهارة الحب تبعًا، وكذلك إذا غسل يده النجس من قمقمه وحكم بطهارة اليد يحكم بطهارة العروة بطريق التبعية.
قال في (القدوري): وإذا جفت البئر ونضب ماؤها ثم عاد لم يطهر إلا بالنزح في قول أبي يوسف لأن الطهارة معلقة بالنزح بالآبار، وقال محمد رحمه الله تطهر بالجفاف لأن النزح ما كان واجبًا لعينه وإنما كان ليذهب ما جاور النجاسة من الماء، وهذا المعنى في الجفاف أبين، وإذا نزح الماء وبقي الدلو الأخير؛ إن كان في الماء ولم ينح عن رأس الماء لا يجوز التوضؤ من ماء البئر وإن خرج من البئر ونحي عن رأس الماء إلا أنه لم يصب بعد جاز التوضؤ من البئر، وإن نحي عن رأس الماء إلا أنه لم ينح عن رأس البئر لم يجز التوضؤ من البئر في قول أبي يوسف رحمه الله حتى ينحى عنها. وقال محمد رحمه الله يجوز، وذكر الحاكم قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف وليس بمشهور. وجه قول محمد: أن الطهارة موقوفة على إخراج هذا القدر من الماء وقد وجد ما يعود إليه من القطرات عفوًا بالإجماع، فلا يتغير به الحكم، ولأبي يوسف رحمه الله أن الماء النجس متصل بالبئر حكمًا بدليل أن التقاط لا تصير دلوًا والاتصال لا يفسد ماء البئر لوقوع النجس في البئر فصار بقاء الاتصال حكمًا كبقائه حقيقة وذلك يمنع التوضؤ في البئر فكذا الاتصال حكمًا.
ذكر الناطفي رحمه الله في (هدايته): أن حكم النجاسة لا يختلف باختلاف الآبار فيما يطهر البئر الأول يطهر البئر الثاني، كماء النجاسة لو انتقلت من ثوب إلى ثوب آخر لا يختلف حكم إزالتها. هذا لفظ الناطفي.
بيان هذا فيما ذكر في مسألة (الأصل): إذا وقعت فأرة في البئر وماتت فنزح منها دلو وصب في بئر آخر نزح منها عشرون دلوًا لأن ماء هذا الدلو لو كان في البئر الأول لا يطهر البئر الأول إلا بنزح عشرين دلوًا كذلك في الثاني.
ولو صب الدلو العاشر في البئر الثاني نزح من الثاني عشر دلاء في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص ينزح أحد عشر دلوًا، وهذا ظاهر لأن الدلو العاشر لو كان في البئر الأول لا يطهر إلا بنزح أحد عشر دلوًا، كذا في البئر الثاني، وذكر في رواية أبي سليمان أنه ينزح منها عشر دلاء.
ولا فرق بين الروايتين من حيث المعنى؛ لأن مراد أبي سليمان من قوله عشر دلاء ما وراء الدلو العاشر، وهو مقدار ما يطهر به البئر الأول.
ولو وقعت فأرة في بئر، وفأرة أخرى في بئر أخرى، وفأرة أخرى في بئر ثالث، ثم نزح من كل بئر منها عشرون بعد إخراج الفأرة، وصب الكل في البئر الثالث، فإنه ينزح من البئر الثالث أربعون دلوًا. ينظر إلى ما وجب في البئر الثالث، وإلى قدر المصبوب فيها فينزح قدر المصبوب ويسقط حكم ما وجب فيه، كنجاسة على الثوب زيادة على قدر الدرهم أصابته نجاسة أخرى، كان حكمها وحكم ما لم يكن عليه نجاسة سواء، فكذا في البئر المصبوب فيه حكم البئرين اللتين أخرج منهما الماء فيكتفي بأربعين دلوًا من كل واحد عشرون دلوًا، وقال محمد بن الحسن رحمه الله في (صلاة الأثر) عشرة آبار إن وقع في كل بئر فأرة وماتت فينزح من كل بئر عشرون دلوًا، لوصب في واحدة إنه إن اجتمع فأرات فبلغ بقدر الدجاجة تنزح أربعون دلوًا من البئر التي صب فيها.
وفي (القدوري): إذا وقع عظم الميتة في البئر، فإن كان عليه لحم أو دم ينجس لأن ذلك لا يخلو عن بلّة نجسة وهي في حكم النجاسة المائعة، وإن لم يكن عليه لحم لا يتنجس؛ لأن نفس العظم عندنا طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وفي (مجموع النوازل): عظم تلطخ بنجاسة ووقع في البئر ولم يمكن استخراجه فإذا نزحوا ماءها فقد طهرت. وفي (الأصل): أدنى ما ينبغي أن يكون بين بئر الماء والبالوعة خمسة أذرع، وهذا في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص سبعة أذرع.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ليس هذا بتقدير لازم، بل الشرط أن يكون بينهما برزخ يمنع خلوص طعم البالوعة أو ريحها إلى ماء البئر ولا يقدر عليها بالزرعان حتى إذا كان بينهما عشرة أذرع، وكان يوجد في البئر أثر البالوعة، فماء البئر نجس وإن كان بينهما ذراع واحد وكان لا يوجد أثر البالوعة في البئر فماء البئر طاهر. قال رحمه الله: إلا أن محمدًا رحمه الله بنى هذا الجواب على ما علم من حال أراضيهم صلبة، والجواب يختلف باختلاف صلابة الأراضي ورخاوتها.
وفي (المنتقى): أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أدنى ما يكون بين البالوعة وبين الماء خمسة أذرع، قال: وسبعة أذرع أحبّ إليّ. طعن بعض الناس على أبي حنيفة رحمه الله، وقال إنه استعمل الرأي في المقادير، ومشايخنا رحمهم الله قالوا: فتواه تخرج في مكان علم سؤال أهل الذكر أن قدر خمسة أذرع يمنع التعدي.
وفي (النوازل): بئر بالوعة حفروها وجعلوها بئر ماء فإن حفروها مقدار ما وصلت إليه النجاسة فالماء طاهر وجوانبها نجس، وإن حفروها أوسع من الأول فالكل طاهر والله أعلم.

.نوع آخر في الحباب والأواني:

قال في (الأصل): الكوز الذي يوضع في نواحي البيت ليغترف من الحب، فإن له أن يشرب منه ويأخذ منه ما لم يعلم أنه قذر، لأن نواحي البيت طاهر أو الماء طاهر في الأصل فهو على الطهارة ما لم نتيقن بنجاستها أو نجاسة أحدهما وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يكره أن يستخلص الإنسان من نفسه إناء يتوضأ به ولا يتوضأ به غيره.
وفي (الأصل) أيضًا إذا أدخل الصبي يده في كوز ماء أو رجله فإن عُلم أن يده طاهرة بيقين يجوز التوضؤ بهذا الماء، وإن علم أن يده نجسة بيقين لا يجوز التوضؤ به، وإن كان لا يعلم أنه طاهر أو نجس فالمستحب أن يتوضأ بغيره لأن الصبي لا يتوقى النجاسات عادة، مع هذا لو توضأ به أجزأه لأن الطهارة أصل، وفي النجاسة شك.
وفي كتاب (فقه الأمر) للإمام عبد الصمد القلانسي أنه إن كان مع الصبي رقيب فالماء طاهر وطهور، وإن كان مسيّبًا في السكة فالماء مكروه كسؤر الدجاجة المخلاة، وهذا إذا أدخل الصبي يده في الإناء ولم ينو القربة، فأمّا إذا نوى القربة وتوضأ في الإناء سيأتي هذا الفصل بعد هذا في المياه المستعملة.
الجنب إذا اغتسل وانتضح من غسالته في إنائه أو على ثوبه قطرات صفار لا يستبين أثرها في الماء ولا في الثوب لا ينجسها، وإن استبان أثرها وهي ما إذا جمعت كانت أكثر من قدر الدرهم نجسته، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله.
وسئل أبو سليمان عن ماء الجنابة إذا وقع في الإناء وقوعًا يستبين أنها ليست بشيء، ومعنى قوله يستبين: أن ينفرج وجه ماء الإناء عند وقوع القطرات أو يرى عين القطرات ظاهرة.
وذكر هذه المسألة في (المبسوط) وقال: إن كان الواقع قليلًا لا يفسد الماء وإن كان كثيرًا يفسده، تكلموا في حد القليل والكثير: روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن كان مثل رؤوس الإبر وأطراف الإبر فهو قليل، وإن زاد على ذلك فهو كثير.
وذكر الكرخي في (كتابه): أنه إن كان مواقع القطر يستبين في الإناء فهو كثير يفسد الماء وإن كان لا يستبين فهو قليل لا يفسد الماء.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جنب نزح دلوًا مرة من ماء بئر وصبه على رأسه ثم استقى دلوًا آخر فتقاطر من جسده في البئر، قال: هذا ليس بشيء، وإن كان الماء المستعمل نجسًا عنده فكأنه أسقط اعتبار نجاسته ضرورة أن التحرز عنه غير ممكن.
حب فيه ماء أو زيت استخرج منه شيء وجعل في خابية ثم استخرج من حُب آخر فيه ماء أو زيت شيء منه، وجعل في تلك الخابية حتى امتلأت الخابية ثم وجد في الخابية فأرة ميتة ولا يدرى أن الفأرة من أي الحبين ويعلم قطعًا أنها لم تكن في الخابية قبل ذلك فما حال الحبين؟
حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة قال: إن غاب هذا الرجل عن الخابية ساعة يتوهم وقوع الفأرة في الخابية فالنجاسة للخابية والحبّان طاهران، وإن لم يغب حتى علم أنها من أحد الحبين، فالنجاسة تصرف إلى آخر الحبين لأن الحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات، هذا تمام جوابه.
قالوا: ينبغي أن يقال: إذا كان كلا الحبين لرجل واحد وتحرّى ولم يقع تحرّيه على شيء تصرف النجاسة إلى آخر الحبين، فأما إذا وقع تحريه على شيء يعمل به، وهذا الجواب على هذا الإطلاق ليس بصحيح، فقد ذكر في كتاب التحري أنه إذا كان مع الرجل في السفر أوان بعضها نجسة كانت الغلبة للنجس أو كانا سواء؛ إن كانت الحالة حالة الاختيار لا يتحرى للشرب ولا للوضوء، وإن كانت حالة الاضطرار يتحرّى للشرب بالإجماع ولا يتحرى للوضوء عندنا ولكنه يتيمم.
ولو كان كل حب لرجل على حدة وكل واحدٍ منهما يقول: حبي طاهر يجعل كلا الحبين طاهرًا.
وسئل الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أيضًا عن فأرة ميتة كانت يبست وهي في خابية جعل في الخابية الزيت فظهرت على رأس الخابية؟ فأجاب: أن الزيت نجس، وهكذا أجاب شيخ الإسلام الإسبيجابي. قال نجم الدين- هذا- رحمه الله لأن الفأرة الميتة إذا يبست وإن قالوا: إنها تطهر حتى لو صلى وفي جيبه فأرة ميتة تجوز صلاته، لكن إذا أصابها بلل حتى ابتلت تعود نجسًا في أصح الروايتين عن أبي حنيفة بمنزلة الأرض النجسة إذا يبست وذهب أثرها ثم أصابها الماء.
وفي (فتاوى ما وراء النهر): كوز فيه فأرة ميتة أدخل الكوز في حُبّ الزيت قال: إن اغترف ولم يخرج منه شيء لم يفسد الحب، وإن صُبّ ماء فيه ثم أدخله ثانيًا في الحب فسد الحب، لأنه فم الكوز صار ملطخًا بزيتٍ نجس. وإذا وجد في البئر بعرة فقد ذكرنا هذه المسألة في النوع المتقدم على هذا النوع، وذكرنا ثمة أيضًا مسألة بعرة الشاة إذا وقعت في الحليب عند الحلب.
وإذا فرت الفأرة من الهرة ومرت على قصعة ماء ذكر هذه المسألة في مسائل ندرت لشمس الأئمة الحلواني رحمه الله على التفصيل، أن الهرة إن جرحتها تتنجس القصعة وما لا فلا.
وقال في (شرح الطحاوي): إن القصعة تتنجس مطلقًا وأشار إلى المعنى فقال: إنها تبول عن خوف الهرة.
حُبّ الماء إذا ترشح منه الماء، أو آنية الماء إذا ترشح منها الماء، فجاء كلب ولحسه لا يتنجس الماء الذي في الحب والآنية.
سمعت عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله: إذا كان للرجل ثلاث حباب في أحدها الدهن وفي أحدها الخل وفي أحدها الدبس، فأخذ من كل واحدة من الحباب شيئًا وجعل في طست ثم وجد في الطست فأرة ميتة فإنه يشقُّ بطنها فإن كان في بطنها الدهن فالنجاسة لحب الدهن، وإن كان في بطنها الدبس فالنجاسة لحب الدبس وإن كان في بطنها الخل فالنجاسة لحب الخل، وإن لم يكن في بطنها شيء تلقى بين يدي الهرة فإن أكلتها فالنجاسة لحب الدهن والدبس وإن لم تأكلها فالنجاسة لحب الخل لأن الهرة تأكل الدهن والدبس ولا تأكل الخل والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): عقرب أو نحوه مما لا دم له يموت في بئر الماء أو ضفدع أو سمكة أو سرطان أو نحوه مما يعيش في الماء يموت في الحب لم يفسد الماء عندنا خلافًا للشافعي.
يجب أن يعلم أن ما ليس له دم سائل إذا مات في الماء أو مائع آخر سوى الماء لا يوجب تنجس ما مات فيه بريًا كان أو مائيًا عندنا.
والأصل: ما روى سليمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن إناء فيه طعام أو شراب يموت فيه ما ليس له دم سائل فقال: «هو الحلال أكله أو شربه أو الوضوء به» وهذا نص في الباب.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فامقلوه ثم امقلوه ثم امقلوه فإن في أحد جناحيه داء والأخرى دواء وإنه ليقدم الداء على الدواء».
ومعلوم أن مقل الذباب في الطعام الحار مرتين توجب موته لو كان ذلك ينجس الماء لما أُمر به، ولأن في الأشياء التي ليس لها دم سائل هنا لا يمكن صون الأواني عنها نحو: البق والذباب والزنابير، فالقول بالنجاسة بموت هذه الأشياء يؤدي إلى أن (لا) يوجد عصير أو خل يوصف بالحل وهذا أمر قبيح، ولأن الحيوان إنما يتنجس بالموت، فيسبب اختلاط الدم المسفوح بسائر الأجزاء ألا ترى أن العظم والشعر وما أشبههما لا يتنجس بالموت لانعدام الدم فكذا لا تتنجس هذه الحيوانات. وإذا لم تتنجس هذه الحيوانات بالموت لا يتنجس ما ماتت فيه.
وأما ما له دم سائل إن كان برّيًّا بحيث لا يعيش في الماء فموته يوجب نجاسة ما مات فيه، الماء وغيره من المائعات في ذلك على السواء؛ لأن بالموت يختلط الدم المسفوح بسائر أجزاء هذه الأشياء فتنجس هذه الأشياء بالموت فيتنجس ما مات فيه.
وإن كان مائيًا بأن كان لا يعيش إلا في الماء، إن مات في الماء لا يتنجس الماء في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وإن مات في غير الماء أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس. وفي غير السمكة نحو الضفدع المائي والكلب المائي والسرطان اختلف المشايخ فيه.
حكي عن نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة وأبي معاذ البلخي وأبي مطيع رحمهم الله: أنه يتنجس. وحكي عن أبي عبد الله ومحمد بن مقاتل أنه لا يتنجس. وعن أبي يوسف رحمه الله في (النوادر) في الكلب المائي إذا مات في الماء أنه يفسد الماء.
وهذه المسائل تنشأ عن أصل أن الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء ليس لها دم سائل على الحقيقة، وللناس فيه كلام، بعضهم قالوا: لها دم على الحقيقة؛ لأن اللون لون الدم والرائحة رائحة الدم، وبعضهم قالوا: ليس لها دم على الحقيقة، وما يرى من لون الدم فهو ماء ملون بلون الدم، ألا ترى أن الدم إذا شُمس يَسْوَدّ وهذا إذا شمس تبيض.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا ماتت هذه الحيوانات في الماء إنما لا ينجس الماء. أما على قياس من يقول لا دم لهذه الحيوانات دم سائل، ولأن الماء معدن هذه الحيوانات، ومصابها والشيء في معدنه ومصابه لا يعطى حكم النجاسة، ألا ترى أن الرجل إذا صلى وفي كمه بيضة حال محُّها دمًا فصلاته جائزة.
ولو صلى وفي كمه قارورة بول لا تجوز صلاته، إلا رواية عن محمد رحمه الله فإنه قال: إذا كان رأس القارورة أقل من الدرهم جازت صلاته وما أقرها إلا باعتبار أن النجاسة في فصل البيضة في معدنها. وفي فصل القارورة: النجاسة في غير معدنها فاعتبرت.
ومعنى آخر يخص السمكة على قول هؤلاء أن الشرع أسقط اعتبار دمها حتى أباحها بغير ذكاة فالتحق دمها بالعدم، والتحقت السمكة بما ليس له دم سائل.
وأما إذا ماتت هذه الحيوانات في غير الماء من المائعات أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس، أما على قول الفريق الأول فظاهر، وأما على القول الفريق الثاني؛ فلأن الشرع أسقط اعتبار دمها فالتحق بما ليس له دم سائل.
وفي غير السمكة اختلاف المشايخ على ما مرّ.
وجه قول من قال بأنه ينجس، أن لهذه الأشياء دم سائل، والشرع ما أسقط اعتبار دمها، فإنه لا يباح تناول هذه الأشياء.
وجه قول من قال بأنه لا ينجس: أنه ليس لهذه الأشياء دم سائل على الحقيقة على ما مرّ، وأما الحيوان الذي يعيش في البر والماء جميعًا وله دم سائل كالطير المائي إن مات في غير الماء نجسه لأن له دمًا سائلًا ولم يسقط اعتبار دمه شرعًا، فإنه لا يحل بدون الذكاة. وإن مات في الماء؛ فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينجس الماء؛ لأنا إن نظرنا إلى عيشه في الماء لا نحكم بنجاسة الماء، وإن نظرنا إلى عيشه في البر نحكم بنجاسة الماء، فحكمنا بنجاسة الماء ورجحنا عيشه في البر احتياطًا.
والضفدع البري إذا مات في الماء إن كان كبيرًا له دم سائل نّجس الماء، وإن كان صغيرًا ليس له دم سائل لا ينجس كالذباب والزنبور وما أشبههما. والعقرب ليس له دم سائل فموته في الماء لا ينجس الماء.
في (القدوري): إذا ماتت فأرة في مائع كالسمن ونحوه، فإن كان ذائبًا تنجس وجاز الانتفاع به في غير الأبدان وجاز بيعه، على البائع أن يبين ذلك للمشتري. وإن كان جامدًا تلقى ويُقوّر ما حولها ويلقى وينتفع بالباقي أكلًا وغير ذلك، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن سمن وقعت فيه فأرة وماتت قال: «إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوا الباقي وإن كان ذائبًا فانتفعوا به ولا تأكلوه»؛ ولأن في الجامد النجاسة جاورت موضعًا واحدًا، فإذا قوِّر ذلك فالباقي طاهر، وفي الذائب النجاسة جاورت الكل فصار الكل نجسًا.
وحد الجمود والذوبان: أنه إذا كان بحال لو قوِّر ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد، وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب. ثم في الذائب لا بأس بالانتفاع به سوى الأكل من حيث الاستصناع به، دبغ الجلد للحديث، ولأن النجس أجزاء الفأرة وإنها مجاورة للدهن مجاورة لازمة فحرم الأكل لأنه لا ينفك عن حلول جزء من النجاسة.
فأما الانتفاع في غير الأكل يقع بالدهن لا بأجزاء الفأرة، فصار الاستعمال في حق الحرمة النجس استهلاكًا لا انتفاعًا، والبيع يرد على المذكور، والمذكور الدهن لأجزاء الفأرة بخلاف الأكل.
وفي (القدوري) أيضًا: إذا وقعت النجاسة في الماء، فإن تغير وصف الماء لم يجز الانتفاع به بحال، فإن لم يتغير جاز الانتفاع به مثل بل الطين وسقي الدواب، لأن في الوجه الأول النجاسة قد غلبت عليه حتى غيرته فصار كعين النجاسة، ولا كذلك الوجه الثاني.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف رحمه الله: إذا وجب نزح الماء كله من البئر فعجن من ذلك لا يطعم ذلك بني آدم. ولا بأس بإطعامه وإلقائه للكلاب والسنانير، ولا بأس برش تلك المياه في الطريق. وروي عنه في غير هذه الصورة: يطعم ذلك العجين البهائم ولا يسقي ذلك الماء البهائم وأشار إلى العلة فقال: لأن ما يدخل عليه من إلقاء الطعام أشد من إطعام البهائم والماء لا بأس بصبه، وفي هذا التعليل أشار إلى أن هذا العجين لا يلقى في الطريق، والمفسدة في إلقائه في الطريق أعظم من المفسدة في إطعام الكلاب والسنانير، والماء يصب في الطريق المفسدة في الصب في الطريق دون المفسدة في سقي البهائم.

.نوع آخر في الحمَّام:

روى المعلّى عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري إذا أدخل يده فيه وفيه قذر لم يتنجس، واختلف المتأخرون في بيان هذا القول فمنهم من قال: مراد أبي يوسف حالة مخصوصة: وهي ما إذا كان الماء يجري إلى حوض الحمام والاغتراف منه متدارك، فهذا الماء في هذه الحالة في حكم الماء الجاري. ومنهم من قال: ماء الحمام عنده بمنزلة الماء الجاري على كل حال لأجل الضرورة، ألا ترى أن الماء الراكد وهو الحوض العظيم ألحق بالماء الجاري لأجل الضرورة، فكذا ماء الحمام. ويجوز التوضؤ بماء الحمام، وإن كان الماء في الحوض ساكنًا لا يدخل من أنبوبه شيء ما لم يعلم بوقوع النجاسة فيه، فإن أدخل رجل يده فيه في هذه الحالة وفي يده قذر؛ فعلى قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذهب إليه بعض المشايخ لا ينجس الحوض، وعامة المشايخ على أنه ينجس، وكذلك إذا كان الناس يغرفون بقصاعهم إلا أن الماء لا يدخل من الأنبوب، فأدخل رجل يده وفي يده قذر ينجس الحوض عند عامة المشايخ، وإن كان يدخل الماء في الحوض من الأنبوب والاغتراف منه...... عامة المشايخ على أنه ينجس وعليه الفتوى.
وإذا فسد ماء الحوض فأخذ رجل من ذلك الماء بالقصعة، وأمسك القصعة تحت الأنبوب فدخل الماء في القصعة من الأنبوب و... ماء القصعة فتوضأ منه لا يجوز، وإذا أفاض الرجل في الماء المصبوب على وجه الحمام بعدما غسل قدميه وخرج فإن لم يعلم أن في الحمام جنب أجزأه أن لا يغسل قدميه. وإن علم أن في الحمام جنب قد اغتسل يلزمه أن يغسل قدميه إذا خرج، هكذا ذكر في (العيون).
وقال الصدر الشهيد في (واقعاته) وعلى ما أحبرنا في الماء المستعمل أنه طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ينبغي أن يلزمه غسيل القدمين، ولكن استثنى الجنب في (العيون) فإنه موضوع الاستثناء وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
ومن المشايخ من قال: إنما استثنى الجنب لأن الجنب يكون على يديه قذر غالبًا حتى لو لم يكن كان مستعمل الجنب والمحدث سواء؛ ويكون طاهرًا على رواية محمد رحمه الله، ولا يلزمه غسل الرجلين وهو الظاهر.
وذكر في (المنتقى) رواية أخرى: أنه يلزمه غسل الرجلين على كل حال سواء، علم أن في الحمام جنبًا أو لم يعلم.
حوض الحمام إذا تنجس ودخل فيه الماء لا يطهر ما لم يخرج منه ما كان فيه ثلاث مرات. وقال بعضهم: إذا خرج منه مثل ما كان فيه مرة واحدة وفي (المنتقى) ما يدل على هذا القول. والمذكور في (المنتقى) الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إذا كان في حوض الحمام قذر لم يغتسلوا منه حتى ذهب قدر ما كان في الحوض ثم دخل ماء آخر في الحوض ثم اغتسلوا والله أعلم.

.نوع آخر في بيان المياه التي لا يجوز التوضؤ بها على الوفاق وعلى الخلاف:

وإنها أنواع:
منها ماء الفواكه وتفسيره: أنه يدق التفاح والسفرجل دقًا ناعمًا ثم يعصر فستخرج منه الماء أو يكون تفسيره: أن يدق التفاح أو السفرجل ويطبخ بالماء ويعصر ويستخرج منه الماء. وفي الوجهين جميعًا لا يجوز التوضؤ به. وكذا لا يجوز التوضؤ بماء البطيخ والقثاء والعنب ولا بالماء الذي يسيل من الكرم في الربيع. كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولا بماء الورد وفي (جوامع أبي يوسف) عنه: أنه يجوز التوضؤ بماء الكرم.
ومنها الماء... وذكر في (نوادر ابن رشيد) عن محمد رحمه الله من الماء يطرح فيه الريحان والأشنان فإن تغير لونه بأن سوده الريحان، أو حمره الأشنان، أو كان الغالب عليه أثر الأشنان أو أثر الريحان لا يتوضأ به، وإن كان الغالب عليه أثر الماء، فلا بأس بالتوضؤ به، وكذلك البابونج، فأما الزعفران إذا كان قليلًا والغالب الماء فلا بأس به، فمحمد رحمه الله اعتبر الغلبة في هذه المسائل، إلا أن في بعضها أشار إلى الغلبة من حيث اللون، وفي بعضها أشار إلى الغلبة من حيث الأجزاء.
وفي (الأمالي) برواية بشر عن أبي يوسف رحمه الله لو توضأ بماء غلي بأشنان أو آسٍ أو لشيء يتعالج به الناس ويغتسلون به، فإن الوضوء بذلك الماء يجزئ ما لم يغلب عليه. ولو توضأ بماء به ردح العصفر أجزأه إذا كان رقيقًا يستبين الماء منه، وإن غليت المجمرة وصارت... لا يجوز التوضؤ به، وكذلك ماء الصابون إذا كان ثخينًا قد غلب على الصابون لا يجوز التوضؤ به، وإن كان رقيقًا، لكن علاه بياض الصابون جاز التوضؤ به.
قال الحاكم الشهيد رحمه الله ورأيت عن ابن سماعة عن أبي يوسف مثله، قال: وكذلك ماء الزعفران، ورأيت عنه أيضًا: لا يجوز التوضؤ بماء الحمص والباقلاء، يريد الماء الذي طبخ فيه الحمص أو الباقلاء، وكذلك ما طبخ به ليؤكل أو ليشرب أو ليتداوى به، وإذا طبخ الآس في الماء والبابونج فإن غلب على الماء حتى يقال: ماء البابونج، أو ماء الآس لا يجوز التوضؤ به، وإن طبخ في الماء السِّدْر أو الأشنان وتغيّر لونه إلا أنه لم يذهب برقته جاز التوضؤ به.
والحاصل من مذهب أبي يوسف رحمه الله: أن كل ما خلط به شيء يناسب الماء فيما يقصد من استعمال الماء وهو التطهير، فالتوضؤ به جائز بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، يعني من الأجزاء حتى لا يزول به الصفة الأصلية وهو الرقة، وذلك مثل الأشنان والصابون، وهذا لأن الخلط الذي يناسب الماء يتعالج به الناس ويغتسلون به مبالغة في التطهير، فجعل الحكم فيه كالحكم في الماء، لكن بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، وكل ما خلط به شيء لا يناسب الماء فيما قصد من استعمال الماء وهو التطهير، ففي بعض الروايات شرط عليه ذلك الشيء الماء من حيث الأجزاء لمنع جواز التوضؤ به، وفي بعض الروايات لم يشترط الغلبة من حيث الأجزاء.
ويجوز التوضؤ بالماء الذي ألقي فيه الحمص والباقلاء وتغير لونه، إلا أنه لم يُذهِب رقته، هكذا ذكر في بعض الكتب، وكذا إذا ألقي فيه الزاج حتى اسود ولكن لم تذهب رقته جاز التوضؤ به، وهذا لا يستقيم على قول محمد رحمه الله على القول الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون.
ولو بلَّ الخبز بالماء وبقيت رقته جاز الوضوء به، وإن صار ثخينًا لا يجوز، وهذا لا يستقيم على قول أبي يوسف رحمه الله على الرواية لا يشترط الغلبة في خلط ما لا يناسب الماء في التطهير، ولو وقع في الماء وصار ثخينًا لا يجوز التوضؤ به، لأنه بمنزلة الخمر، هكذا ذكر في بعض الكتب.
وفي (الفتاوى): ذكر مسألة التوضؤ بالثلج وذكر فيها تفصيلًا، فقال: إن كان الثلج يذوب ويسيل إلى أعلى أعضائه ويتقاطر يجوز، وما لا فلا، يجب أن يكون الجواب في المسألة المتقدمة على هذا التفصيل أيضًا.
وفي (أجناس الناطفي)، وفي (صلاة الأثر): لا بأس بالتوضؤ بماء السبيل إذا كانت رقة الماء غلبة غالبة، وإن لم تكن غالبة لا يجوز التوضؤ به؛ لأنه طين مسح على وجهه.
وفي (القدوري): إذا اختلط الطاهر بالماء ولم يزل اسم الماء، ولا رقته فهو طاهر طهور تغير لونه أو لا، ولم يذكر فيه خلافًا، وهذا لا يستقيم على قول محمد على القول الذي يعتبر الغلبة من حيث اللون.
قال: وكل ما طبخ فيه شيء حتى تغير مثل الباقلاء وغيره لم يجز التوضؤ به لزوال اسم الماء عنه، ولم يذكر فيه خلافًا أيضًا، فإن أراد بهذا التغير التغير من حيث اللون فهو قول محمد رحمه الله على الفصل الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون، وإن أراد بهذا التغير التغير من حيث الأجزاء فهو قول محمد رحمه الله أيضًا على أحد قوليه، وقول أبي يوسف رحمه الله أيضًا على أحد قوليه على ما تقدم.
وفي (شرح الطحاوي): كل ما خالط ما سواه من المائعات وغلب ذلك الشيء على الماء فحكمه حكم ذلك الشيء لا حكم الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به، فإن كانت الغلبة للماء فحكمه حكم الماء المطلق يجوز التوضؤ به.
بيانه في اللبن أو الخل أو العصير إذا اختلط بالماء، فإن كانت الغلبة للماء جاز التوضؤ، وإن كانت الغلبة للبن أو الخل أو العصير لا يجوز التوضؤ به.
وسئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن الماء الذي تغير لكثرة الأوراق الواقعة فيه حتى يظهر لون الأوراق في الكف إذا رفع الماء منه، هل يجوز التوضؤ به؟ قال: لا، لكن يجوز شربه وغسل الأشياء به، أما جواز الشرب وغسل الأشياء به فلأنه طاهر، وأما عدم جواز التوضؤ به، لأنه لما غلب لون الأوراق عليه صار ماء مقيدًا كماء الباقلاء وغيره.
ومنها الماء الذي غلب على ظننا وقوع النجاسة فيه. قال القدوري في (كتابه): كل ماء تيقنا بوقوع النجاسة فيه أو غلب على ظننا لم يجز التوضؤ به، وبعض مشايخنا قالوا: يعتبر التغير، ولا تعتبر غلبة الظن، لأن الماء طاهر بيقين، فلا ترفع عنه صفة الطهارة بمجرد الظن، والأصح ما ذكره القدوري، ألا ترى أن الواحد إذا أخبر بنجاسة الماء لا يجوز الوضوء به، وخبره يوجب غلبة الظن لما لا يوجب اليقين، لأن غلبة الظن تلحق باليقين خصوصًا في باب العبادات والله أعلم.
ومنها الماء المستعمل في البدن: الكلام في الماء المستعمل في مواضع:
أحدها: في نجاسته وطهارته، فنقول: اتفق أصحابنا أن الماء المستعمل ليس بطهور حتى لا يجوز التوضؤ به، ولا يجوز غسل شيء من النجاسات به.
واختلفوا في طهارته، قال محمد رحمه الله: هو طاهر، وهو رواية أبي حنيفة رحمه الله وعليه الفتوى. وقال أبو يوسف رحمه الله: هو نجس نجاسة خفيفة، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقال الحسن بن زياد: نجس نجاسة غليظة، كالبول والدم، وهو رواية عن أبي حنيفة وعند زفر: هو طاهر طهور. وقال الشافعي: إن كان المستعمِل محدثًا فهو كما قال محمد طاهر غير طهور، وإن كان المستعمِل طاهرًا فهو كما قال زفر طاهر وطهور.
أما ما ذهب إليه زفر أنه طاهر طهور لأنه غسل به عين طاهر، فلا تتغير صفته كما لو غسل به الثياب والقصاع الطاهرة. وإنما قلنا: إنه غُسل به عين طاهر؛ لأن أعضاء المحدث والجنب والحائض طاهرة، بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يمر في بعض سكك المدينة فاستقبله حذيفة بن اليمان، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يصافحه، فامتنع حذيفة رضي الله عنه، فسأله رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال: إني جنب، فقال عليه السلام: «المؤمن لا ينجس» وقال لعائشة رضي الله عنها: «ليست حيضتك في يدك».
وجه قول من قال: بأنه نجس قول عليه السلام: «من توضأ وغسل وجهه تناثر عنه خطايا وجهه مع آخر قطرة من الماء، ولو غسل يديه تناثر عنه خطايا يديه مع آخر قطرة من الماء...» الحديث إلى آخره، فجعل الماء مطهرًا من الذنوب، والذنب نجس حكمًا، والنجس حكمًا لا يختلف عن النجس حقيقة، ثم الماء الذي يرفع فيه النجاسة يتنجس، فكذا الذي يرفع النجاسة الحكمية.
ثم على رواية الحسن: نجاسته غليظة اعتبارًا بالنجاسة الحقيقية، وعلى رواية أبي يوسف خفيفة لمكان البلوى ولاختلاف الآثار فيه.
وجه قول محمد: إنه طاهر طهور ما ذكر بالرقة في إثبات الطهورية، فإن ما يدل على الطهورية يدل على الطهارة من طريق الأولى، ويدل عليه ما روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام ورضي عنهم، كانوا يتبركون بوضوء رسول الله عليه السلام، وكانوا يغسلون به وجوههم وأبدانهم ولو كان نجسًا لما فعلوا ذلك، ولأن الماء إذا استعمل في محل فانقص أحواله أن يصير في مثل حال المحل، وأعضاء المحدث والجنب طاهر حتى لو صلى وهو حامل لجنب أو محدث تجوز صلاته، ولو عرق الجنب والمحدث في ثيابهم لم تتنجس ثيابهم، ولكن لا يحل أداء الصلاة ببدن محدث، فالماء المستعمل في هذا المحل تصير بهذه الصفة، فإذا أصاب الثوب يجوز الصلاة فيه، ولو توضأ به لا تجوز الصلاة.
قال مشايخنا: ولنا مسائل تدل على نجاسة الماء المستعمل، منها: أجمعنا على أن المسافر إذا كان له ما يحتاج إليه لعطشه أنه يمسك الماء ويتيم، ولو كان الماء المستعمل طاهرًا لتوضأ به ثم شرب.
ومنها: أن الجنب إذا أراد أن يغتسل فتوضأ وضوءه للصلاة إلا رجله، وإنما أمر بغسل رجليه كيلا تتنجس رجله ثانيًا. ولو كان الماء المستعمل طاهرًا لكان لا يتأخر غسل رجليه إلى ما بعد الاغتسال.
ومنها: أجمعنا على أنه يباح إراقة الماء المستعمل، ولو كان طاهرًا لا يباح إراقته.
الموضع الثاني: أن الماء متى يأخذ حكم الاستعمال، فنقول: إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن، والاجتماع في المكان ليس بشرط، هذا هو مذهب أصحابنا، وما ذكر في (شرح الطحاوي) أن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن واستقر في مكان، فذاك قول سفيان الثوري وإبراهيم النخعي رحمهما الله وبعض مشايخ بلخ، وهو اختيار الطحاوي رحمه الله، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، أما مذهب أصحابنا ما ذكرنا، وعن هذا قلنا: إن من نسي مسح رأسه فأخذ ماءً من لحيته ومسح به رأسه لا يجوز، لأنه كما أخذه من لحيته فقد أخذ حكم الاستعمال؛ لأنه زايل العضو فحصل المسح بماء مستعمل.
وفي نظم (الزَّنْدويستي): إن عند مشايخ بخارى يصير الماء مستعملًا وإن كان في الهواء، حتى قالوا: إن أصاب ثوبه يتنجس بأن كان متقاطرًا، وكذا الخرقة التي يمسح بها أعضاء الوضوء، فإن كان متقاطرًا يتنجس، يعني على قول من يقول بنجاسة الماء المستعمل.
وفي (شرح الطحاوي): لو بقي على العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على ذلك العضو إلى تلك اللمعة جاز، ولو صرف البلل الذي في اليمنى إلى اللمعة التي في اليسرى، أو من اليسرى إل اليمنى لا يجوز. ولو كان هذا في الجنابة جاز؛ لأن الأعضاء في الجنابة كعضو واحد والله أعلم.

.معرفة سبب استعمال الماء:

فنقول: اختلف المشايخ المتأخرون، قال الشيخ أبو بكر الرازي وجماعة من مشايخ العراق: الماء على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إنما يصير مستعملًا بأحد أمرين: إما برفع الحدث بأن يتوضأ تبردًا وهو محدث، أو باستعماله على قصد إقامة القربة بأن يتوضأ وهو متوضئ ناويًا الوضوء.
وعلى أصل محمد رحمه الله: الماء إنما يصير مستعملًا بشيء واحد وهو الاستعمال على قصد إقامة القربة، واستدلوا بمسألة الجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: الماء بحاله طاهر، والرجل بحاله جنب لأنه لو حكم بطهارة الرجل صار الماء مستعملًا أول الملاقاة، والماء المستعمل عنده نجس فلا يطهر به الشخص، وإذا لم تجر الطهارة ينتقض الحكم بالاستعمال فيقع الدور، فقال من الابتداء: الماء بحاله والرجل بحاله احترازًا عن الدور.
قال محمد رحمه الله: الماء طاهر والرجل طاهر، أما الرجل طاهر؛ لأنه وصل إلى الماء والماء مطهر بداية من غير نية، كما وقع في الماء الجاري، وأصابه المطر، والماء طاهر بحاله؛ لأنه لا نجاسة عليه حقيقة وإنما يتغير بقصد القربة لما فيه من تطهير عن الآثام ولم يوجد، فلا يصير مستعملًا.
قال القدوري: كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث توجب استعمال الماء؛ لأن المقصود قد حصل بها كما لو قصد القربة ولا معنى لهذا الخلاف إذ لا نص عنهما على هذا الوجه، ولا يجوز أن يؤخذ هذا من مسألة البئر؛ لأنه أمكن تخريجها على المقولتين من غير إثبات الخلاف، محمد رحمه الله يقول في دخول الجنب في البئر ضرورة، وفي تكليف الغواص بالغسل حرج، فيحمل ذلك لضرورة، وهذا كما قلنا في المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الإناء، أو الحبِّ لأجل الاغتراف لا يصير الماء مستعملًا بلا خلاف، إلا إذا نوى بإدخال اليد الاغتسال، وإنما لا يصير مستعملًا لأجل الضرورة؛ لأن الإنسان عسى لا يجد إناء صغيرًا ولا يمكنه صب الماء على يده من الإناء الكبير، فيضطر إلى الإدخال فيسقط اعتبار القياس، وأقام اليد مقام الإناء الصغير. وإذا نوى الاغتسال ولم يستعمل اليد استعمال الإناء، فبقي على أصل القياس.
ولو أدخل رجله في البئر ولم ينو به الاستعمال، ذكر شيخ الإسلام: أنه يصير مستعملًا عند أبي يوسف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه لا يصير مستعملًا وعلل: لأن الرجل تجري مجرى اليد في الإناء، فعلى قول هذا التعليل لو أدخل الرجل في الإناء يصير مستعملًا لعدم الضرورة، وكذلك لو أدخل رأسه أو عضوًا آخر في البئر أو في الإناء يصير مستعملًا لعدم الضرورة، وعلى هذا إذا وقع الكوز في الحب، فأدخل يده في الحب لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملًا لمكان الضرورة، ويشترط إدخال عضو تام لصيرورة الماء مستعملًا في الرواية المعروفة عن أبي يوسف.
وفي (الفتاوى): لو أدخل في الإناء أصبعًا أو أكثر منه دون الكف يريد غسله لم ينجس الماء، وإن أدخل الكف يريد غسله يتنجس؛ لأن في الأول ضرورة، ولا ضرورة في الثاني. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هذا إنما يتأتى على قول من يجعل الماء المستعمل نجسًا لا على من لا يجعله نجسًا.
وفي (العيون) عن محمد رحمه الله: جنب أصاب يده أو ثوبه قذر أخذ الماء بفيه ولم يرد به المضمضة وغسل اليد أو الثوب يجوز، وكذلك لو توضأ به يجوز، ولو أراد به المضمضة لم يجز الغسل ولا الوضوء؛ لأن في الوجه الأول لم يقصد القربة، فلم يصر الماء مستعملًا، وفي الوجه الثاني قصد القربة فصار الماء مستعملًا.
وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجوز الوضوء ولا الغسل؛ لأنه قد ارتفع به الحدث، وإنه كافٍ لصيرورة الماء مستعملًا عنده، وعلى هذا إذا أخذ الماء بفيه وملأ به الآنية.
قال الحاكم الشهيد رحمه الله في (المختصر): ولا يجوز التوضؤ بالماء المستعمل في وضوء أو غسل شيء من البدن، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله: أو غسْل شيء من البدن أورده الحاكم في (المختصر)، ولم يذكره محمد رحمه الله في (المبسوط) وتفسير هذا الكلام: إذا غسل جنبه أو فخذه، لا لنجاسة هل يأخذ حكم الاستعمال؟ وهذا شيء تكلم فيه المشايخ، ولا نص فيه عن أصحابنا الثلاثة رحمهم الله، وإنما المنصوص عنهم أنه إذا غسل أعضاء الوضوء وهو محدث متبردًا أو غسل به أعضاء الوضوء وهو طاهر.... الوضوء.
فأما الذي غسل عضو الفرض من الحدث، وهو طاهر تكلم المشايخ فيه، منهم من قال: هو مستعمل، وكثير من مشايخنا قالوا: لا يأخذ من هذا حكم الاستعمال، وذكر الطحاوي: أن من تبرّد بالماء صار مستعملًا. قال القدوري رحمه الله: وهو محمول على ما إذا كان محدثًا، وهذا لأن الماء إنما يصير مستعملًا عند أبي يوسف رحمه الله برفع الحدث أو بقصد القربة عند محمد رحمه الله وبقصد القربة على ما عليه عامة المشايخ ولم يوجد هاهنا قصد القربة ولا رفع الحدث أو لم يحمله على المحدث فلا معنى للاستعمال فيحمل على المحدث ليصير مستعملًا برفع الحدث.
وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في (العيون) وغيره أنه لو أدخل المحدث رأسه في الإناء أو خفه يريد به المسح يجزئه المسح ولا يفسد الماء في رواية المعلى عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن المسح يتأدى بماء اتصل به من الماء لا بأكمله، وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه يصير مستعملًا فلا يجزئه من المسح لإقامة القربة بهذا الماء، وكذلك لو كانت على يده جبائر فغمسها في الإناء يريد المسح، فهو على هذا الاختلاف، ولو لم يقصد المسح أجزأه المسح ولا يعد الماء مستعملًا على اختلاف المذهبين عند محمد رحمه الله لعدم قصد لقربة، وعند أبي يوسف رحمه الله لأن الفرض لا يتأدى بما بقي بل بما اتصل من الماء بقول الفرض يسقط بالإصابة لا الإسالة والاستعمال شرط بالإسالة.
لرجل إذا غسل يده للطعام قبل الأكل أو بعده صار الماء مستعملًا؛ لأنه قصد إقامة السنة، فإن من سنة الطعام غسل اليدين قبله وبعده كما جاء به الحديث، بخلاف ما لو غسل يده من الوسخ أو العجين لا يعد مستعملًا به لا قربة ثمة ولا إزالة الحدث.
وإذا أدخل يده الصبي في إناء على قصد إقامة (القربة)؛ ذكر في هذه المسألة في شيء من الكتب، وقد وصل إلينا أن هذه المسألة صارت واقعة، فاختلف فيها فتوى الصدر الشهيد حسام الدين عمر، وفتوى القاضي الإمام جمال الدين... فتوى، قال رحمهما الله: والأشبه أن يصير مستعملًا إذا كان الصبي عاقلًا؛ لأنه من أهل القربة، ولهذا صح إسلامه وصحت عباداته حتى أمر بالصلاة إذا بلغ سبعًا ويضرب عليها إذا بلغ عشرًا، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:

.بيان حكم الأسآر:

يجب أن تعلم بأن الأسآر أربعة: طاهرة كراهة فيه، وطاهر مكروه، ونجس، ومشكوك.
أما الطاهر الذي لا كراهة فيه سؤر الآدمي وسؤر ما يؤكل لحمه سوى الدجاجة المخلاة، أما سؤر الآدمي فلما روي أن رسول الله عليه السلام «أُتي بعسلٍ من لبن فشرب بعض وناول الباقي أعرابيًا كان على يمينه فشربه ثم ناول أبا بكر فشربه»، ولأن عين الآدمي طاهرة لا كراهة فيه إلا أنه لا يؤكل لكرامته ولعابه متولد من عينه، فإذا كان عينه طاهر من غير كراهة كان سؤره طاهرًا من غير كراهة أيضًا، ويستوي فيه المسلم والكافر عندنا. وقال الشافعي: سؤر الكافر نجس؛ لأن عين الكافر نجس، قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28] فإذا كان عينه نجسًا كان لعابه نجسًا فيكون سؤره نجسًا.
وإنا نقول: عين الكافر ليس بنجس، ألا ترى أن وفد بني ثقيف أنزلوا في مسجد رسول الله عليه السلام وكانوا مشركين، ولو كان عين الكافر نجسًا لما أنزلوا في المسجد.
والآية محمولة على نجاسة اعتقادهم، لا على نجاسة أعضائهم، ونجاسة الاعتقاد لا تؤثر في نجاسة الأعضاء وكذا يستوي فيه الطاهر والمحدث والجنب والحائض لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن رسول الله عليه السلام كان يشرب من الإناء الذي شربت فيه وأنا حائض، فربما كان يضع فمه على موضع فمي»، وعن رسول الله عليه السلام أنه قال: «من شرب سؤر أخيه كتب له عشر حسنات» وفي رواية: «سبعون حسنة»، ولأنه لم يتحول إلى الماء نجاسة حقيقية لا حكمية ولا أقيم به قربة، أما لم يتحول نجاسة حقيقية لأنه لا نجاسة لشفتيَ الجنب والحائض من حيث الحقيقة، وأما لم يتحول إليه نجاسة حكمية:
أما على قول محمد رحمه الله فلأن الماء عنده على ما عليه اختيار بعض المشايخ لا يتغير بسبب الاستعمال من حيث أنه يتحول إليه شيء بسبب الاستعمال، وإنما يتغير من حيث أنه يقصد به إقامة القربة على ما مرّ، ولم يوجد هاهنا قصد إقامة القربة حتى لو قصد إقامة القربة يفسد الماء عنده.
وأما على قول أبي يوسف رحمه الله فلأن على أصله الماء إنما يتغير بالاستعمال بقصد إقامة القربة أو برفع الحدث وهو اختيار بعض المشايخ على قول محمد على ما مر، ولم يوجد هاهنا واحد منهما. أما قصد إقامة القربة فظاهر، وأما رفع الحدث فلأن الحدث عنده لا يرتفع هاهنا على إحدى الروايتين لأجل الضرورة، وعلى الرواية الثانية وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن ارتفع الحدث ولكن لا يحكم بتغير الماء دفعًا للحرج، إذ لو حكم بتغير الماء يحتاج كل من أجنب أو حاضت إلى إناء على حدة، وفيه من الحرج ما لا يخفى، هذا كما يقولان في الجنب والحائض إذا أدخل يده في الحب عند انعدام الآلة الصغيرة، لا يفسد الماء إذا لم يكن على يده قذر، وإنما لا يفسد لمكان الحرج والضرورة على ما بينا.
وأما سؤر ما يؤكل لحمه من الطيور سوى الدجاجة المخلاة فلما روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: «كنا في السفر مع رسول الله عليه السلام فلما انتهينا إلى حوض شربت ناقة رسول الله عليه السلام من ذلك الحوض فتوضأ النبي عليه السلام من ذلك الحوض وتوضأت أنا»، وروي أن رسول الله عليه السلام «توضأ بسؤر بعير أو شاة»، ولأن نجاسة السؤر لمكان نجاسة اللعاب واللعاب متولد من اللحم، ولحم هذه الحيوانات طاهر من غير كراهة فكذا لعابها.
وأما الطاهر الذي هو مكروه فهو: سؤر الدجاجة المخلاة، لأنها تفتش الجيف والأقذار بمنقارها، ومنقارها لا يخلو عن نجاسة، مع هذا إذا توضأ به أجزأه، لأن منقارها في الأصل طاهر؛ لأن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها بدليل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأكل لحم الدجاجة، وكان يقول: «رأيت رسول الله عليه السلام يأكل كل لحم الدجاجة»، فثبت أن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها، وفي نجاسة منقارها شك؛ لأن تفتيشها النجاسة والأقذار ليست بقطعية بل هي محتملة، والمحتمل لا يعارض المتيقن، فلعدم التيقن بنجاسة المنقار لم يحكم بنجاسة السؤر ولإمكان الاحتمال أثبتنا الكراهة.
فإن كانت الدجاجة محبوسة فسؤرها طاهر من غير كراهة؛ لأن منقارها في الأصل طاهر وقد وقع الأمن عن أن تفتش النجاسات إذا كانت محبوسة.
واختلف المشايخ في صفة المحبوسة، بعضهم قالوا: المحبوسة أن تحبس في بيت وتعلف هناك، وهذا لأنها إذا كانت محبوسة في بيت لا تجد نجاسات غيرها لنفسها، وهي لا تفتش نجاسة نفسها وليس من عادتها ذلك، فوقع الأمر عن النجاسة، ومنقارها طاهر في الأصل فلهذا كان سؤرها طاهرًا من غير كراهة.
وقال بعضهم: صفة المحبوسة أن يحفر لها حفرة فيجعل رجلاها فيها، ورأسها والعلف أمامها أو يجعل لها بيتًا ويكون رأسها وعلفها وماؤها خارج البيت بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها، وهذا القائل يقول بأنها ربما يعتبر ما يكون منها إذا عم نجاسات غيرها، فلا يؤمن أن يصيب منقارها نجاسة، فهي والمخلاة سواء.
وكذلك سؤر سباع الطير كالصقر والبازي والشاهين مكروه، وهذا استحسان، والقياس أن يكون نجسًا قياسًا على سؤر سباع البهائم، نحو الأسد والذئب والنمر وما أشبه ذلك، وهذا لأن سؤر سباع الوحش لا يخلو عن لعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيكون لعابها نجسًا يوجب تنجس الماء، وهذا المعنى موجود في سباع الطير.
وفي الاستحسان: فرق بين سباع البهائم وبين سباع الطيور، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن سؤر سباع الوحش إنما كان نجسًا، لأن سباع الوحش تشرب بلسانها ولسانها مبتل بلعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيصل شيء من لعابها إلى الماء، وإنه نجس فيوجب تنجس الماء، فأما سباع الطير فإنها تشرب بمنقارها، وكلما رفعت قطرة بمنقارها رفعت رأسها و(ابتلعت) تلك القطرة، فلا يسيل شيء من لعابها إلى الماء، وإنما يصل منقارها إلى الماء (وهو) عظم جاف لا يحتمل النجاسة.
والثاني: علمنا أنه يسيل شيء من لعابها إلى الماء، إلا أن في سباع الطيور ضرورة وبلوى لأنها تنزل من الهواء، فإذا وجدت آنية ماء تشرب منها، فلا يمكن الاحتراز عن سؤرها، وللضرورة أثر في إسقاط حكم النجاسة بخلاف سباع الوحش؛ لأنها تكون في المغاور والصحارى، ولا تنزل من الهواء، فيمكن الاحتراز عن سؤرها، فلم يسقط اعتبار النجاسة عن سؤرها، إلا أنه يكره التوضؤ بسؤر سباع الطير.
واختلف المشايخ في معنى الكراهة، بعضهم قالوا: إسقاط النجاسة عن سؤرها إنما يكون للضرورة على ما بينا في الفرق الثاني، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة فانتفت النجاسة لوجود أصل الضرورة، وبقيت الكراهة؛ لأن الضرورة ليست ثابتة، وبعضهم قالوا: إنها لا تتوخى عن النجاسات، بل يكون عامة مأكولاتها النجاسات، فلا يؤمن أن يكون على منقارها النجاسة، فيصل إلى الماء، غير أن الأصل لما كان طهارة منقارها واتصال النجاسة بمنقارها ليست بيقين حكمنا بالكراهة، ولم نحكم بالنجاسة كما في سؤر الدجاجة المخلاة، فهذا القائل يقول: إذا تيقن أنه لم يكن على منقارها نجاسة، كالبازي المأخوذ وغيره من الصقر والشاهين وأشباهها فإنه لا يكره التوضؤ بسؤرها كما في الدجاجة المحبوسة، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، فكأن أبا يوسف رحمه الله اعتبر الكراهة لتوهم إيصال النجاسة بمنقارها، لا لوصول لعابها إلى الماء.
واستحسن المتأخرون من مشايخنا رواية أبي يوسف وأفتوا بها.
وكذلك سؤر ما يسكن البيوت من الحشرات كالفأرة والحية والوزغة مكروه، والقياس أن يكون نجسًا باعتبار أن عينها نجسة ولعابها يتولد من عينها، إلا أننا أسقطنا اعتبار القياس ضرورة الطواف علينا على ما نبين في سؤر الهرة، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست بماسَّة.
وكذلك سؤر الهرة مكروه عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تكره، ذكر لفظة الكراهة عندهما في (الجامع الصغير) وهكذا ذكر القدوري في (شرحه)، وذكر في صلاة (الأصل): المستحب أن (لا) يتوضأ بسؤر الهرة، وإن توضأ به أجزأه.
وعن أبي يوسف رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله وابن أبي ليلى عن سؤر الهرة فكرهاه، وأما أنا فلا أدري به بأسًا، وهو قول الشافعي.
حجة أبي يوسف والشافعي عليهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يصغي الإناء للهرة ويشرب ما بقي ويتوضأ منه»، وهو قوله عليه السلام: «الهرة ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات عليكم» صرح أن الهرة عينها ليست بنجسة، وإذا لم تكن عينها نجسة لا يكون سؤرها نجسًا.
ولهما: قوله عليه السلام: «الهرة سبع» وقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الهرة مرة»، واختلف المشايخ في علة المسألة فالمحكي عن الطحاوي أنه كان يقول: الهرة تشرب بلسانها، ولسانها رطب بلعابها، ولعابها متولد من عينها، وعينها نجس، فكذا لعابها، لقضية هذا (وجب) أن يكون سؤرها نجسًا لكن أسقطنا النجاسة ضرورة الطواف، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست ماسَّة لا يمكن الاحتراز عنها.
والمحكي عن الكرخي رحمه الله أنه كان يقول: عين الهرة ليست بنجسة ولعابها ليس بنجس، وكيف تكون نجسة مع أن الشرع أسقط نجاستها، إلا أن عامة مأكولاتها نجس، فإنها تأكل الفأرة والجيف، وعلى هذا التقدير يصير فمها نجسًا، لكن هذا ليس بأمر متيقن حتى يحكم بنجاسة السؤر، ولكنه غالب، فأثبتنا الكراهة كما في يد الصبي، والمستيقظ من المنام.
بعض مشايخنا قالوا: على قياس سؤر الهرة يجب أن يكون سؤر سواكن البيوت مكروهًا على الاختلاف، وبعضهم قالوا: سؤر سواكن البيوت مكروه بالاتفاق؛ لأن أبا يوسف رحمه الله إنما لم يقل بالكراهة في سؤر الهرة بالنص، ولا نص في سؤر سواكن البيوت، والله تعالى أعلم.
ومما يتصل بفصل الهرة:
إذا أكلت فأرة وشربت من إناء على فورها ذلك يتنجس الماء بلا خلاف، وإن مكثت ساعة أو ساعتين ثم شربت لا يتنجس الماء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد: يتنجس.
فأبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا مكثت ساعة أو ساعتين فقد غسلت فمها بلعابها، ولعابها طاهر، وإزالة النجاسة بما هو سوى الماء من المائعات عندي جائز، فشربت بعد ذلك وفمها طاهر. وأبو يوسف رحمه الله يقول: النجاسة وإن كانت لا تزول عندي إلا بصب الماء عليه لكن في مثل هذا الموضع يحكم بالزوال بدون الصب للضرورة.
ومحمد رحمه الله يقول: إزالة النجاسة بما سوى الماء من المائعات عندي لا يجوز، فبقي فمها نجسًا كما كان.
ونظير هذا ما قالوا فيمن شرب الخمر ثم تردد في فمه البزاق ما لو كانت تلك الخمر على ثوب طهرها ذلك البزاق: إنه يطهر فمه عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذلك الرجل إذا أصابته نجاسة في بعض أعضائه أو أصاب بدنه فلحسها بلسانه أو مسحها بريقه حتى ذهب أثره طهر وكذلك الصبي إذا قاء على ثدي أمه ثم مص ذلك مرارًا حكم بطهارته عند أبي حنيفة رحمه الله.
وعلى قياس مسألة السؤر قالوا في الهرة: إذا لحست كف رجل يكره له أن يدعها تفعل ذلك، لأن ريقها ليس بطيب ولأجل ذلك كره التوضؤ بسؤرها. وكذلك قالوا: الهرة إذا أكلت بعض الطعام كره للرجل أن يأكل الباقي؛ لأن ما بقي لا يخلو عن ريقها، وريقها ليس بطيب على ما بينا.
وأما النجس سؤر سباع البهائم، وقدَّ الكلام فيه ونجاسته غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه خفيفة وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف رحمه الله فقال: الناس اختلفوا في نجاسة سؤر (سباع) البهائم وطهارته فأوجب اختلافهم تخفيفًا فيه كبول ما يؤكل لحمه. وكذلك سؤر الخنزير وسؤر الكلب نجس، أما سؤر الخنزير: فلأن لعابه يتولد من عينه، وعينه نجس قال الله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] والنجس والرجس واحد.
وأما سؤر الكلب فنجاسته مذهبنا، وقال مالك: طاهر، فمن المشايخ من يسلم أن لحمه نجس ولعابه نجس بلا خلاف، إلا أنه يجعل هذه المسألة بناء على مسألة أخرى أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة هل يتنجس؟ عندنا يتنجس، وعنده لا يتنجس إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه، وولوغ الكلب لا يغير لون الماء ولا طعمه ولا ريحه، فلا ينجسه، ومنهم من يقول: بأن لحمه طاهر، ولعابه كذلك عند مالك فيكون سؤره طاهرًا. وعندنا لحمه نجس ولعابه كذلك، فيكون سؤره نجسًا.
حجة مالك: قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] أي خلق لمصالحكم ومنافعكم، والانتفاع يكون بالطاهر لا بالنجس، والنص يفيد طهارة لحمه ولعابه، ومن ضرورته طهارة سؤره.
وإنا نحتج بقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا» وهذا أمر بصيغة الجبر، وعن رسول الله عليه السلام «أنه أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا» والأمر بغسل الإناء لا يكون تعبدًا؛ لأن غسل الظروف لا تعد قربة فيدل ذلك على تنجسه، وإنما تنجس الإناء بولوغه إذا كان لعابه نَجسًَا وإنما يكون لعابه نجسًا إذا كان لحمه نجسًا.
وكذلك سؤر الفيل نجس كسؤر السباع، هكذا روي عن محمد رحمه الله وإنه ظاهر؛ لأن الفيل سبع، لأنه ذو ناب.
وأما المشكل فهو سؤر الحمار واختلف المشايخ المتأخرون في أن الإشكال في طهارته أو في طهوريته، وعامتهم على أن الإشكال في طهوريته، وإنما وقع الإشكال في طهارته. إما لأن الصحابة اختلفوا في نجاستهِ وطهارته، روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه نجس، وعن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أنه طاهر، وليس أحد القولين بأولى من الآخر فبقي مشكلًا، أو لأن الحمار يربط في الدور والأخبية فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ليست نظير الضرورة في الهرة لأن الهرة تدخل مضايق البيوت والحمار لا يدخل مضايق البيوت.
ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلًا كما في سؤر الكلب وسؤر سباع البهائم وجب الحكم بنجاسة سؤره بلا إشكال. ولو كانت الضرورة في الحمار نظير الضرورة في الهرة لوجب الحكم بإسقاط نجاسته وبقائه على الطهارة بلا إشكال. فإذا ثبتت الضرورة من وجه دون وجه عملنا بهما، ولوجود أصلها لم يحكم بنجاستهِ، ولانعدام ما يمنعها لم يحكم بالطهارة فبقي مشكوكًا فيه.
والأصح ما نقل عن عامة المشايخ أن الإشكال في طهوريته لا في طهارته، فقد روي عن محمد رحمه الله نصًا في (النوادر): أن سؤر الحمار طاهر ولكن الإشكال في طهوريته ما ذكرنا أن الحمار يربط في الأجنبية والدور فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ماسَّة من وجه دون وجه، لوجود أصلها لم يحكم بنجاسته لانعدام تمامها. أخرجناه من أن يكون طهورًا فلا يطهر ما كان نجسًا، ولا ينجس ما كان طاهرًا.
والحكم في سؤر البغل مثل الحكم في سؤر الحمار لأن البغل متولد من الحمار ومخلوق من مائه.
وبعض مشايخنا قالوا: حكم سؤر الحمار أخف من سؤر البغل لأن البلوى في حق الحمار أكثر من البلوى في البغال لكثرة الحمر وقلة البغال فيما بين الناس. وبعض الناس فرقوا في الحمير بين الفحل والأتان فقالوا: سؤر الفحل يكون نجسًا؛ لأنه يشم الأبوال فتتلطخ شفتاه وتتنجس. فإذا دخل في الماء القليل يتنجس الماء ضرورة، ولا كذلك الأتان لأنها لا تشم الأبوال.
وعندنا الكل مشكل لأن غمس الشفة في البول موهوم، والأصل هو الطهارة فلا تثبت النجاسة في شفتها بالشك، كما قلنا في الدجاجة المخلاة سؤرها طاهر، فاعتبار الأصل وإن كان الظاهر من حالها الجولان في العذرات. وعن الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن سؤر الحمار نجس؛ لأن لعابه لا يخلو عن قليل الدم لما يلحقه من التعب بحمل الأثقال، ولكن هذا المعني يشكل بسؤر الدواب التي يؤكل لحمها ويحل عليها نحو البعير والبقر. وذكر البلخي في (اختلاف زفر ويعقوب): أن سؤر الحمار نحسٌ عند زفر والحسن نجاسة حقيقية طاهر عند أبي يوسف. وفي باب السهو من (الأصل) وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا سقط شيء من لعابها في وضوء رجل قليلًا كان أو كثيرًا يفسد الماء ولا يجزئ من توضأ به.
وذكر في باب الوضوء من (الأصل) الجواب في لعاب ما لا يؤكل لحمه ولم يضفه إلى أحد. قال بعض مشايخنا في (شرحه): أراد بفساد الماء هاهنا أن لا يعد طهورًا. وروى البغداديون عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن سؤر ما لا يؤكل لحمه بمنزلة بوله إذا كان أكثر من قدر الدرهم الكبير أفسد الصلاة.
وأما سؤر الفرس فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه أربع روايات. قال في رواية: أحبّ إليّ أن يتوضأ بغيره، وهذه رواية البلخي عنه، وفي رواية الحسن: أنه مكروه كلحمه. وفي رواية أخرى قال: هو مشكوك كسؤر الحمار، لأن لحم الفرس عنده حرام كلحم الحمار.
وفي رواية كتاب (الصلاة) قال: هو طاهر وهو الصحيح من مذهبه لأن كراهية لحمه عنده ما كانت لنجاسته بل لاحترامه لأنه آلة الجهاد، وحرمة اللحم لأجل الاحترام لا توجب نجاسة السؤر كسؤر الآدمي. وعندهما: سؤره طاهر والله أعلم.

.فصل في بيان حكم عرق الحيوانات ولعابها:

ذكر الكرخي والطحاوي رحمهما الله في (مختصريهما) أن عرق كل شيء مثل سؤره في النجاسة والطهارة والحرمة والكراهة. وفي باب السهو من (الأصل): أن عرق الحمار والبغل ولعابهما لا ينجس الثوب وإن فَحُشَ.
وإذا وقعا في الماء القليل أفسداه وإلا فلا. قال بعض مشايخنا وهذا بتفرقةٍ بين الثوب والماء كما ظنه بعض المشايخ لأنه لم يحكم بنجاسة الثوب الطاهر بالشك ولم يحكم بزوال الحدث بذلك الماء بالشك حتى لو وقع ذلك الثوب في الماء القليل لا يجوز التوضؤ به.
ولو أصاب ذلك الماء الثوب لا يمنع جواز الصلاة فيه وإن فحش.
وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن الماء يتنجس بوقوع عرق الحمار فيه. وفيه أيضًا: أن عرق الحمار نجس نجاسة خفيفة حتى إن الكثير الفاحش على ربع الثوب يمنع جواز الصلاة وما دونه لا يفسد الصلاة. وهكذا روى عنه (الأمالي)، وفي (جامع البرامكة) عن أبي حنيفة رواية أبي يوسف في عرق الحمار: أنه إذا كان أكثر من قدر الدرهم أفسد الصلاة. وذكر ابن سماعة في (نوادره) عن محمد رحمهما الله أن عرق الحمار ولعابه إذا وقع في البئر مثلًا كيف ينزح ماء البئر.
يحتمل أنه إنما قال: ينزح حتى يصير طهورًا، ويحتمل أنه إنما قال ذلك حتى يصير البئر طاهرًا.
وعن أبي حنيفة رحمه الله في عرق الحمار ثلاث روايات، في رواية قال: هو طاهر، فقد روي أن رسول الله عليه السلام «كان يركب الحمار معروريًا»................ فلابد أن يعرق الحمار، والمعنى أن للناس في عرق الحمار ضرورة لأنهم يركبون الحمار عريًا في الصيف والشتاء في الحضر والسفر، فلابد وأن يعرق الحمار، ولو لم يحكم بطهارته ضاق الأمر على الناس ووقعوا في الحرج.
وفي رواية قال: هو نجس نجاسة خفيفة؛ لأن في عرق الحمار ضرورة على ما بينّا، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة لأنه يمكن التحرز عنها، ولوجود أصل الضرورة أسقطنا الغلظ. ولما أن الضرورة ليست ماسَّة أثبتنا النجاسة عملًا بالدليلين جميعًا.
وفي رواية أخرى قال: هو نجس نجاسة غليظة؛ لأن عرقه يتولد من لحمه ولحمه نجس نجاسة غليظة، وما يتولد من لحمه يكون بهذه الصفة.
وفي (القدوري): أن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن عرق الحمار والبغل نجس وإنما جعل عفوًا في الثوب والبدن لمكان الضرورة.
ولبن الأتان نجس في ظاهر الرواية. وروي عن محمد رحمه الله: أنه طاهر ولا يؤكل.
وروي عن أصحابنا في لبن المرأة الميتة أنه طاهر وكذا لبن الشاة الميتة والبقرة الميتة والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:

.بيان ما يجوز التوضؤ من المائعات سوى الماء وما لا يجوز:

ولا يجوز التوضؤ بشيء من المائعات سوى الماء نحو الخل والدهن والمرئي وما أشبه ذلك. وأما التوضؤ بالأنبذة اتفقوا على أنه لا يجوز حال وجود الماء، وأما حال عدم الماء قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز التوضؤ بنبيذ التمر، فقد ذكر في (الجامع) عن أبي حنيفة رحمه الله في المسافر إذا لم يجد إلا نبيذ التمر: أنه يتوضأ به ولا يتيمم، وقال في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة: لو تيمم مع ذلك أحب إليّ وإن لم يتيمم أجزأه.
وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة: أنه رجع عن ذلك، وقال: لا يتوضأ به ويتيمم، وهو قول أبي يوسف رحمه الله والشافعي ومالك، وقال محمد رحمه الله يجمع بينهما، وستأتي المسألة في باب التيمم إن شاء الله تعالى.
وحكي عن أبي طاهر الدباس أنه يقول: إنما اختلاف أجوبة أبي حنيفة في نبيذ التمر باختلاف السيولة، كأنه سئل عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كان الماء غالبًا على الحلاوة فأجاب وقال: يتوضأ به ولا يتيمم. وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانت الحلاوة غالبة قال: يتيمم ولا يتوضأ به وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانا سواء قال: يتوضأ به ويتيمم، فعلى هذا يرتفع الخلاف.
قال القدوري في (كتابه) وكان أصحابنا يقولون: إن التوضؤ بالنبيذ على أصولهم يجب أن لا يصح إلا بالنية كالتيمم؛ لأنه بدل عن الماء كالتيمم؛ ولهذا لا يجوز التوضؤ به حال وجود الماء إلا أنه مقدم على التيمم بالحين، لما كان بدلًا لا يجوز التوضؤ به بدون النية كالتيمم.
ولا نصّ عن أبي حنيفة في الاغتسال بنبيذ التمر، واختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجوز؛ كالوضوء، وبعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأن جواز الوضوء عرف بخلاف القياس بالخبر، والاغتسال فوق الوضوء لا يلحق به في حق حكم ثبت بخلاف القياس، ثم لم يصف محمد رحمه الله نبيذ التمر في (الأصل) وفي (الجامع الصغير).
وإنما وصفه في (النوادر) فقال: على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا كان رقيقًا يسيل على العضو إذا صب عليه، وأما إذا كان مثل الزيت غليظًا بأن ألقى تمرات في الماء وطبخ ذلك الماء حتى صار غليظًا، أو عصيرًا لرطب حتى سال منه الماء فذلك يسمى دبسًا فلا يجوز التوضؤ به، ثم الرقيق منه ما دام حلوًا وحامضًا فالتوضؤ به جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، وكذا إذا غلا واشتد وقذف بالزبد يجوز التوضؤ به عند أبي حنيفة رحمه الله أيضًا ذكره أبو الليث رحمه الله في (كتابه)، وذكر أبو طاهر الدباس وأبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه لا يجوز التوضؤ به بعدما اشتد وصار مسكرًا بالإجماع، وهذا إذا كان نيئًا أما إذا كان طبخ أدنى طبخة قال الكرخي رحمه الله: يجوز التوضؤ به مرًا كان أو حلوًا عند أبي حنيفة رحمه الله، ومن المشايخ من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: إن كان حلوًا يجوز التوضؤ به؛ لأنه مَاءٌ طبخ مع التمر فصار كماء طبخ مع الصابون والأشنان، وإن اشتد فهو نجس على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله فلا يجوز التوضؤ به.
ولا يجوز التوضؤ بسائر الأنبذة عندنا، خلافًا لبعض الناس، فإنهم قاسوا سائر الأنبذة على نبيذ التمر، ونحن نقول: جواز التوضؤ بنبيذ التمر عرف بالسنة فلا تجوز سائر الأنبذة بالقياس والله أعلم بالصواب.

.الفصل الخامس في التيمم:

الأصل في جواز التيمم قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا} [النساء: 43] وقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» وقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت». وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في كيفيتهِ وصفته.
قال محمد رحمه الله في بعض روايات (الأصل): يضع يديه على الأرض، وقال بعضهم يضرب يديه على الأرض ضربة، والآثار جاءت بلفظة الضرب أفضل لأن بالضرب يدخل التراب إلى الأصابع وبالوضع لا يدخل. ثم قال بعضهم: ويمسح بهما وجهه، والمروي عن أبي يوسف رحمه الله أن ينفضهما مرتين، والمروي عن محمد رحمه الله أن ينفضهما مرة. قالوا: ولا خلاف في الحقيقة؛ لأن ما روي عن أبي يوسف محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء كثير، وما روي عن محمد محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء قليل والمرة تكفي، والمرتان لا بأس بهما، وهذا لأن الواجب المسح بكف موضوع على الأرض لا استعمال التراب لأن ذلك مثله.
قال: ثم يضرب يديه ضربة أخرى على الأرض ثم ينفضهما ويمسح اليمن باليسرى ويمسح اليسرى باليمن، يمسح كفيه وذراعيه إلى المرفقين، هذا هو مذهب علمائنا. وللعلماء في المسألة أقاويل كثيرة، والصحيح مذهبنا، لما روي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين». وعن بعض موالي رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين».
ولم يذكر في (الكتاب) نصًا أنه يضرب ظاهر كفيه على الأرض أو باطنهما، وإنما أشار إلى أنه يضرب باطنهما فإنه قال: فإن مسح وجهه وذراعيه ولم يمسح ظهر كفيه لا يجوز، وإنما يستقيم وضع المسألة على هذا الوجه إذا كان يضرب باطن كفيه على الأرض، قال أبو يوسف رحمه الله في (الإملاء): سألت أبا حنيفة رحمه الله عن التيمم فقال: الوجه والذراعان إلى المرفقين، فقلت: كيف؟ قال: بيده على الصعيد فأقبل بيديه وأدبر ثم نفضهما ثم مسح وجهه ثم أعاد كفيه جميعًا على الصعيد فأقبل بهما وأدبر ثم رجعهما ونفضهما ثم مسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها إلى المرفقين.
وفي قوله: فأقبل بهما وأدبر وجهان:
أحدهما: أنه ضرب ببطن كفيه وظهرهما على الأرض. وعلى هذا الوجه يصير هنا رواية أخرى، بخلاف ما أشار إليه محمد رحمه الله.
والثاني: أنه أقبل بهما وأدبر لينظر هل التصق بكفيه شيء يصير حائلًا بينه وبين الصعيد، وقال بعض مشايخنا في كيفية التيمم: أنه إذا ضرب يديه على الأرض في المرة الثانية. ونفضها ينبغي أن يضع بطن كفه اليسرى على ظهر كفّه اليمنى ويمسح بثلاثة أصابع يده اليمنى أصغرها ظاهر اليد اليسرى إلى المرفق ثم يمسح باطنه بالإبهام، والمستحب إلى رؤوس الأصابع.
وهل يمسح الكف؟ تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يمسح لأنه مسحه مرة حين يضرب يديه على الأرض. ثم يفعل باليد اليسرى على نحو ما ذكرنا في اليد. اليمن ولو مسح وجهه وذراعيه بضربة واحدة لا يجزئه.
ولو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل. وفي بعض المواضع ذكر المسألة من غير شرط نية التيمم، والصحيح ما قلنا؛ لأن النية في التيمم شرط لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو قام فهبت الريح أو هَدَمَ حائِطًَا فأصاب الغبار وجهه وذراعيه فمسحه بنية التيمم جاز في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن المقصود قد حصل، وبدون المسح بنية التيمم لا يجوز. وعلى هذا إذا ذرّ رجل على وجهه ترابًا لم يجز، فإن مسح ينوي به التيمم والغبار على وجهه جاز على قول أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا.
ذكر الكرخي رحمه الله في كتابه: أن استيعاب العضوين بالتيمم واجب في ظاهر رواية أصحابنا حتى لو ترك المتيمم شيئًا قليلًا من مواضع التيمم لا يجزئه وهذا ظاهر؛ لأن التيمم قائم مقام الوضوء. ولو ترك المتوض شيئًا قليلًا من مواضع الوضوء في الوضوء لا يجزئه كذا هذا.
وروي عن محمد رحمه الله في (النوادر) ما يؤكد هذا القول، فإنه روي عنه في (النوادر) أنه إذا لم يدخل الغبار من أصابعه فعليه أن يخلل ما بين أصابعه، وفي هذه الحالة يحتاج إلى ثلاث ضربات: ضربة للوجه وضربة لليدين وضربه لتخليل الأصابع، وهذا دليل على أنه إذا كان في أصبعيه خاتم أو على يدي المرأة سوار فلم ينزع في حالة التيمم أنه لا يجزئه. وروى الحسن عن أصحابنا أنه إذا ترك أقل من الربع يجزئه.
وفي (المجرد) رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا مسح أكثر الكف والذراعين أنه يجوز كما في مسح الرأس ومسح الخف فعلى هذه الرواية الغرض استيعاب أكثر المحلّ لأن استيعاب جميع المحل؛ في الممسوحات لا يكون شرطًا يحرج لأن لا...
وعلى هذه الرواية لا يجب تخليل الأصابع وينزع الخاتم والسوار. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي أن يحفظ هذه الرواية حدًا لكثرة البلوى فيه، وروي عن محمد رحمه الله ما يخالف رواية الحسن فإنه روي عنه أنه لو ترك المسح على ظهر كفه لا يجزئه وظهر الكف أقل من الربع، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ظاهر الرواية ما رواه الحسن أن المتروك لو كان أقل من الربع أنه يجوز وتخريج مسألة ظهر الكف: أن الكف عضو على حدة، فظهر الكف لا يكون أقل من الربع، فعلى رواية الحسن يحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الوضوء:
وجه الفرق: أن حكم الوضوء أغلظ من حكم التيمم لذا شرع التيمم في عضوين والوضوء في أربعة أعضاء، واختلف العلماء في وجوب التيمم في الذارعين، قال الشافعي في القديم لا يجب، وهو قول مالك............ وقدروا الكبير بالربع، وإذا تيمم وهو مقطوع اليدين من المرافق فعليه أن يمسح موضع القطع عندنا ولا يجزئه تركه، وعند زفر رحمه الله لا يمسح بناءً على أن المرفق عنده لا يدخل في فرض الطهارة.
فإن قيل: كيف يجب مسح ذلك الموضع وإنه لم يكن واجبًا قبل القطع قلنا: إنما لم يجب قبل القطع؛ لأنه كان مستورًا فلما قطع صار مكشوفًا، فإن كان القطع من فوق المرفق بأن كان من المنكب أو دون ذلك لم يكن عليه مسحه؛ لأنه لا يجب عليه غسله في الوضوء قبل القطع فلا يجب مسحه في التيمم بعد القطع والله أعلم.

.نوع آخر في بيان شرائطه:

فنقول من شرط صحته: النية وهذا مذهبنا، وقال زفر رحمه الله النية ليست شرطًا لصحته، حجته: أن التيمم طهارة بالنص فلا يحتاج إلى النية كالوضوء. لنا: أن التيمم ليس بطهارة حقيقية. وإنما جعل طهارة بطريق الضرورة في حق المريد لإقامة القربة ولا إرادة إلا بالنية. واسم التيمم دليل عليه، فإنه عبارة عن القصد والقصد بدون النيّة لا يكون.
وتكلموا في كيفية النية روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: ينوي الطهارة لقربة لا تتأدى من غير طهارته؛ لأنها شرعت لأجلها، وذكر القدوري فقال: ينبغي أن ينوي الطهارة واستباحة الصلاة. وعن محمد رحمه الله في الجنب إذا تيمم يريد بها الضوء أجزأه من الجنابة؛ لأن التيمم طهارة فلا تعتبر نية استباحتها كالوضوء. وعن أبي بكر الرازي رحمه الله: أنه لابد من التمييز فينوي الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما بصفة واحدة فلابد من التمييز بالنية كالصلاة التي تقع عن الفعل والعرض لما كانت على صفة واحدة شرط نية التعيين كذا هذا.
وذكر القدوري في (شرحه): أنه لو تيمم للنافلة جاز أداء الفرض به، وقال الشافعي: لا يجوز لأنها طهارة ضرورية فلا تظهر إلا فيما فيه ضرورة، ولنا: أن الضرورة إنما اعتبرت لضرورة التيمم طهارة. فإذا صارت طهارة بحكم الضرورة لا يفصل بين نوع ونوع، ألا ترى أنه لو تيمم للفرض جاز أداء النافلة به، ولم يعتبر ما قال كذا هذا.
وعلى هذا الخلاف إذا تيمم لفرض جاز أداء فرض آخر به عندنا خلافًا للشافعي. والمعنى من الجانبين ما ذكرنا وقوله عليه السلام: «التراب كافيك ولو إلى عشر حجج»، دليل لنا في المسائل كلها وفي (الفتاوى): إذا تيمم الجنب لقراءة القرآن أو لمس المصحف أو لدخول المسجد لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم عند عامة العلماء إلا على قول أبي بكر ابن سعيد البلخي.
ولو تيمم لصلاة الجنازة أو لسجدة التلاوة أجزأه أن يصلي به المكتوبة بلا خلاف؛ لأن في الوجه الأول التيمم لم يقع في صلاة ولا لجزء من الصلاة. وفي الوجه الثاني وقع للصلاة أو لجزء من الصلاة، وقوله: لو تيمم لسجدة التلاوة دليل على أنه يجوز التيمم لسجدة التلاوة. وذكر القدوري في (شرحه): أنه لا يجوز التيمم لسجدة (التلاوة) لأنها غير قربة فلا، يخاف فوتها لو أخّر إلى وقت الوضوء، والحاصل: أن على قول عامة العلماء: لو وقع التيمم للصلاة أو لجزء من الصلاة جاز أن يصلي به صلاة أخرى وما لا فلا.
وعلى هذا: إذا تيمم يريد به تعليم غيره أو تيمم لزيارة القبر لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم. ولو تيمم الكافر ثم أسلم لم يجزئه أن يصلي بذلك التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
ومن جملة الشرائط: طلب الماء في العمرانات حتى لو تيمم في العمرانات قبل الطلب لا يجزئه التيمم، وهذا بخلاف. وأما في الفلوات لا يشترط الطلب عندنا خلافًا للشافعي، حجته في ذلك: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا} [النساء: 43]. ومعناه: بعد الطلب لأنه لا يقال لغير الطالب، لم يجد.
ولنا: أن الطلب غير منصوص عليه في الآية، والوجود لا يقتضي الطلب قال الله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102]، وقال عليه السلام: «من وجد لقطة فليعرفها» ويقال: يجد فلان مرضًا في نفسه. فمن شرط الطلب فقد زاد على النص.
والمعنى فيه: أنه تيمم حال عدم الماء من حيث الحقيقة والظاهر وعدم الدليل عليه فيجزئه كما بعد الطلب، بيانه: أن العدم ثابت وجه الحقيقة وإنه حد الوجود وانعدم الدليل الدال على الوجود أيضًا من حيث الظاهر لأن الظاهر في الفلوات عدم الماء بخلاف العمرانات؛ لأن العدم من حيث الحقيقة إن كان ثابتًا فمن حيث الظاهر غير ثابت، فإن قيام العمارة بالماء فلم يثبت العدم من حيث قيام الدليل الدال على الماء وشرط الجواز عدمٌ مطلق.
وإذا غلب على ظن المسافر أن بقربه ماء لو طلبه وجده أو أخبر به، وجب عليه الطلب بالإجماع، وإنما الخلاف فيما إذا لم يغلب على ظنه ذلك أو لم يخبر به.
والترتيب في التيمم ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو بدأ بذراعيه في التيمم يجوز عندنا، وكذلك الموالاة ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو مكث بعدما يمّم وجهه ساعة ثم يمّم ذراعيه أجزأه عندنا اعتبارًا للتيمم بالوضوء والله أعلم.
ومن جملة الشرائط: عجزه عن استعمال الماء، وإذا تيمم المسافر والماء منه قريب وهو لا يعلم أجزأه تيممه، لأنه عاجز عن استعماله، حين عَدِمَ آلة الوصول إليه وهو العلم به فهو كما لو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستقاء فله أن يتيمم فكذلك هاهنا. فإن كان عالمًا بالماء لم يجز التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء.
وإن كان الماء بعيدًا عنه جاز له التيمم وإن كان عالمًا به، يذكر في (الكتاب) حد القرب والبعد. وروي عن محمد رحمه الله أنه إذا كان بينه وبين الماء دون ميل لا يجزئه اليتيم ويكون قريبًا وإن كان ميلًا أو أكثر أجزأه التيمم لكونه بعيدًا، والميل ثلث فرسخ، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: إنما يكون الميل بعيدًا عن يمينه أو عن يساره أو خلفه حتى يصير ميلين ذهابًا ورجوعًا. فأما هنا إذا كان قدامه فإنه يكون الميل قريبًا فيعتبر ميلين لجواز التيمم. كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في رواية أبي حنيفة مع محمد رحمهما الله وفسّر الميل بثلاثمائة ذراع وخمسمائة ذراع إلى أربعة آلاف. هكذا فسره ابن شجاع في (كتابه). وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه حدّ لهذا بحد آخر وقال: إن كان بحال لو اشتغل به تذهب القافلة وتغيب عن بصره يكون بعيدًا وإن كان على العكس فهو قريب.
وذكر شيخ الإسلام هذه الرواية. وذكر زفر رحمه الله: إذا كان بحيث يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجزئه التيمم، وإن كان على العكس يجزئه لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، ولكنا نقول: التفريط جاء من قبله بتأخير الصلاة فليس له أن يتيمم إذا كان الماء قريبًا منه. هذا الذي ذكرنا في حق المسافر.
وأما المقيم إذا خرج من مصره لا يريد سفرًا وقد بعد عن المصر وليس معه ماء، هل يجوز له التيمم؟ سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وذكر الكرخي رحمه الله في (كتابه): إذا كان بحيث يبلغه صوت أهل الماء يكون قريبًا، لا يجوز له التيمم، فإن كان لا يبلغه صوتهم يكون بعيدًا فحينئذ يجوز له التيمم.
وإذا كان مع رفيقه ماء ولم يكن معه ماء فإنه يسأل، هكذا ذكر في (الأصل) رأيت في موضع آخر عن أصحابنا: إذا كان غالب ظنه أنه يعطيه لم يجز له أن يتيمم بل يسأل. وعلى قول الحسن بن زياد رحمه الله: لا يسأل فإن سأله فأبى أن يعطيه إلا بالثمن ولم يكن معه ثمنه فإنه يتيمم بالإجماع لعجزه عن استعمال الماء، وإن كان معه ثمنه فهذا على ثلاثة أوجه: أما إن أعطاه بمثل قيمته في ذلك الموضع، أو بغبنٍ يسير، أو بغبن فاحش.
ففي الوجه الأول والثاني ليس له أن يتيمم بل يشتري ويتوضأ، هكذا ذكره في بعض المواضع، وفي بعض المواضع إذا باعه. بمثل القيمة أو بغبن يسير ومعه مال زيادة عليها يحتاج إليه في الزاد مقدار ثمن الماء لا يتيمم بل يشتري الماء، وفي الوجه الثالث يتيمم، وقال الحسن البصري رحمه الله: يلزمه الشراء بجميع ماله لأنه لا......... لأن حرمة مال المسلم كحرمة النفس قال عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد». ثم لو خاف تلف عضو جاز له التيمم، فإذا خاف............ أولى أن يجوز التيمم.
ولم يذكر في (الأصل) للغبن الفاحش تقديرًا، وقد ذكر في (النوادر) إن كان المال الذي يكفي للوضوء يوجد في ذلك الموضع بدرهم فأبى أن يعطيه صاحب الماء إلا بدرهم ونصف يلزمه أن يشتري ولا يتيمم، وإن أبى أن يعطيه إلا بدرهمين يتيمم ولا يشتري، فجعل الغبن الفاحش في تضعيف الثمن.
وإنما قلنا: إذا كان يعطيه بمثل ثمنه أو بنصف يسير فعليه أن يشتري لأن قدرته على بذل الماء كقدرته على عينه، كما أن القدرة على ثمن الرقبة كالقدرة على عينها في المنع من التكفير بالصوم، وقال بعضهم: الغبن الفاحش ما لا يدخل تحت تقويم المقومين.
وفي (القدوري): إذا زاده على ثمن المثل بما لا يتغابن الناس فيه يتيمم، ولم يلزمه الشراء، وهو والذي قبله سواء، وتعتبر قيمة الماء في أقرب المواضع من الموضع الذي يشتري فيه، وقد أشار في مسألة (النوادر) إلى أعشار قيمته في المكان الذي يشتري فيه، وذكر الشيخ الإمام الصفار: المسافر إذا كان في موضع عز الماء في ذلك الموضع فالأفضل أن يسأل، وإن لم يسأل وتيمم وصلى فإنه تجوز صلاته، لأن الظاهر أنه يجري الشح في الماء في مثل ذلك الموضع، ولو أعطاه بعد ذلك لا تجوز صلاته، وعليه أن يعيد تلك الصلاة لأنه لما أعطاه كان الظاهر أنه لم يسأل قبل ذلك العطاء. فإذا لم يسأل جاء التقصير من قبله فلا يجوز.
فأما إذا كان في موضع لا يرى فيه الماء فإنه يسأل حتى أنه لو لم يسأل وصلى بالتيمم لا تجوز صلاته كما في....... الظاهر أنه لا يجري الشح والصفة في مثل هذا الموضع، فلو أنه سأل فأبى أن يعطيه فتيمم وصلى ثم أعطاه بعد ذلك فإنه تجوز صلاته، لأنه عجز عن استعمال الماء وقت أداء الصلاة، فالقدرة على استعماله بعد ذلك لا ينفع كما إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء. وقد ذكرنا هذا.
قال شمس الأئمة: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمهما الله يقول: إن بعض الحجاج إذا انصرفوا من حجّهم يضعون ماء زمزم في آنية الاستسقاء أو للعطية، ويجعلون رأس الآنية مرصصًا ولا يخافون على أنفسهم العطش، فربما يعزّ الماء في بعض المواضع فيتيممون وماء زمزم في رحلهم ويرون ذلك جائزًا، وهذا منهم جهل وحمق لأنهم واجدون للماء فلا يجزئهم التيمم.
وذكر هذه المسألة في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله وذكر فيها حيلة فقال: الحيلة أن يهب ذلك الماء لمن يسلمه إليه ثم إن الموهوب له يستودعه منه فيجوز له التيمم، إلا أن هذه الحيلة عندنا ليست بصحيحة؛ لأن القدرة على استعمال الماء بواسطة الرجوع في الهبة ثابتة فيمنع جواز التيمم، ألا ترى أن القدرة على استعمال الماء بالشراء منعت جواز التيمم فهاهنا أولى.
فإن كان مع رفيقه دلو وليس معه دلو فإنه لا يجب عليه أن يسأل، وفي الماء يجب عليه أن يسأل. والفرق: وهو أن الوضوء يحصل بالماء لا بالدلو فربما يمكنه الاستقاء بالدلو وربما لا يمكنه وربما يعطيه وربما لا يعطيه، فلا حلية بالسؤال، فإن سأل الدلو، فقال له: انتظر حتى استقي الماء ثم أدفع إليك الدلو فالمستحب عند أبي حنيفة رحمه الله أن ينتظر إلى آخر الوقت فإن خاف فوات الوقت صلى، وعندهما ينتظر وإن خاف فوات الوقت.
وعلى هذا الاختلاف: إذا كان عريانًا ومع رفيقه ثوب فقال: انتظر حتى أصلي ثم أدفع إليك الثوب. وأجمعوا على أنه إذا قال لغيره: أحل لك مالي لتحج فإنه لا يجب عليه الحج، وأجمعوا أن الماء ينتظر وإن خرج الوقت.
وحاصل الاختلاف راجع إلى أن القدرة على ما سوى الماء هل تثبت بالإباحة، عند أبي حنيفة رحمه الله لا تثبت بالإباحة، وإنما تثبت بالملك، ولم يوجد هاهنا الملك، فلم تثبت القدرة فيجزئه التيمم. وعندهما القدرة على ما سوى الماء كما تثبت بالملك تثبت بالإباحة، وقد وجدت الإباحة هاهنا فثبتت القدرة وصار كما لو كان معه دلو مملوك له، ولو كان هكذا يجوز التيمم كذا هاهنا.
وإذا انتهى إلى بئر وليس معه دلو كان له أن يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وكذا إذا كان معه دلو إلا أنه ليس معه رشاء فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء قالوا: إذا لم يكن معه منديل طاهر يصلح لذلك، فإن كان ذلك لا يتيمم، فإذا أتى حيًّا من الأحياء وطلب الماء فلم يجد فصلى بالتيمم فهو على وجهين: إن رأى قومًا من أهله ولم يسألهم وصلى بالتيمم ثم سألهم وأخبروه بالماء لم تجز صلاته. وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يَرَ قومًا من أهله جازت صلاته.
فإن كان معه سؤر حمار أو بغل وليس معه غير ذلك، يتوضأ ويتيمم، يريد به الجمع والترتيب، وإنما أمره بالجمع؛ لأن سؤر الحمار مشكل على ما مر، فأمر بالجمع احتياطًا، وبأيهما بدأ جاز عندنا؛ لأن الاحتياط في الجمع لا في الترتيب، ولكن الأفضل أن يبدأ بالوضوء ليكون عاريًا للماء الطاهر فيتعين، فإن لم يفعل إلا أحدهما وصلى، أعاد الصلاة لأن في أداء الصلاة بالطهارة شكًا. فإن كان في الجمع احتياطًا، من الوجه الذي قلتم ففيه ترك الاحتياط من وجه آخر، لأنه إن كان الإشكال في طهارته ونجاسته كما ذهب إليه بعض المشايخ فعلى تقدير أنه نجس تتنجس أعضاؤه ويصلي مع الأعضاء النجسة.
قلنا: موضوع المسألة أنه لا ماء غير سؤر الحمار، ومن كان أعضاؤه نجسة وليس معه ماء طاهر حتى يغسلها جاز له أن تيمم ويصلي، فليس في الجمع ترك الاحتياط، فإن توضأ بسؤر الحمار وصلى ثم تيمم وصلى تلك الصلاة في الصحيح أنه لا يلزمه الإعادة، وكذلك لو بدأ بالتيمم وصلى ثم توضأ بسؤر الحمار وصلى لا يلزمه الإعادة.
ولو تيمم وصلى ثم أهراق سؤر الحمار يلزمه إعادة التيمم والصلاة لاحتمال أن سؤر الحمار كان طاهرًا. فإن كان معه نبيذ التمر وليس معه غيره قال أبو حنيفة رحمه الله يتوضأ ولا يتيمم. هكذا ذكر في (الزيادات) وفي (الجامع الصغير) وذكر في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله: وأن يتيمم مع ذلك أحبّ إليّ، غير أنه لو ترك التيمم أجزأه. ولو ترك التوضؤ به لا يجزئه.
وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة رحمه الله: أن التوضؤ بنبيذ التمر منسوخ فيتيمم ولا يتوضأ، وهو قول أبي يوسف ومالك والشافعي. وقال محمد رحمه الله: يجمع بينهما كما في سؤر الحمار وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، فإن لم يجد إلا سؤر الكلب يتيمم ولا يتوضأ به عندنا.
وإن مرّ المسافر بمسجد فيه عين ماء وهو جنب ولا يجد غيره فإنه يتيمم لدخول المسجد ثم يدخل المسجد ويستقي من البئر، وإن لم يكن معه ما يستقي به ولا ما يستطيع به أن يفترق منه ولكنه يستطيع أن يقع فيها؛ فإن كان ماءً جاريًا، أو حوضًا كبيرًا اغتسل فيه، وإن كان عينًا صغيرًا لا يغتسل فيه، لأنه لو اغتسل فيه يتنجس الماء ولا يطهر فلا يشتغل به ولكنه يتيمم للصلاة. وهذا إشارة إلى أنه لا يصلي بالتيمم الأول لأن قصده من ذلك دخول المسجد لا الصلاة. وقد مرّ جنس هذه المسائل.
قال في (الجامع الصغير): رجل يصلي وفي رحله ماء قد نسيه فتيمم وصلى ثم تذكر الماء بعد فراغه من الصلاة والوقت قائم يجزئه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجزئه.أبو يوسف يقول: التيمم شرع حال عدم الماء بالنص وهو واجدٌ للماء فالنسيان لا يضاد الوجود إنما يضاد العلم ولأنه تيمم قبل طلب الماء في مقرب الماء فلا يجوز قياسًا على ما إذا تيمم في العمرانات قبل طلب الماء......... المسافر مقرب الماء كما أن العمرانات موضع الماء. وهما قالا: إن الوجود المذكور في النص عبارة عن القدرة فكأن الله تعالى قال: فإن لم تقدروا على استعمال الماء. ألا ترى أنه لو كان مريضًا يضره استعمال الماء، أو كان ثمة سبع، أو ليس معه دلو فهو واجد للماء لكن لم يقدر على استعماله جاز له التيمم، وهاهنا عجز عن استعماله عند البلوى وهو النسيان، والنسيان مما لا يمكن دفعه عن نفسه كالمرض بل النسيان أبلغ من المرض، فإن المريض لو تكلّف يمكنه استعمال الماء، والناسي وإن تكلف لا يمكنه استعمال الماء.
وقوله: إن على المسافر......... موضع الحاجة إلى الماء، والماء الذي في الرحل ليس له فلا يفصل عن الحاجة، فوقع التعارض فسقط فرض الطلب بخلاف القرية العامرة، والثاني: أن......... اعتبار ظنه بمنزلة الاختيار، إنسان في العمرانات يعدم الماء ثم هناك تيمم فكذا هذا.
ثم قول محمد رحمه الله في (الكتاب): رجل في رحله ماء قد نسيه، دليل على أن الخلاف فيما إذا علم بكون الماء في رحله في الابتداء... بأن وضعه بنفسه أو وضع غيره بأمره، ثم خفي عليه لأن النسيان إنما يكون بعد العلم، فعلى هذا لو كان الواضع غيره وهو لا يعلم به فإنه يجوز التيمم بالاتفاق. وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا. وقال بعض مشايخنا: الخلاف في الكل واحد وإليه أشار في كتاب الصلاة، فإنه قال في كتاب الصلاة: مسافر تيمم وفي رحله ماء وهو يعلم، وهذا يتناول النسيان وغيره، وإنما إذا صلى عريانًا وفي رحله ثوب وهو لا يعلم به، فمن المشايخ من قال: هو على هذا الخلاف، ومنهم من قال: لا تجوز الصلاة هاهنا بلا خلاف، قال الكرخي رحمه الله: لم تزل هذه المسألة مشكلة عليَّ حتى وجدتُ الرواية عن محمد رحمه الله أنه قال: تجزئه صلاته ولا يلزمه الإعادة.
والجواب في هذه المسائل فيما إذا تذكر في الوقت وفيما إذا تذكر بعد خروج الوقت سواء، وإن قيده في الكتاب بالوقت لأن المعنى لا يوجب الفصل. وإذا تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به فصلى بتيممه جاز عندهما، خلافًا لأبي يوسف رحمة الله عليهم، وكذلك إذا ضرب خباء على رأس بئر قد علا رأسها وفيها ماء وهو لا يعلم أو كان على شط النهر ولا يعلم فتيمم وصلى به فهو على هذا الخلاف.
وإذا كانت الإداوة معلقة من عنقه وفيها ماء فنسيه وصلى بالتيمم، بعض مشايخنا على أنه على هذا الخلاف أيضًا، وحكي عن الحاكم الإمام عبد الرحمن رحمه الله أنه كان يقول في فصل الإداوة أنه لا يجوز بلا خلاف لأنه نسي ما لا ينسى وجهل ما لا يجهل.
ولو كان الماء معلقًا على الأكتاف فهو على وجهين: إما أن يكون سائقًا أو راكبًا فلا يخلو إما إن الماء مقدم الرحل أو مؤخره، فإن كان راكبًا والماء في مؤخرة الرحل يجزئه لأنه نسي ما ينسى عادة، فإن كان الماء في مقدم الرحل لا يجزئه لأنه نسي ما لا ينسى عادة، وإن كان سائقًا وكان الماء في مؤخرة الرحل لا يجزئه، وإن كان مقدمه يجزئه.
ولو كفّر بالصوم وفي ملكه رقبة أو ثياب أو طعام قد نسيه فلا رواية فيه، وقد قيل يجزئه عندهما، والصحيح أنه لا يجزيه لأن الوجود في الكفارة عبارة عن الملك ولم ينعدم الملك بالنسيان، والوجود في التيمم عبارة عن القدرة وبالنسيان انعدمت القدرة والله أعلم.

.نوع آخر في بيان وقت التيمم:

قال محمد رحمه الله في (الأصل): المسافر الذي لا يجد الماء ينتظر إلى آخر الوقت، فإذا خاف الفوت يتيمم، وإنما قال ذلك ليصير مؤديًا الصلاة بأكمل الطهارتين، وذكر القدوري رحمه الله: ويؤخر المسافر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان على طمع من وجود الماء، فقد شرط القدوري زيادة لم تشترط في (الأصل) وهو أن يكون على طمع من وجود الماء.
معناه: إذا كان يرجو وجود الماء وهو الصحيح، حتى أنه إذا كان لا يرجو وجود الماء لا يؤخر الصلاة عن الوقت المعهود إذ لا فائدة فيه. قال القدوري رحمه الله: وهذا استحباب وليس بحتم يريد به أن التأخير إلى آخر الوقت استحباب، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه حتم لأن الطمع غلبة الظن وغلبة الظن حجة فصار هو باعتبار هذه الحجة قادرًا على الاستعمال حكمًا.
وجه ظاهر الرواية: أن العجز الحقيقي للحال ثابت بيقين وما ثبت بيقين لا يسقط حكمه إلا بيقين مثله، وهذا إذا كان الماء بعيدًا عنه، فأما إذا كان قريبًا منه لا يجزئه التيمم وإن خاف فوت الوقت. واختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القريب والبعيد، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا.
ثم إذا أخَّر لا يفرط في التأخير حتى لا تقع الصلاة في وقت مكروه فلا يؤخر العصر إلى تغير الشمس ولكن يؤخرها إلى أن يصلي قبل التغير، واختلف المشايخ في المغرب، قال بعضهم: لا يؤخر المغرب ولكنه يتيمم ويصليها في أول الوقت، فأكثرهم على أنه لا بأس بالتأخير إلى وقت غيبوبة الشفق لأن وقت المغرب يمتد إلى هذا الوقت، والدليل عليه أن المريض والمسافر إذا أخّرَا المغرب حتى جمعا بين المغرب والعشاء جاز.
قال (القدوري) رحمه الله في شرحه: ويجوز التيمم قبل الوقت، وقال الشافعي: لا يجوز لأن التيمم طهارة ضرورية فلا يعتد بها قبل تحقق الضرورة. ولنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا} [النساء: 43] شرط عدم الماء فقط، فمن زاد دخول الوقت يحتاج إلى الدليل.

.نوع آخر ما يجوز التيمم به وما لا يجوز:

فنقول على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض التراب والرمل والحصاة والزرنيخ والجص والكحل والمردا رسنح، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز إلا بالتراب والرمل، وروي عنه أخيرًا: أنه لا يجوز إلا بالتراب، وهو قول الشافعي.
حجتهما قوله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} قال ابن عباس رضي الله عنه: المراد منه تراب الحرث، ولأن الأرض الطيب هو الأرض المنبت، قال الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [الأعراف: 58] والمنبت هو التراب. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وترابها طهورًا» إلا أن أبا يوسف زاد الرمل في رواية بحديث آخر، وهو ما روي أن قومًا من الأعراب جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام وقالوا: «إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهرًا وشهرين وفينا الجنب والحائض»، فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن المراد من الصعيد المذكور في الآية الأرض، قال عليه السلام: «يحشر العلماء في صعيد واحد كأنه شبكة فضة» الحديث والمراد هو الأرض. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت».
وجه الاستدلال بالحديث من وجهين:
أحدهما: أن رسول الله عليه السلام جعل نفس الأرض طهورًا من غير فصل بين أن تكون ترابًا أو غيره.
والثاني: أنه قال: أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وقد كان تدركه الصلاة في غير موضع التراب كما كان تدركه في موضع التراب. ولا حجة للخصم في اسم الطيب لأنه اسم مشترك يحتمل الطاهر من غير أن يكون منبتًا ومن المنبت ما لا يكون طاهرًا والمشترك لا عموم له، وابن عباس رضي الله عنهما فسرّه بالمنبت ورسول الله عليه السلام فسرّه بالطاهر حتى جوزه بالرمال بالحديث الذي روينا.
ولا يجوز التيمم بما ليس من جنس الأرض نحو الذهب والفضة والحديد والرصاص والزجاج والحنطة والشعير وسائر الحبوب والأطعمة لأن المنصوص عليه في الكتاب الصعيد. وفي الحديث الأرض وغيرها ليس بمنصوص عليه. وهذا أمر توقيفي فلا يلحق بهما غيرهما.
وقد ذكر بعض المشايخ في مسألة الذهب والفضة والحديد والرصاص فقال: ما ذكر في الكتاب محمول على ما إذا كان مشتركًا، ولم يكن مختلطًا بالتراب بأن كان بعد التخليص. فأما إذا لم يكن مشتركًا وكان مختلطًا بالتراب بأن كان قبل التخليص جاز التيمم به عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإنه صحيح. وقالوا أيضًا في الحنطة والشعير وسائر الحبوب إن كان عليها غبار جاز التيمم وإنه صحيح.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: الشرط مجرد المسّ.
ولا يشترط استعمال جزء من الصعيد حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وكذا، إذا وضع يده على الأرض الندية ولم يعلق معه شيء جاز عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لابد من استعمال جزء من الصعيد، حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها، أو على أرض ندية ولم يعلق بيده شيء، لا يجوز.
حجته على هذه الرواية قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] يعني من الصعيد ولأنه بناء على قوله: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} [النساء: 43] وكلمة من للتبعيض، فكأنه قال: ببعض الصعيد، ولأبي حنيفة رحمه الله أن قوله: {صعيدًا طيبًا} [النساء: 43] يقتضي الجواز مطلقًا من غير فصل بين ما عليه غبار وما ليس عليه غبار، وكلمة من لتمييز الصعيد من غيره، فلا تجوز زيادة العبد به في صريح الآية، ولا يقال: بأن التمييز حصل في ابتداء الكلام لقوله: {فتيمموا صعيدًا} بدون كلمة من لأنا نقول على هذا الاعتبار كلمة من لتأكيد التمييز، فتصير لتمييز الصعيد من غيره، ولا يقال بأن المسح يقتضي ممسوحًا سوى اليد، كما في مسح الرأس والخف، لأنا نقول: في هذا القياس إثبات زيادة القيد على المطلق، وأنه لا يجوز، والذي يؤيد قول أبي حنيفة رحمه الله، ما روي «أن رسول الله عليه السلام بال، فسلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام، حتى كاد الرجل يتوارى لحيطان المدينة، فضرب يده على الحائط ورد عليه السلام» وحيطانهم كانت من الحجر فدل ذلك على جواز التيمم بالحجر على كل حال.
ويجوز التيمم بالآجر مدقوقًا أو غير مدقوق في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن الآجر طين مستحجر، والتيمم بالحجر الأصلي جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، فكذا بالطين المستحجر، هكذا ذكر القدوري، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفّار: أن في التيمم بالآجر عن أبي حنيفة روايتان: والأصح أنه يجوز، وفي رواية أخرى عن محمد لابد وأن يكون مدقوقًا، أو يكون عليه غبار، فإن على إحدى الروايتين عن محمد: استعمال جزء من الصعيد شرط، وعند أبي حنيفة ذلك ليس بشرط.
ولو تيمم بغبار ثوبه أو غير ذلك، أجزأه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكان أبو يوسف يقول أولًا يتيمم بالغبار إذا لم يجد غيره ثم رجع وقال: الغبار عندي ليس من الصعيد، والصحيح قول أبي حنيفة لما روي: أن عمر رضي الله عنه كان مع أصحابه في سفر فمطروا..... فأمرهم بأن ينقضوا لبودهم وسروجهم ويتيمموا بغبارها، ولأن الغبار وإن قل من نفض ثوبه من التراب إلا أنه رقيق، فكما يجوز التيمم بالخشن من التراب فكذا برقيقه.
وصورة التيمم بالغبار: أن يضرب بيده ثوبًا أو لبدًا أو وسادة أو ما أشبه ذلك من الأعيان الطاهرة التي عليها غبار، فإذا وقع الغبار على يديه يتيمم، أو ينفض ثوبه حتى يرتفع غباره ويرفع يديه في الهواء، فإذا وقع الغبار على يديه تيمم، ولو كان في مفازة فهبت الريح، وارتفع الغبار فأصاب وجهه وذراعيه فمسحه (جاز) التيمم، أو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه فقد ذكرنا هذا في أول هذا الفصل.
ولو تيمم بالملح، إن كان......... وإن كان جبليًا كالمكسة، بعض مشايخنا قالوا يجوز لأنه بمنزلة الحجر، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الصحيح عندي أنه لا يجوز لأنه يذوب بالنار فلا يكون من جنس الأرض والسبخة بمنزلة الملح مائية وترابية وقال محمد رحمه الله في (الأصل): في المسافر إذا كان في طين وردغة أصابه مطر وأبل سرجه وثيابه، ولم يجد ماء يتوضأ به فإنه يلطخ ثوبه بالطين ويجففه ثم يفركه ويتيمم به، قال القدوري رحمه الله في (شرحه): وهذا قول محمد رحمه الله لأنه يعتبر استعمال جزء من الصعيد يغني على إحدى روايتيه، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن محمد: فلا يعتبر استعمال جزء من الصعيد، وإنما يعتبر المس، والطين من جنس الأرض، فيضع يده على الطين ويتيمم. من المشايخ من قال: ما ذكر في (الأصل) قول الكل، ولا يجوز التيمم بالطين عند الكل، لأن التراب لا يصير طينًا ما لم يصر مغلوبًا بالماء، والعبرة للغالب فكان الكل لذا ماءً فلا يجوز التيمم به. ألا ترى أن الماء الذي خالطه اللبن لا يجوز التوضؤ به إذا كان اللبن غالبًا، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي للإنسان أن لا يتيمم بالطين إذا تلطخ به وجهه.... ولو فعل ذلك يجوز، ويجوز التيمم بالحصى والكيزان والحباب والحيطان من المدر، ولا يجوز بالعصارة إذا كان مطليًا بالأيك بطن العصارة وظهرها على السواء، إلا إذا كان عليه تراب فحينئذ يجوز، وإن لم يكن مطليًا بالأيك جاز التيمم به سواء كان عليه غبار أولم يكن، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لا يجوز إلا إذا كان عليه غبار.
ولو تيمم بالخزف، إن كان عليه غبار جاز، وإن لم يكن الخزف عليه غبار إن كان متخذًا من التراب الخالص، ولم يجعل فيه شيء من الأدوية جاز، وإن جعل فيه شيء من الأدوية لا يجوز، وإذا تيمم بالرماد لا يجوز، لأنه ليس من جنس الأرض.
وإذا احترقت النخل التي في الأرض واختلط رمادها بتراب الأرض، إن كانت الغلبة لتراب الأرض يجوز، وإن كانت الغلبة للرماد لا يجوز، وكذلك التراب إذا اختلطه غير الرماد، ومما ليس من أجزاء الأرض يعتبر فيه الغلبة، وإذا أصابت الأرض النجاسة فجفت وذهب أثرها، لا يجوز التيمم به ويجوز الصلاة عليه، هذا جواب ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أصحابنا: أنه يجوز التيمم به أيضًا، فإن أخذنا برواية ابن كاس لا نحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الصلاة، وإن أخذنا بظاهر الرواية نحتاج إلى الفرق، والفرق: أن قضية القياس أن يجوز التيمم كما تجوز الصلاة لأن الأرض تطهر بالجفاف، قال عليه السلام: «أيما أرض جفت فقد ذكت» أي طهرت، وقال عليه السلام: «ذكاة الأرض يبسها» أي طهارة الأرض، والمعنى في ذلك أن طبيعة الأرض استحالة النجاسة، وللاستحالة أثر في التخليل كالخمر يتخلل إلا أن مع التخلل يبقى قليل النجاسة وإنه لا يمنع الطهارة، أما لا يمنع جواز الصلاة عليه.
فإذا تيمم الرجل من موضع فجاء رجل آخر، وتيمم من ذلك الموضع أيضًا أجزأه لأن الصعيد الباقي في المكان بعد تيمم الأول نظير الماء الباقي في الإناء بعد وضوء الأول فيكون طاهرًا وطهورًا في حق الباقي والله أعلم.

.نوع آخر في بيان من يجوز له التيمم ومن لا يجوز:

فنقول: يجوز للمسافر التيمم إذا لم يكن معه ماء، وكذلك إذا كان معه ماء وهو يخاف على نفسه من العطش أو دابته، لأنه عاجز عن استعمال الماء حكمًا لكونه مستحقًا لحاجته الأصلية فيعتبر بما لو كان عاجزًا عن استعمال الماء حقيقة.
وكذلك إذا كان مقيمًا خرج عن المصر لحاجة له نحو الاحتطاب والاحتشاش لا للسفر وقد صار بعيدًا عن المصر فله أن يتيمم.
وتكلموا في تقدير البعيد، قال بعض مشايخنا: إذا كان بينه وبين المصر ميل وذلك قدر ثلث فرسخ فهو بعيد وبعضهم قدر البعيد بالفرسخ، وبعضهم بما لو خرج مسافة قصر الصلاة عنه وبعضهم بما إذا كان لا يسمع الأذان، وبعضهم: بما إذا كان بحيث لو نودي من أقصى المصر لم يسمع، وعن محمد رحمه الله: أنه قدره بالميلين، ومن الناس من قال: لا يجوز التيمم لمن خرج من المصر، إلا إذا قصد سفرًا صحيحًا، لأن الله تعالى قيده بالسفر حيث قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} [النساء: 43].
ويجوز التيمم للمريض إذا خاف زيادة المرض باستعمال الماء، وقال الشافعي: لا يجوز إلا إذا خاف التلف: واعلم بأن هذه المسألة على أربعة أوجه:
إما أن يخاف على نفسه الهلاك بسبب استعمال الماء، أو خاف تلف عضو من أعضائه، وفي هذين الوجهين يجوز له التيمم، وأما أنه لا يخاف على نفسه الهلاك ولا تلف عضو من أعضائه، ولكن يخاف من زيادة المرض، أو يخاف إبطاء البرء بسبب الاستعمال، وهو الوجه على الخلاف بيننا وبين الشافعي، على ما ذكرنا، وإن كان لا يخاف على نفسه شيئًا من ذلك، وفي هذا الوجه لا يجوز له التيمم بلا خلاف لأن الآدمي لا يخلو عن نوع مرض، ولو جوزنا التيمم بكل مرض أدى إلى إباحة التيمم على كل حال سفرًا كان أو حضرًا..........
حجة الشافعي: أن التيمم مشروع في حال عدم الماء، وهذا واجد للماء حقيقة، وإنما يعتبر عاجزًا حكمًا عند خوف التلف، ولا يجوز التيمم لمن لا يخاف التلف.
ولنا: أن زيادة المرض تسبب التلف، فصار الخوف عنها خوفًا عن سبب التلف، فيصير خوفًا عن حقيقة التلف معنى.
وإن كان المريض بحال لا يضره استعمال الماء أصلًا إلا أنه عجز عن استعماله بحكم المرض فهذا على وجهين:
الأول: أن لا يجد أحدًا يوضئه، وفي هذا الوجه يجوز له التيمم في ظاهر مذهب أصحابنا، وعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز له التيمم في المرض هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه يجوز له التيمم بالاتفاق، وأما إذا وجد أحدًا يوضئه فهذا على وجهين: الأول: أن يكون ذلك الإنسان الذي يوضئه حرًا وفي هذا الوجه قال أبو حنيفة رحمه الله: يجزئه التيمم، وقالا: لا يجزئه وكذلك على هذا الاختلاف إذا كان مريضًا لا يستطيع استقبال القبلة أو في فراشه نجاسة، ولا يستطيع التحول ووجد من يحوله ويوجهه إلى القبلة لا يفترض عليه ذلك عنده، وعندهما يفترض، وكذلك الأعمى إذا وجد قائدًا يقوده إلى الحج لا يفترض عليه الحج عنده، وعندهما يفترض. والمقعد إذا وجد من يحمله إلى الجمعة، ذكر الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: أنه لا جمعة عليه عند الكل، قال: وينبغي أن لا يكون عليه الحج، ولا حضور الجماعات بلا خلاف، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: أن الكل على الخلاف.
الوجه الثاني: إذا كان الذي يوضئه مملوكًا له بأن كان عبدًا له أو أمة له، لا شك أن على قولهما لا يجوز له التيمم، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فقد اختلف المشايخ، والصحيح أنه لا يجوز، حجتهما: أنه تيمم وهو قادر على الوضوء، والوضوء لا يضره فلا يجزئه التيمم قياسًا على عديم الماء إذا....، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن وجوب الوضوء علق باستطاعة مملوكه لا باستطاعة مباحة له قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 268] معناه إلا ما وسعها فلو أوجبنا الوضوء فيما إذا كان الموضئ حرًا، فقد كلفناه نظافة الغير، وأنه خلاف اليسر.
يوضحه: أن الإيجاب يعتمد القدرة، والقدرة على التوضؤ في الأصل بفعله وفعله مملوك له، وفيما لم يصر فعل غيره مملوكًا له لا تثبت الاستطاعة، ومنافع العبد مملوكة له، بخلاف منافع الأجنبي وليس كالماء لأنه يوجد مباح الأصل غالبًا، والحظر عارض فتعلق الوجوب بالقدرة الثابتة بالإباحة فإن الأحكام تتعلق بالأصول لا بالعوارض، أما هاهنا بخلافه، والدليل على أن المعتبر لحالة مملوكه لا لحالة مباحة أن الابن إذا بذل الزاد والراحلة لأبيه والأب معدم لا يفترض عليه الحج، وكذا المكفر إذا بذل له أبوه المال لا يلزمه التكفير بالمال، والذي يؤيد ما قلنا: العاجز عن القيام تجزئه الصلاة قاعدًا وإن وجد من يقيمه عبدًا كان أو غيره، وهذا الفصل دليل على أنه لا فرق بين العبد والحر وهذا لأن القدرة وصف القادر، فلا يصير الإنسان قادرًا بقدرة الغير.
وإذا كان بدن الجنب جريحًا أو أعضاء المحدث، فإنه يتيمم ولا يستعمل الماء فيما كان صحيحًا، وإن كان على العكس فإنه يغسل، والمسح على الجراحة إن أمكنه أو فوق الخرقة إن كان المسح يضره، ولا يتيمم، وهو قول علمائنا، وقال الشافعي: بأنه يغسل ما كان صحيحًا ثم يتيمم بعد ذلك، حجته: أن سقوط الغسل عما هو مجروح لضرورة الضرر في إصابة الماء فتتقدر بقدرها، حجتنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنه أباح للمحذور التيمم»، وبعض أعضاء المحذور يكون صحيحًا، ولم يأمر بإيصال الماء إليه، وهذا حديث روي عنه ولم يرو عن أقرانه خلافه فحل محل الإجماع، والمعنى فيه: أنه اجتمع فيه ما يوجب الغسل والتيمم، ولا وجه للجمع، لأنه يؤدي إلى الجمع بين الأصل والبدل، وهذا لا أصل له لما عرف في الكفارات فيصار إلى الترجيح، ورجحنا بالكثرة، وإن استويا في الرواية في هذا الفصل من مشايخنا من قال: يتيمم ولا يستعمل الماء ومنهم من يقول: يغسل ما كان صحيحًا ويمسح على الباقي إذا كان المسح لا يضره، أما من قال يغسل حجته: أنه لما تعذر الترجيح من حيث الكثرة ترجح من وجه آخر فنقول: الغسل طهارة حقيقة وحكمًا، فإيجابه أولى من إيجاب التيمم الذي ليس بطهارة حقيقة، وأما الفريق الآخر يقولون: بأن التيمم طهارة كاملة، وغسل البعض وإن كان طهارة حقيقة وحكمًا، إلا أنها ناقصة في نفسها، فكان اعتبار التيمم هو طهارة كاملة أولى.
ثم اختلف مشايخنا في حد الكثرة: فمنهم من اعتبر الكثرة من حيث عدد الأعضاء في الكثرة في نفس العضو، بيانه: إذا كان برأسه ووجهه وبدنه جراحة والرجل صحيح، فإنه يتيمم، سواء كان الأكثر من الأعضاء الجرحة جريحًا أو أقله، ومنهم من اعتبر الكثرة في نفس العضو فقال: إن كان الأكثر من كل عضو من أعضاء الوضوء جريحًا كان كثيرًا يبيح له التيمم.
المسافر أو المريض إذا أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك على نفسه من شدة البرد، أو تلف عضو إن اغتسل، فإنه يباح له التيمم، وأما إذا كان مقيمًا صحيحًا أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك أو تلف عضو أو زيادة مرض إن اغتسل، قال أبو حنيفة رحمه الله: بأنه يتيمم ولا يغتسل خلافًا لهما.
وكذلك المحدث على هذا الخلاف، إذا كان يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن المحدث يتوضأ ولا يتيمم بالإجماع، وذكر في غير رواية الأصول قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما الله، فمنهم من قال: لا خلاف في الحقيقة، فأبو حنيفة رحمه الله إنما قال هذا في بلد لا يوجد فيه ماء حار، وهما أقاما في بلد يوجد فيه ماء حار لكن بالتكليف، ومنهم من يحقق الاختلاف، حجتهما: أن عدم الماء السخين أو عدم مكان يدفأ به في المصر نادر ما ينزله عادمًا (للماء) حكمًا، ولهذا لا يتيمم المقيم دون عدم الماء، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأن عدم الماء السخين والمكان الذي يدفأ ليس بنادر لأنه قد يكون فيه غرباء وفقراء لا يجدون ماء سخنًا يدفئون به أو لا يكون في القرية حمام، أو لا يكون له أجرة الحمام، حتى قالوا في موضع فيه حمام وتوجد الأجرة عند الخروج عادة: لا يباح له التيمم، بعض مشايخنا قالوا: هذا كله في ديارهم، فأما في ديارنا لا يباح له التيمم لأنه يمكنه أن يحتال بحيلة يتوضأ ويغتسل بأن يدخل الحمام فيتطهر، وهذا لأن في عرف ديارنا لا يطالب بالأجر عند دخول الحمام وإنما يطالب بعد الدخول فيمكنه الدخول، وبعدما خرج إذا علم أنه ليس معه شيء لا يطالب بشيء.
المحبوس في السجن إذا لم يجد الماء فهو على وجهين:
الأول: أن يكون محبوسًا في موضع نظيف، وهو على وجهين أيضًا: إن كان خارج المصر، قال أبو حنيفة رحمه الله يصلي بالتيمم ولا يعيد، وإن كان في المصر لم يصل بتيمم، رجع أبو حنيفة وقال: يصلي ثم يعيد، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وجه قول أبي حنيفة الأول: أن عدم الماء في المصر غير معتبر شرعًا حتى لا يسقط الفرض عنه بالتيمم ويلزمه الإعادة فلم يكن التيمم طهورًا له ولا صلاة إلا بطهور، وجه قوله الآخر: أن عدم الماء في المصر إنما لا يعتبر لأن ذلك نادر، فأما في السجن عدم الماء ليس بنادر فكان معتبرًا فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وهل يعيد؟، ففي القياس: لا، وهو رواية عن أبي يوسف كما لو كان في السفر وفي الاستحسان يعيد لأن عدم الماء كان بمنع من العباد ووجوب الصلاة عليه بالطهارة، وحق الله لا يسقط بمنع العباد بخلاف المسافر لأن جواز التيمم هناك لعدم الماء لا للحبس ولا صنعة للعباد.
الوجه الثاني: أن يكون محبوسًا في مكان نجس لا يجد ماءً ولا ترابًا نظيفًا وإنه على وجهين: إن أمكنه حفر الأرض أو الحائط بشيء واستخراج التراب الطاهر فعلى ذلك يصلي بالتيمم. وإن لم يمكنه ذلك فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلي بل ينتظر حتى يجد الماء أو التراب الطاهر. وقال أبو يوسف رحمه الله: يصلي بالإيماء تشبهًا بالمصلين، وقول محمد رحمه الله مضطرب ذكر في (الزيادات) وفي كتاب الصلاة في رواية أبي حفص قوله مع أبي حنيفة رحمه الله، ذكر في رواية الصلاة لأبي سليمان قوله مع أبي يوسف. قال بعض المشايخ: على قول أبي يوسف إنما يصلي بالإيماء إذا لم يكن الموضع يابسًا، أما إذا كان يابسًا يصلي بركوع وسجود.
وأما العاري إذا لم يجد ثوبًا أو اللابس إذا كان له ثوب كلّه نجس ولا يجد ما يغسله، فإنه يصلي ولا يترك الصلاة ولا يعيد. وفي مسألة السجن: إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا نظيفًا على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصلي، وعلى قول أبي يوسف: يصلي ويعيد، والفرق أن الشرع أسقط فرض ستر العورة عند العجز، وأسقط غسل النجاسة الحقيقية عند العجز عن استعمال الماء، فجاز الصلاة من غير إعادة.
أما ما أسقط فرض الطهارة الحقيقية والحكمية جملة بحال فلا يصلي من غير طهارة عند أبي حنيفة رحمه الله الخطاب بالطهارة، وعند أبي يوسف رحمه الله يصلي تشبهًا ولا يعيد.
قال الأسير في دار الحرب إذا منعه الكفار عن الوضوء أو الصلاة يتيمم ويصلي بالإيماء ثم يعيد إذا خرج، وكذا إذا قيل لرجل: حبستك إن توضأت، أو إن توضأت حبسناك قتلناك، فإنه يصلي بالتيمم ويعيد.
«فأما بيان ما يتيمم عنه» فنقول بجواز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس كما يجوز التيمم عن الحدث. وقال بعض الناس: لا يجوز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ومذهبنا يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، والحديث الذي روينا أن قومًا من الأعراب سألوا رسول الله عليه السلام وقالوا: إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهرًا أو شهرين وفينا الجنب والحائض فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» دليل لنا في المسألة.
وأما بيان ما يتيمم لأجله نقول: يجوز التيمم لصلاة العيد إذا كان بحال لو توضأ تفوته الصلاة عندنا، لأن صلاة العيد إذا فاتت لا تقضى عندنا لأنها لم تشرع إلا بجماعة وسلطان، والمنفرد عاجز عن تحصيلها، فيكون قولنا من كل وجه فيجوز التيمم صيانة عن الفوات، وعن هذا قلنا: إن الإمام لا يتيمم لأنه لا يخاف الفوت لأن الناس ينتظرونه، وكذلك غير الولي يتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف الفوت لها لأنها لا تعاد.
والولي لا يتيمم لصلاة الجنازة لأنه لا يخاف الفوت لأنه ليس لغير الولي حق الصلاة على الجنازة، ولو صلى غير الولي على الجنازة فللولي حق الإعادة. ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لأن الجمعة تفوت إلى خلف فلا يكون فواتًا مطلقًا.
ويتيمم لمس المصحف ودخول المسجد. وفي سجدة التلاوة اختلاف على ما مر قبل هذا، وفي (شرح الأصل): ويتيمم لسجدة التلاوة في السفر ولا يتيم لها في الحضر.
وإذا سبق المؤتم الحدث في صلاة العيد في الجماعة فهذا على وجهين:
الأول: إذا سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة وإنه على وجين: الأول إن كان يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام لو توضأ، لا يباح له التيمم لأنه لا يخاف الفوت لأنه يمكنه أن يصلي بقية الصلاة وحده.
وإن كان لا يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام يباح له التيمم لأنه يخاف الفوت إذ لا يمكنه أن يصليها وحده لأن الإمام والجماعة شرط الأداء بها.
الوجه الثاني: إذا سبقه الحدث بعد الشروع في الصلاة فهذا على وجهين أيضًا:
الأول: أن يكون شروعه بالتيمم في هذا الوجه يتيمم، وهنا لا خلاف لأنا لو أمرناه بالوضوء تفسد الصلاة برؤية الماء فلا يمكنه الإدراك، وإن كان شروعه بالوضوء إن كان يخاف زوال الشمس لو اشتغل بالوضوء يباح له التيمم بالإجماع لأن بعد زوال الشمس تفوت صلاة العيد أصلًا لذهاب الوقت.
وإن كان لا يخاف زوال الشمس فإن كان يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ لا يباح له التيمم بالإجماع، وإن كان لا يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ تيمم، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يتوضأ ولا يتيمم، فمن مشايخنا قال: هذا اختلاف عصر وزمان ومكان، فكان في زمن أبي حنيفة يصلي صلاة العيد في جماعة قريبة بحيث لو انصرف الرجل إلى بيته ليتوضأ لا تزول الشمس فلم يكن خوف الفوت قائمًا فأفتيا على وفق زمانهما.
وكان شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله يقولان: في ديارنا لا يجوز التيمم لصلاة العيد لا ابتداءً ولا بناءً لأن الماء محيط بمصلى العيد فيمكن التوضؤ، والناسي غير خوف الفوت حتى لو خيف الفوت يجوز التيمم، ومن المشايخ من قال: هذا اختلاف حجة وبرهان، واختلفوا فيما بينهم. قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذه المسألة بناءً على أن من شرع في صلاة العيد ثم أفسدها لا قضاء عليه عند أبي حنيفة رحمه الله فكان تفوته الصلاة على أصله لا إلى بدل لو لم يجزئه التيمم فأجاز له التيمم، وعندهما يلزمه القضاء فلا تفوته الصلاة إلى بدل فلم يجوّزا له التيمم، وقبل الشروع إذا فاتته الصلاة لا يمكنه القضاء بالإجماع فكان الفوات لا إلى بدل فيجوز له التيمم بالإجماع.
وغيره من المشايخ جعل هذا اختلافًا مبتدأً فبقولهما: إن المبيح خشية الفوات واللاحق أمن من ذلك فإنه يتوضأ ويتم صلاته بعد فراغ الإمام. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: البناء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاح العيد بالتيمم فلأن يجوز البناء عليها بالتيمم أولى، ولأن خوف الفوت هاهنا قائم لأنه ربما يصير منشغلًا بالمعالجة مع الناس لكثرة الزحام فتفسد صلاته، ولا يصل إلى الماء حتى تزول الشمس فتفوته بمضي الوقت والله أعلم.

.نوع آخر في بيان ما يبطل التيمم وما لا يبطل:

يجب أن يعلم بأن ما يبطل الوضوء يبطل التيمم لأن التيمم خلف عن الوضوء وبدل عنه، وما لا يبطل الأصل لا يبطل الخلف والبدل ضرورة.
قال ويبطل إذا رأى الماء لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» فبعد ذلك المسألة على وجوه:
إن رأى الماء قبل الشروع في الصلاة توضأ به وصلى، وإن رأى الماء بعدما صلى لا يعيد الصلاة وإن كان في الوقت.
والأصل فيه: ما روي أن رجلين من الصحابة كانا في سفر فتيمما في أوّل الوقت وصليّا، فلما فرغا من الصلاة وجدا ماءً قبل خروج الوقت فتوضأ أحدهما وأعاد صلاته ولم يفعل الآخر ذلك، فلما رجعا إلى رسول الله عليه السلام أخبراه بذلك فقال عليه السلام للذي أعاد: «لك أجران وقال للآخر: أجزأتك صلاتك».
والمعنى فيه أن هذه صلاة أديت بطهارة كاملة قد حكم بصحتها وجوازها فلا يرتفع هذا الحكم برؤية الماء بعد ذلك. أكثر ما في الباب أن التيمم خلف وقد قدر على الأصل، إلا أنه إنما قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل فلا يسقط حكم البدل على ما عرف في موضعه، وبهذا الحرف يقع الفرق بين هذا الوجه وبين ما إذا رأى الماء في خلال صلاته حيث يتوضأ ويستقبل الصلاة، لأن هناك قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، وفي مثل هذا يسقط حكم البدل.
وإن رأى ماءً بعدما قعد قدر التشهد فسدت صلاته في قول أبي حنيفة رحمه الله في آخر صلاته، وقالا: لا تفسد وهي من المسائل الاثني عشرية المعروفة بين أهل الفقه، وعلى هذا الخلاف الماسح على الخف إذا انقضى وقت مسحه بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلّم، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته، وعلى قولهما لا تفسد، وعلى هذا الاختلاف الماسح على الخف إذا وجد في خفه نجاسة فنزعه وكان ذلك بعدما قعد قدر التشهد، والمراد بهذه النجاسة أن تكون قدر الدرهم أو أقل حتى يصح شروعه، أما إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا يصح شروعه فيها، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الاختلاف فيما إذا كان الخف واسعًا بحيث يخرج من رجله من غير معالجة كثيرة، فأما إن كان الخف بحال يحتاج في نزعه إلى معالجة كثيرة، بحيث لو وجد في خلال الصلاة أوجب فساد الصلاة، فإن صلاته تكون باطلة بالإجماع، لأنه يكون خروجًا عن الصلاة بصنعه.
وعلى هذا الخلاف: مصلي الجمعة إذا خرج وقت الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا الخلاف مصلي الفجر إذا طلعت الشمس، والعاري إذا وجد ما يستتر به بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا إذا علم الأميُّ سورة بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا: القارئ إذا استخلف أميًّا بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا المومئ إذا قدر على الركوع والسجود بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا: المصلي إذا تذكر فائتة بعدما قعد قدر التشهد وفي الوقت سعة، وعلى هذا: المستحاضة أو صاحب الحدث الدائم إذا ذهب الوقت أو برئ مرضه. وعلى هذا إذا كان بثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم فوجد الماء في هذه الحالة. والشيخ الإمام شيخ الإسلام: يزيد على هذه المسائل فائتة الفجر إذا شرع في قضائها فزالت الشمس في هذه الحالة، وكذلك إذا مسح على الجبائر فسقطت الجبائر عنه عن برء وبعدما قعد قدر التشهد.
من أصحابنا من قال هذه المسائل تنبني على أصل وهو: أن الخروج من الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ليس بفرض.
هما احتجا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «إذا رفع المصلي رأسه من آخر السجدة وقعد قدر التشهد فقد تمت صلاته» ولأن بالاتفاق لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمدًا أو حاذت المرأة الرجل في هذه الحالة لم تفسد صلاته ولو بقى شيء من فرائض الصلاة لفسدت صلاته بهذه الأمور كما تفسد قبل العقدة، فثبت بهذا أن وجود هذه المعاني في هذه الحالة لوجودها خارج الصلاة. ولو وجد هذه المعاني خارج الصلاة لا تفسد صلاته، فكذا إذا وجد في هذه الحالة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: هذه عبادة لها تحريم وتحليل، ثم التحريم لا يكون إلا بصنعه، فكذلك التحليل كما في الحج.
وتقدير هذا الكلام وتحقيقه: وهو أنه إذا أحرم بالظهر يجب عليه الخروج عن الظهر ليؤدي صلاة العصر، ولا يتوصل إلى أداء العصر إلا بالخروج عن الظهر، والأصل أن ما لا يتوصل إلى شيء إلا بغيره صار غيره كعينه، وأداء العصر فرض عليه، فكذلك خروج عن الظهر يكون فرضًا عليه.
وتأويل الحديث: قارب التمام. كما قال: الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه أي قارب التمام.
والكلام والحدث والقهقهة والمحاذاة صنع منه، فإن قيل: نزع الخف أيضًا بصنعه قلنا: إنما يكون صنعه إذا كان يحتاج إلى معالجة كثيرة، وعند ذلك صلاته تامة بالاتفاق أما إذا كان الخف واسعًا لا يحتاج إلى صنعه، ومن أصحابنا من قال: هذا الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله لا يقوى لاستحالة أن يتأدى فرض الصلاة بالكلام والحدث العمد، ولكن الوجه الصحيح عند أبي حنيفة أن التحريمة باقية بعد الفراغ من التشهد، وهذه العوارض مغيرة للفرض فاعتراضها في هذه الحالة كاعتراضها في خلال الصلاة، كنية الإمامة بخلاف الكلام، فإنه قاطع وليس بمفير.
والقهقهة والحدث العمد مبطل وليس بمفير، فإن قيل: طلوع الشمس في خلال الصلاة مبطل وليس بمفير، وقد جعلتموه على الخلاف قلنا: بل هو بمفير للصلاة من الفرض إلى النفل فإنه لا يصير به خارجًا من التحريمة. وجميع ما قلنا فيما إذا اعترض قبل السلام كذلك في سجود السهو أو بعدما فرغ منها قبل أن يتشهد أو بعدما تشهد قبل أن يسلّم هكذا ذكر في (الأصل).
وإن وجد هذه الأشياء بعدما سلّم قبل أن يسجد للسهو فصلاته تامة، أما عندهما فلا يشكل، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه بالسلام خرج عن التحريمة، ولهذا لا يتغير فرض المسافر بنية الإقامة في هذه الحالة، فكذلك إن كان سلّم إحدى التسليمتين لأن انقطاع التحريمة يحصل بتسليمة واحدة والله أعلم.
متيمم افتتح الصلاة ثم وجد سؤر الحمار مضى على صلاته، فإذا فرغ توضأ به وأعاد الصلاة لأن سؤر الحمار مشكوك في طهوريته وشروعه في الصلاة قد صح فلا ينتقض بالشك فيُتم الصلاة ثم يتوضأ به ويعيد الصلاة احتياطًا لجواز أن يكون سؤر الحمار طاهرًا. ولو وجد نبيذ التمر في خلال الصلاة فكذلك عند محمد رحمه الله لأن عنده نبيذ التمر كسؤر الحمار وعند أبي يوسف رحمه الله: يتم صلاته ولا يعيد لأن النبيذ عنده ليس بطهور، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقطع صلاته لأن نبيذ التمر عنده بمنزلة الماء حال عدم الماء فتنتقض صلاته فيتوضأ ويستقبل الصلاة.
وإن وجد سؤر الحمار والنبيذ جميعًا فعند أبي حنيفة رحمه الله تفسد صلاته فيتوضأ بهما ثم يستقبل لأن سؤر الحمار إن كان طاهرًا فالنبيذ معه ليس بطهور لأن التوضؤ بالنبيذ إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان عادمًا الماء، فإذا كان السؤر طاهرًا لا يكون عادمًا للماء فلا يكون النبيذ طهورًا.
وإذا لم يكن السؤر طاهرًا فالنبيذ طهور فقد وقع الشك في سؤر الحمار فلهذا يتوضأ بهما. وعند أبي يوسف رحمه الله يمضي (على) صلاته، فإذا فرغ توضأ بالسؤر خاصة وأعاد الصلاة وعند محمد رحمه الله يمضى على صلاته فإذا فرغ توضأ بهما وأعاد الصلاة احتياطًا.
وإذا رأى المتيمم في صلاته سرابًا فظن أنه ماء فمشى إليه ساعة فإذا هو سراب فعليه أن يستأنف الصلاة سواء جاوز مكان الصلاة أو لم يجاوز. وإن شك أنه ماء أو سراب واستوى الظنان فإنه يمضي على صلاته لأنه صح شروعه في الصلاة، وإن وقع الشك في الانصراف إن كان ماء فحل له الانصراف، وإن كان سرابًا لا يحل له، والحرمة كانت ثابتة بيقين فلا يثبت الحل بالشك فيمضي على صلاته، فإذا فرغ من صلاته ذهب. إن كان ماءً توضأ واستقبل القبلة لأنه متيمم وجد الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته. وإن كان سرابًا لا يلزمه الإعادة لأنه أتم الصلاة وهو عادم للماء فلا تفسد صلاته ولا يلزمه الإعادة.
قال: المسافر إذا مرّ في الفلاة بماء موضوع في حب أو نحوه لا ينتقض تيممه وليس له أن يتوضأ منه لأنه وضع للشرب لا للوضوء، والمباح في نوع لا يجوز استعماله في (نوع آخر) إلا أن يكون الماء كثيرًا فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب والوضوء جميعًا فحينئذ يتوضأ ولا يتيمم.
وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله عن أستاذه عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر بن محمد بن الفضل رحمه الله أن الماء الموضوع للشرب يجوز منه التوضؤ، والموضوع للوضوء لا يباح منه الشرب.
قال: وإذا اقتدى المتوضئ بالمتيمم ثم رأى المقتدي ماء ولم ير إمامه فسدت صلاة المقتدي دون صلاة الإمام. وكذا إذا أمّ المتيمم المتوضئين فأبصر بعض القوم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون حتى فرغوا فسدت (صلاة) من أبصر خاصة، وهذا قول علمائنا الثلاثة. وقال زفر رحمه الله: لا تفسد صلاته، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وكذلك على هذا الاختلاف إذا أمَّ الرجل قومًا في صلاة الظهر ولم يصل الفجر ولا يعلم به الإمام وقد علم به القوم فصلاة القوم فاسدة استحسانًا عند علمائنا الثلاثة، وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله: لا تفسد.
وجه القياس وهو أن صلاة المقتدي لو فسدت إنما تفسد بأحد الأشياء الثلاثة، إما بالحدث العمد ولم يوجد وإما برؤية الماء، وذلك لا يضره لأنه متوضئ. وإما بفساد صلاة الإمام وصلاة الإمام صحيحة، فلا معنى لإفساد صلاته، فلا تفسد صلاته وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن طهارة الإمام معتبرة في حق المقتدي بدليل أنه لو تبين أن الإمام محدث لم تجز صلاة المقتدي. وطهارة الإمام هنا بتيمم، فيجعل في حق من أبصر الماء كأنه هو المتيمم فلهذا فسدت صلاته ولأنه اعتقد فساد صلاة الإمام، فإن عنده أن الإمام يصلي بالتيمم مع وجود الماء، والمقتدي إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد صلاته، كما لو اشتبهت القبلة على الإمام والقوم، فتحرى الإمام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى وهو عالم أن الإمام صلى إلى غير جهته فإنه لا يصح اقتداؤه به.
وكذلك في مسألة الترتيب، صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي لأن الترتيب من شرط الجواز، وأنه ثابت في حق المقتدي بعلمه أن على الإمام صلاة الفجر، وبعلم الإمام أنه ليس عليه شيء فكانت صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي، جائزة في حق الإمام فلا يصح اقتداؤه به كذا هذا.
وأجمعوا أن المتيمم إذا أمّ المتيممين ثم رأى بعض من خلفه الماء أو علم بمكانه ولم يعلم الإمام تفسد صلاة من علم بالماء لما ذكرنا أن المفسد للصلاة أحد الأشياء الثلاثة.
ومن جملة ذلك: رؤية الماء في حق المتيمم، وهذا متيمم فيكون رؤية الماء مفسد للصلاة في حقه لا في حق غيره، لأن صلاة الغير لا تتعلق بصلاته. قال: المتيمم إذا وجد الماء فلم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم، لأنه لما قدر على استعمال الماء بطل تيممه وصار محدثًا بالحدث السابق فهذا محدث لا ماء معه، فعليه التيمم للصلاة.
قال: جماعة من المتيممين إذا رأوا في صلاتهم قدر ما يكفي لأحدهم إن كان الماء مباحًا فسدت صلاة الكل. وإن كان مملوكًا لرجل فقال: أبحت الماء لكل واحد منكم أو قال: من شاء فليتوضأ فسدت صلاتهم. وإن قال: أبحت لكم جميعًا لم تفسد صلاتهم.
قال محمد رحمه الله في (الزيادات): جماعة من المتيممين انتهوا إلى رجل في السفر معه من الماء ما يكفي لأحدهم فأباح لهم وقال: خذوه فليتوضأ به أيكم شاء، ينتقض تيممهم، لأن هذا الماء بالإباحة والتحق بالمباح الأصلي، وهناك ينتقض تيمم الكل لأن هذا الماء يمنعهم عن ابتداء التيمم لأنه يفيد القدرة على الطهارة لكل واحد منهم فيمنع البقاء فكذا هاهنا.
فإن توضأ به أحدهم جاز وأعاد الباقون تيممهم. ولو كان قال: هذا الماء لكم فاقبضوه فقبضوه لم ينتقص تيممهم، لأنه ما أباح الماء لهم بل ملكه منهم فلا يصيب كل واحد منهم إلا شيئًا يسيرًا، وذلك القدر لا يفيد القدرة على الطهارة فلا يبطل التيمم، ألا ترى أن ذلك القدر لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع بقاؤه، قال بعض مشايخنا: وهذا على قولهما لأن عندهما هبة المشاع فيما يحتمل من رجلين هبة جائزة تامة، فكان هذا تمليكًا منهم.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين أو جماعة غير جائزة فلا يكون هذا تمليكًا منهم بل يكون مجرد إباحة، فصار نظير الوجه الأول. وبعضهم قالوا: هذا قولهم جميعًا وهو الصحيح، وإنما كان كذلك لوجهين:
أحدهما: أن عند أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين فاسدة والهبة الفاسدة تفيد الملك عند اتصال القبض بها.
والثاني: إن لم يثبت التمليك لا تثبت الإباحة أيضًا لأن التنصيص على الإباحة لم يوجد هاهنا لو ثبتت الإباحة، إنما تثبت في ضمن التمليك، فإن أبطل التمليك بطلت الإباحة الثانية في ضمنه ضرورة.
فإن أباح كل واحد منهم لأصحابه يبطل تيممهم، وكذلك لو أباحوا لواحد بعينه بطل تيممه. قال مشايخنا: وهذا على قولهما لأن هذه الهبة وقعت صحيحة عندهما فثبت الملك فيعمل إِذْنُ كل واحد وإباحته في حق أصحابه فينتقص تيممهم.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: إذنهم فيما بينهم لا يعمل قبل القبض لعدم الملك وبعد القبض لفساد الملك إذ الملك الفاسد لا يفيد إطلاق الاستمتاع لا بالملك ولا بغيره بإذنه فانعدمت القدرة على الماء.
قال: المتيمم إذا صلى بقوم متيممين ركعة فجاء رجل معه كوز من ماء يكفي أحدهم وقال: هو لفلان لرجل من القوم فسدت صلاة ذلك الرجل، ويمضي القوم على صلاتهم. فإذا فرغوا سألوه الماء، إن أعطى الإمام توضأ الإمام واستقبل الصلاة ويستقبل القوم معه، وإن منع الإمام والقوم فصلاة الكل تامة.
ولو أن الذي جاء بالكوز قال للمتيممين قبل الشروع في الصلاة: من شاء منكم فليتوضأ به انتقص تيممهم.
قوم من المتيممين شرعوا في الصلاة فجاء رجل بماء يكفي أحدهم وقال: من يريد منكم الماء؟ ينتقض تيممهم.
قوم من المتيممين منهم متيمم للجنابة ومنهم متيمم للحدث وإمامهم متوضئ فجاء رجل بكوز من الماء يكفي أحد المتيممين عن الحدث وقال: هذا الكوز من الماء لمن شاء منكم فسدت صلاة المتيممين عن الحدث ولم تفسد صلاة المتيممين عن الجنابة لوجود القدرة على الماء لكل واحد من الفريق الأول دون الثاني. ولو كان الإمام متيممًا عن الحدث فسدت صلاة الكل.
قال: رجلان يصليان أحدهما عريانًا والآخر متيمم، فجاء رجل وقال: معي ماء فتوضأ أيها المتيمم ومعي ثوب فخذه أيها العريان فسدت صلاتهما. كذا قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله.
قال: المصلي بالتيمم إذا قال له نصراني: خذ الماء فإنه يمضي على صلاته ولا يقطع لأنّ كلامه قد يكون على وجه الاستهزاء، وقد صح الشروع بيقين فلا يقطع بالشك. فإذا فرغ من الصلاة سأله، فإن أعطاه أعاد الصلاة، وما لا فلا.
ذكر أبو الحسن في (جامعه) في المصلي إذا وجد مع رفيقه ماءً كثيرًا لا يدري يعطيه أم لا أنه يمضي على صلاته، فإذا فرغ سأله فإن أعطاه توضأ وأعاد، لأنه لما أعطاه للحال فالظاهر أنه كان يعطيه في ذلك الوقت لو طلب، فقد صلى بالتيمم مع القدرة على استعمال الماء فيلزمه الإعادة، فإن أبى حين سأله فقد تمت صلاته لعدم القدرة، فإن أعطاه بعدما أبى لم ينتقض ما مضى من صلاته، لأن العجز استحكم بالإباء، فلا يظهر بطلان ما مضى ولزمه الوضوء لصلاة أخرى لارتفاع حكم الإباء في المستقبل بالإعطاء.
وعن محمد رحمه الله: إذا رأى في الصلاة مع غيره ماءً وفي غالب ظنه أنه يعطيه بطلت صلاته والله أعلم.
ومما يتصل بهذه المسائل:
ما قاله محمد رحمه الله في (الزيادات) وصورته: مسافر يغتسل عن جنابة فبقي منه لمعة لم يصبها الماء وليس معه ماء فإنه يتيمم ويصلي لأن الجنابة حلت بجميع البدن. قال عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة» وإنها لا تتجزأ زوالًا كما لا تتجزأ ثبوتًا، فما لم يَطْهر جميع بدنه بالماء لا يخرج عن حكم الجنابة ولم يوجد، فبقي جنبًا وهو عادم الماء، فيجب عليه التيمم حتى يصلي.
فإن تيمم للجنابة ثم أحدث حدثًا يوجب الوضوء وليس معه ماء فإنه يتيمم أيضًا للحدث ويصلي لأن تيممه للجنابة كان متقدمًا على الحدث، والتيمم المتقدم لا يجوز عن الحدث المتأخر، ألا ترى أنه لو اغتسل عن الجنابة ثم أحدث كان عليه أن يتوضأ ولم يجز الاغتسال المتقدم عن الحدث المتأخر كذا هاهنا.
فإن وجد ماءً قبل التيمم للحدث فهذا على وجوه خمسة:
الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع ابتداء تيممه للجنابة فيمنع البقاء، فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء.
الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع ابتداء تيممه للجنابة فلا يمنع البقاء، ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه للوضوء، ويستعمل ذلك الماء في اللمعة تقليلًا للجنابة.
الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة وما يكفي للوضوء: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة فيغسل اللمعة ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه.
الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي غسل اللمعة، وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ويتوضأ للحدث لأن بالتيمم الأول طهر من الجنابة إلى أن يجد ماءً يكفيه لما بقي ولم يجد، فلا يبطل تيممه للجنابة، ولكن يتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء.
الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكل واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما على الجمع: وفي هذا الوجه يصرف الماء إلى اللمعة ثم يتيمم للحدث، لأن الجنابة أغلظ الحدثين، ألا ترى أن الجنب ممنوع عن قراءة القرآن والمحدث غير ممنوع عنه، فعلم أن الجنابة أغلظ الحدثين، والصرف إلى أغلظ الحدثين عند التعارض أولى.
قال: فإن توضأ بهذا الماء جاز ويعيد التيمم للجنابة لأن الماء صار مستحق الصرف إلى اللمعة فقد وجد من الماء ما يكفيه لما بقي فانتقض تيممه للجنابة. والتيمم متى انتقض لا يعود بعد ذلك. فإذا صرف الماء إلى الوضوء بقي جنبًا، وهو عادم الماء فيتيمم للصلاة. فلو أنه لم يتوضأ بهذا الماء ولكن بدأ بالتيمم للحدث ثم صرف إلى اللمعة هل يعيد التيمم للحدث؟
ذكر في (الزيادات) أنه يعيد، وعلى رواية (الأصل) لا يعيد قيل: ما ذكر في (الزيادات) قول محمد رحمه الله، وما ذكر في (الأصل) قول أبي يوسف رحمه الله، وجه قول محمد: أنه تيمم وفي يده من الماء ما يكفيه للوضوء فلا يجوز التيمم.
وجه قول أبي يوسف: أن الماء مستحق الصرف إلى اللمعة فالمستحق بجهة معدوم فيما عدا تلك الجهة، ألا ترى أن الماء المستحق بحاجة العطش جعل كالمعدوم في حق جواز التيمم كذا هاهنا.
هذا الذي ذكرنا إذا وجد الماء قبل أن يتيمم للحدث، وأما إذا وجد الماء بعدما تيمم للحدث فهو على وجوه خمسة أيضًا:
الوجه الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة والحدث لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع التيمم لهما ابتداءً، فيمنع البقاء لهما أيضًا فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث.
الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ولا للحدث لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع التيمم لهما ابتداءً فلا يمنع البقاء أيضًا، ولكن يصرف الماء إلى اللمعة تقليلًا للجنابة.
الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة دون الوضوء: وفي هذا الوجه يبطل تيممه للجنابة فيصرف الماء إلى اللمعة ولا يبطل تيممه للحدث.
الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي اللمعة، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة ويبطل تيممه للحدث فيتوضأ به ويصلي.
وفي الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكلّ واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما جميعًا: وهاهنا يصرف الماء إلى اللمعة، وهل ينتقض تيممه للحدث على رواية (الزيادات) وهو قول محمد رحمه الله: ينتقض، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا ينتقض، لأن وجود الماء عند محمد يمنع ابتداء التيمم فيمنع البقاء، وعند أبي يوسف لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع البقاء.
قال: جنب اغتسل ونسي أن يبدأ بمواضع الوضوء يعني لم يغسل مواضع الوضوء ونسي غسل ظهره أيضًا ثم أراق الماء، فإنه يتيمم لأنه جنب بعد، فإن تيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما إما لمواضع الوضوء وإما لغسل الظهر لا ينتقض تيممه، لأن وجود هذا القدر من الماء في الابتداء لا يمنع التيمم فلا ينقضه في الانتهاء، وكان له أن يصرف إلى أيهما شاء لأن الثابت فيهما نجاسة الجنابة فاستويا فكان له خيار الصرف، ولكن الأفضل أن يستعمله في مواضع الوضوء، فإنما كان هكذا لأنه ليس في الصرف إلى أحدهما إزالة الجنابة بل فيه تقليل الجنابة والسنة أن يبدأ بمواضع الوضوء فكان إلى ما فيه إقامة السنة أولى.
قال: جنب اغتسل وبقي من جسده ظهره لم يصبه الماء وليس معه ماء آخر فعليه أن يتيمم، فإن لم يتيمم حتى أحدث حدثًا يوجب الوضوء فعليه أن يتيمم تيممًا واحدًا للجنابة والحدث جميعًا. وإنما كان هكذا لأن التيمم خلف عن الماء، ثم استعمال الماء مرة واحدة يكفي عن الحدثين، حتى إن الحائض إذا طهرت من حيضها وأجنبت يكفيها غسل واحد فكذا التيمم.
قيل: وينبغي له عند التيمم أن ينوي عن الحدثين لأن التيمم لا يكون طهارة إلا بالنيّة، فإذا لم ينو عنهما بقي التيمم في حق أحدهما بلا نيّة فلا يكون طهارة. وإن تيمم لهما ثم وجد من الماء ما يكفي لأحدهما إما لغسيل الظهر وإما لمواضع الوضوء صرفه إلى غسيل الظهر لما ذكرنا أن الجنابة أغلظ الحدثين ويعيد التيمم للحدث على رواية (الزيادات) وهو قول محمد رحمه الله.
استشهد محمد في (الكتاب) لإيضاح مذهبه بمسألة: ألا ترى أن الرجل إذا كان بثوبه أو جسده نجاسة أكثر من قدر الدرهم وأحدث ولم يجد ماءً وتيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما فإنه يصرفه إلى غسل النجاسة لأنها أغلظ من الحدث لأنه يتوهم أن يغمر البدن وليس للماء بدل في تطهيرها، والحدث لا يغمر البدن، وللماء بدل في رفعه فعلم أنها أغلظ فلهذا يصرف الماء إليها، ثم يعيد تيممه للحدث، مع أن هذا الماء استحق الصرف إلى النجاسة فكذا في مسألتنا.
قال مشايخنا: لا نحفظ لهذا رواية عن أبي يوسف رحمه الله والصحيح أن يقال: لا ينتقض تيممه فلا يلزمه إعادة التيمم عند أبي يوسف.
قال: جنب وجد من الماء قدر ما يكفي للوضوء دون الاغتسال فإنه يتيمم ولا يلزمه استعمال ذلك الماء عندنا لأن هذا القدر من الماء لا يفيد القدرة على الطهارة عن الجنابة فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فإن تيمم وتوضأ ثم أحدث فعليه أن يتيمم لأن الوضوء السابق لا يجزئ عن الحدث اللاحق، فإن تيمم ثم وجد ما يكفيه لأحدهما، إما لبقية جسده أو لمواضع وضوئه صَرَفَهُ إلى الجنابة لأنها أهم ويعيد التيمم للحدث على رواية (الزيادات) وهو قول محمد رحمه الله.
وفي (نوادر ابن سماعة): مسافر أجنب فتيمم وشرع في الصلاة ثم أحدث وقد وجد من الماء ما يكفيه للوضوء يتوضأ ويبني على صلاته في قول محمد رحمه الله الآخر، مروي ذلك عن أبي يوسف رحمه الله أيضًا والله أعلم.

.نوع آخر:

..... إذا أحدث. وفي إمامة المتيمم للمتوضئين إذا افتتح الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وكذلك لو افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وإن وجد بعدما تيمم توضأ واستقبل الصلاة سواء وجد الماء بعدما عاد إلى مكانه أو قبل أن يعود إلى مكانه، هكذا ذكره الحاكم الشهيد رحمه الله في (المختصر).
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله يقول: وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يتوضأ ويبني، قال: وهذا أقيس على مذهبه لأن اقتداء المتوضئ بالمتيمم يجوز عنده، فكذا بناء الوضوء على التيمم، فيحتمل أن يكون ما ذكر للحاكم في المختصر قول محمد.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن المتوضئ إذا سبقه الحدث فذهب وتيمم ثم وجد الماء بعد ما عاد إلى مكانه استقبل الصلاة، وإن وجد الماء قبل أن يعود إلى مكانه ففي القياس يتوضأ ويستقبل الصلاة وهو قول محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يتوضأ ويبني على صلاته.
وفي (البقالي) مسافر أجنب وشرع في الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث فوجد ماءً قدر ما يكفي للوضوء فإنه يتوضأ ويبني قال: وهذا هو القول الآخر لمحمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
ويجوز للمتيمم أن يؤم المتوضئ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز، وهو قول علي رضي الله عنه.
حجته: أن التيمم طهارة ضرورية، وطهارة الماء أصلية فلا يجوز بناء الأصلي على الضروري، ألا ترى أن صاحب الجرح السائل لا يؤم الأصحاء لهذا، ومذهبهما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أن رسول الله عليه السلام بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه أميرًا على سريّة فلما انصرفوا سألهم عن سيرته فقالوا: كان حسن السيرة ولكنه صلى بنا يومًا وهو جنب فسأله عن ذلك، فقال: احتلمت في ليلة باردة وخشيت الهلاك إن اغتسلت فتلوت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] فتيممت وصليت بهم، فضحك في وجهه وقال: «ما لك من فقه عمرو بن العاص» ولم يأمرهم بإعادة الصلاة لأن المتيمم صاحب بدل صحيح فيؤم المتوضئين كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين.
وبه فارق صاحب الجرح السائل فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، فإذا كان الإمام متيممًا وخلفه متوضئون فأحدث واستخلف متوضئ ثم وجد الإمام الأول الماء فسدت صلاته لأنه متيمم رأى الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته، ولا تفسد صلاة القوم ولا صلاة الخليفة لأن الإمامة تحولت إلى الثاني، وصار الإمام الأول مقتديًا بالخليفة كواحد من القوم. وفساد صلاة واحد من القوم لا يوجب فساد صلاة غيره، كما لو تقيأ متعمدًا أو قهقه أو تكلم فسدت صلاته، ولا يوجب ذلك فساد صلاة غيره.
وإن كان الأول متوضئًا والخليفة متيممًا فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة الإمام الأول والقوم جميعًا لأن الإمامة تحولت إلى الثاني وصار الإمام الأول مقتديًا بالثاني على ما ذكرنا وقد فسدت صلاة الإمام الثاني برؤية الماء، وفساد صلاة الإمام يوجب فساد صلاة القوم.
وهذا التفريع إنما يتأتى على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن عندهما اقتداء المتوضئ بالمتيمم جائز، فأما على مذهب محمد رحمه الله لا يتأتى هذا التفريع لأن من مذهبه أن اقتداء المتوضئ بالمتيمم لا يجوز والله أعلم.

.نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات:

ويصلي الرجل بتيممه ما شاء من الصلوات من الفرائض والنوافل والفوائت ما لم يحدث، أو تزول العلة أو يجد الماء. قال الشافعي: يصلي بتيمم واحد فرضًا واحدًا وما شاء من النوافل، وحاصل الخلاف يرجع إلى أن حكم التيمم عند عدم الماء مادي:
قال أصحابنا رحمهم الله: حكمه زوال الحدث مطلقًا من كل وجه إلى وقت الحدث كما في الماء، إلا أن في الماء الزوال يؤقت إلى غاية الحدث. وفي التيمم يؤقت إلى غاية الحدث أو وجود ماء أو زوال العلة. وعند الشافعي: حكمه رفع الحدث مقدرًا بالحاجة إلى فرض الوقت كما في طهارة المستحاضة والصحيح مذهبنا لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء»، فإن وجد ولم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم لأنه لما وجد الماء بطل تيممه والباطل لا يعود. وقد مرت المسألة من قبل.
قال: إذا أجنب المسافر ووجد (من) الماء قدر ما يتوضأ به لا غير فإنه يتيمم ولا يتوضأ به عندنا، وقال الشافعي رحمه الله يتوضأ بذلك الماء ثم يتيمم، وقد مرت المسألة أيضًا، وكذلك على هذا الاختلاف: المحدث إذا كان معه من الماء ما يكفيه لغسل بعض الأعضاء يتيمم عندنا، وعند الشافعي يستعمل الماء فيما يكفيه ثم يتيمم.
احتج الشافعي بظاهر قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا} [النساء: 43] الله تعالى ذكره منكرًا، والمنكر في موضع النفي يعم، فيتناول القليل والكثير، فما دام واجدًا لشيء من الماء لا يكون له أن يتيمم، والفقه فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق إلا بعد استعمال الماء فيما يكفيه، فهو كمن أصابته مخمصة ومعه لقمة من الحلال لا يكون له أن يتناول الميتة ما لم يتناول تلك اللقمة، والدليل أن من وجد سؤر حمار يلزمه استعماله فكذلك هاهنا، بل هذا أولى؛ لأن سؤر الحمار طهور من وجه دون وجه، وهذا الماء طهور من كل وجه، فلما لزمه استعمال سؤر الحمار فهذا أولى، ولأن الطهارة شرط جواز الصلاة، وقد عجز عن استعمال البعض، والعجز عن استعمال البعض لا يسقط الكل قياسًا على الطهارة عن النجاسة الحقيقية وقياسًا على ستر العورة، فإنه لو وجد من الماء قدر ما يغسل بعض النجاسة أو وجد من الثوب قدر ما يستر بعض العورة يلزمه ذلك حتى لو لم يفعل لا تجوز صلاته كذلك هاهنا.
وعلماؤنا احتجوا بهذه الآية أيضًا، فالله تعالى شرط جواز التيمم عدم الماء الذي يطهر، ألا ترى أن الماء النجس لا يمنعه من التيمم وقد عدم هاهنا الماء الذي يطهره، فيجوز له التيمم، ولأنه معطوف على ما سبق، فقد سبق بيان حكم الوضوء والاغتسال ثم عطف عليه قوله: {فلم تجدوا ماء} [النساء: 43] فيكون المفهوم منه ذلك الماء الذي يتوضئون به، ويغتسلون عند الجنابة، وهو غير واجد لذلك الماء، ولأنه إذا لم يطهره استعمال هذا الماء لا يكون في استعماله إلا تضييعه، والماء من أعز الأشياء في السفر، فلا فائدة في استعماله كالمكفر بالصوم إذا وجد بعض الرقبة جاز له الصوم، وكذلك إذا وجد قبل الشروع في الصوم لا يلزمه الإعتاق، ويجوز له الصوم؛ لأن ذلك القدر من الرقبة لا يقع به التكفير، فكذلك هاهنا، فتكون الآية حجة لنا من الوجه الذي بينا.
قوله: واجد للماء، قلنا: نعم، ولكن هذا القدر من الماء لا يكفي لإباحة الصلاة، وأما المخمصة، قلنا: لا يلزمه مراعاة الترتيب، فإن ما معه من الحلال إذا كان لا يكفيه لسد الرمق، فله أن يتناول معه الميتة.
وأما سؤر الحمار قلنا ذلك لأن... الحدث.... فيمنع لهذا... أما هاهنا لا يزول الحدث بهذا القدر من الماء بيقين، فلم يكن هذا نظير ذلك.
قوله: الطاهر عن الحدث شرط من شرائط الجواز، فصار كالنجاسة الحقيقية وستر العورة، قلنا: من مشايخنا من سوى بينهما، وقال: إذا وجد من الماء قدر ما لا يزيل كل النجاسة بل يبقى على الثوب بعدما غسل مقدار ما يمنع من جواز الصلاة، فإنه لا تلزمه الإزالة، وكذلك في الثوب.
ولئن سلمنا فنقول: إن غسل بعض النجاسة الحقيقية مفيد؛ لأن بعض النجاسة يزول على الحقيقة، وكذا بعض الانكشاف يزول ببعض الستر، وهو مأمور بإزالة النجاسة والستر حقيقة وحكمًا فإذا قدر عليها يفرض عليه ذلك، وإذا قدر على إزالته حقيقة دون الحكم، فما عجز عنه يسقط، وما قدر عليه لزمه، أما هاهنا غسل بعض الأعضاء لا يفيد له إباحة الصلاة وهي مشروعة لإباحة الصلاة، فإذا لم تُفِدْ له الإباحة، فوجوده وعدمه بمنزلة، وكذلك لو وجد الماء هذا المتيمم، فإن كان يكفيه لما خوطب به يبطل تيممه، وإن كان لا يكفيه لا يبطل تيممه اعتبارًا للانتهاء بالابتداء.
فإن تيمم للجنابة وصلى ثم أحدث ومعه من الماء ما يتوضأ به توضأ به لصلاة أخرى، لأن التيمم الأول أخرجه من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء فيتوضأ به، فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بماء يكفيه للاغتسال، فلم يغتسل حتى صار عادمًا للماء، ثم حضرت الصلاة ومعه من الماء مقدار ما يتوضأ به فإنه يتيمم، ولا يتوضأ به لأنه لما وجد من الماء قدر ما يغتسل عاد جنبًا كما كان فصار بهذه الحالة والحالة الأولى على السواء، وفي الحالة الأولى يتيمم ولا يتوضأ كذا هاهنا.
ولا يلزمه نزع الخف لأنه لا تيمم في الرجل، فإن تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث، فإنه يتوضأ به، لأن بالتيمم السابق خرج من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال ولم يجد بعد ذلك ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه ما يتوضأ به فعليه أن يتوضأ وينزع خفيه، لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال بعد لبس الخف وجب نزع الخف، فلا يكون له أن يمسح بعد ذلك وإن لم يكن مر بالماء قبل ذلك مسح على خفيه؛ لأن اللبس حصل على طهارة ما لم يجد ما يمكنه الاغتسال، فكان له أن يمسح.
وإذا أصاب بدن المتيمم نجاسة لم ينقض تيممه، وكذلك إذا أصاب ثوبه، لأن التيمم إنما ينتقض بأحد شيئين: أما برؤية الماء أو بالحدث، ولم يوجد واحد منهما، فلا ينتقض تيممه ولكن يمسح تلك النجاسة بخرقة أو خشبة أو تراب ثم يصلي؛ لأنه بالمسح تزول العين، إن كان لا يزول الأثر فهو قادر على إزالة البعض. ولو أمكنه إزالة الكل يؤمر به، فإذا أمكنه إزالة البعض، يؤمر به أيضًا وصار كالعاري إذا وجد من التراب ما يستر به عورته، فإن ترك المسح فإنه يضره لا ترك الأثر، فالأثر لا يكفي لمنع جواز الصلاة.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): في مسلم تيمم ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم فهو على تيممه، وقال زفر رحمه الله: يبطل تيممه، وأجمعوا على أنه إذا توضأ ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم أنه يكون على وضوئه، فوجه قول زفر: أن الكفر يمنع ابتداء التيمم لكونه عبادة فيمنع البقاء، كالصوم والصلاة، وبه فارق الوضوء؛ لأن الكفر لا يمنع ابتداء الوضوء فلا يمنع البقاء قلنا: إن التيمم قد صح، وأفاد حكمه وهو الطهارة والحال حال بقاء الطهارة والكفر لا ينافي بقاء الطهارة فيبقى بعد الردة، ألا ترى أن لو توضأ ثم ارتد يبقى طاهرًا، بخلاف الصوم والصلاة لأنهما حكمهما بعد الفراغ عنهما الثواب، والكفر ينافيه، والسبب لا يبقى بدون الحكم، فأما التيمم، فله حكمان الثواب والطهارة عن الحدث، والثواب إن بطل بالردة، فالطهارة عن الحدث لم تبطل لأن الكفر لا ينافيها فينتفي التيمم، لأن السبب يبقى ببقاء أحد الحكمين، ألا ترى أنه لو توضأ بنية الصلاة ثم ارتد يبطل الثواب وتبقى الطهارة كذا هاهنا.
وإنما لا يصح ابتداء التيمم لأنه جعل طهورًا بشرط إرادة العبادة التي لا صحة لها إلا بالطهارة، وإرادة العبادة من الكافر لا تصح أما في حالة البقاء لا حاجة إلى الإرادة.
قال: ولو تيمم النصراني يريد به الإسلام، لا يصح تيممه، حتى لا يصلي بهذا التيمم لو أسلم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يصح تيممه، شرط في (الجامع الصغير) إرادة الإسلام على مذهب أبي يوسف رحمه الله لم يشترط إرادة الإسلام في كتاب الصلاة والصحيح ما ذكر في (الجامع الصغير) لأن بدون إرادة الإسلام حصل التيمم لا بنية القربة، والمسلم لو تيمم لا بنية القربة لا يصح تيممه بالإجماع فهاهنا أولى.
فوجه قول أبي يوسف أنه تيمم بنية قربة تصح منه فيصح أما بنية القربة؛ لأن الإسلام أصل القرب ورأس العبادات، وإما نية قربة تصح منه فظاهر بخلاف ما لو تيمم بنية الصلاة، لأن نية الصلاة منه لا تصح، غاية ما في الباب أنه لم ينو الصلاة، إلا أن نية الصلاة ليست بشرط لازم، ألا ترى أنه لو تيمم لمس المصحف أو لقراءة القرآن صح.
وجه قولهما: أنه يتيمم بنية قربة تصح بغير طهارة، لأن الإسلام صحيح بدون الطهارة، فلا يعتبر، كما لو تيمم بنية الصوم، أو بنية الزكاة، وبه فارق ما لو تيمم لمس المصحف، أو لقراءة القرآن.
والفقه في ذلك أن التيمم صار طهورًا بخلاف القياس شرعًا بنية قربة لا تتأدى بدون الطهارة. ولو توضأ في حال كفره ثم أسلم وصلى بذلك الوضوء يجوز عندنا خلافًا للشافعي بناء على أن نية الصلاة عنده شرط صحة الوضوء ونية الصلاة من الكافر لا تصح، وعندنا نية الصلاة ليست بشرط لصحة الوضوء، والمسألة معروفة.
وللمسافر أن يطأ جاريته، وإن علم أنه لا يجد الماء، وقال مالك: يكره ذلك، حجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: أما ابن عمر فلا يفعل ذلك وأما أنت فإذا وجدت الماء فاغتسل، والمعنى فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق في اكتساب سبب الجنابة حال عدم الماء، والصلاة مع الجنابة عظيم فلا ينبغي له أن يتعرض لذلك من غير ضرورة، ولنا قوله تعالى: {أو لامستم النساء} [النساء: 43] فلذلك يفيد إباحة الملامسة في حال عدم الماء ثم التيمم للجنابة والحدث بصفة واحدة، فكما يجوز له اكتساب سبب الحدث في حال عدم الماء، فكذلك اكتساب سبب الجنابة لأن في منع النفس بعد الشبق بعض الحرج، وما شرع التيمم إلا لرفع الحرج.
سُئل شيخ الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن رجل ضرب يده على الأرض للتيمم فرفعها، فقبل أن يمسح بهما وجهه وذراعه أحدث بصوت أو ريح أو نحو ذلك ثم مسح بهما، هل يجوز ذلك التيمم؟ قال: وقعت هذه المسألة أيام أستاذنا فقال القاضي الإمام المنتسب إلى إسبيجاب رحمه الله: يجوز التيمم بمنزلة من ملأ كفيه ماء فأحدث ثم استعمله في بعض أعضاء الوضوء، أليس أنه يصح ذلك؟ كذا هاهنا، وقال السيد الإمام الأجل أبو شجاع رحمه الله: لا يجوز؛ لأن الضربة من التيمم، قال عليه السلام: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» فقد أتى ببعض التيمم ثم أحدث فينتقض كما ينتقض الكل إذا حصل بعد الكل بمنزلة الوضوء إذا حصل الحدث في خلاله ببعض ما وجد كما إذا حصل بعد تمامه ينتقض الكل.
قال: ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض وميت ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، إن كان الماء لأحدهم فهو أحق وإن كان الماء لهم لا ينبغي لأحد أن يغتسل لأن للميت نصيب وإن كان الماء مباحًا فالجنب أحق به وتتيمم المرأة، لأن غسل الجنب فريضة ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة ولأن غسل الجنب بنص الكتاب، وغسل الميت ثبت بالسنة فيوسم الميت ويصلي الرجل وتقتدي به المرأة بالتيمم، وكذا لو كان مكانَ الحائض محدث يصرف إلى الجنب بالإجماع، لأن في كون التيمم شبيهًا بالجنابة خلاف، فإن عمر وابن مسعود لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى.
وإن بدأ بذراعيه في التيمم أو مكث بعدما يمم وجهه ساعة ثم يمم ذراعيه أجزأه، وعند الشافعي لا يجوز في الترتيب بناء على مسألة الترتيب في الوضوء، وعند مالك لا يجوز في الموالاة بناء على مسألة الموالاة في الوضوء، وقد بيناهما في باب الوضوء فكذلك هاهنا، والمعنى فيهما أن هذا ترك السنّة وترك السنّة لا يمنع الجواز.
قال: متيمم مر على الماء وهو نائم، ذكر في بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة رحمه الله أنه ينتقض تيممه، وقيل ينبغي أن لا ينتقض عند الكل، إنما الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فيما إذا تيمم وفي رحله ماء لا يعلم به.
رجل يرى التيمم إلى الرسغ أو الوتر ركعة واحدة ثم رأى التيمم إلى المرفق، والوتر ثلاثًا لا يعيد ما صلى وإن فعل ذلك من غير أن يسأل أحدًا ثم سأل فأمر بثلاث يعيد ما صلى لأنه في الوجه الأول مجتهد وفي الوجه الثاني لا، يعني في الوتر.
قال: المسافر إذا وجد ماء قدر ما يغسل به كل عضو مرة واحدة لا يجوز له أن يتيمم إلا أن يخاف العطش على نفسه أو على دابته، ولو كان متيممًا فوجد ماءً قدر ما يكفي كل عضو مرة واحدة، فغسل بعض أعضائه ثلاثًا ثلاثًا فلم يبق الماء فإنه يعيد التيمم.
قال: وإذا أحدث الإمام في صلاة الجنازة، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن استخلف متوضئًا ثم تيمم وصلى خلفه أجزأه في قولهم جميعًا، فإن تيمم هذا الذي أحدث وأم الناس فأتم جازت صلاة الكل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى قول محمد وزفر رحمهما الله: صلاة المتوضئ فاسدة وصلاة المتيممين جائزة، وهذه المسألة دليل على أن في صلاة الجنازة يجوز البناء والاستخلاف، ويصح فيها اقتداء المتوضئ بالمتيمم كما في غيرها من الصلوات.
قال: المسافر إذا لم يجد الماء ووجد الثلج، إن كان ذلك في مكان البرد وزمانه جاز له التيمم لأن التوضؤ بالثلج لا يجوز، إلا أن يسيل الماء على أعضائه ويتقاطر منها، وذلك لا يتصور في زمان الشتاء، فإذا عجز عن الوضوء جاز التيمم.
قال: مسافر أحدث ومعه ثوب نجس، فوجد ماء قدر ما يكفي للوضوء أو لغسل الثوب ولا يكفيهما فإنه يغسل الثوب به ويتيمم للحدث ويصلي وإن توضأ بالماء وصلى في الثوب النجس يجزئه وكان مسيئًا فيما فعل.
وإذا تيمم لصلاة الجنازة وصلى جاز له أن يصلي بذلك التيمم على جنازة أخرى قبل أن يقدر على الوضوء كما لو تيمم للمكتوبة جاز له أن يصلي بذلك التيمم مكتوبة أخرى.
قال: مسافر معه ماء طاهر وسؤر حمار، ولا يعرف أحدهما من الآخر قال محمد رحمه الله: يتوضأ بهما جميعًا ولا يتيمم.
قال: جنب تيمم للظهر وصلى ثم أحدث فحضرته العصر ومعه ماء يكفي للوضوء فإنه يتوضأ به لأن الجنابة زالت بالتيمم، فإذا أحدث بعد التيمم ومعه ما يكفي للوضوء يتوضأ فإن توضأ للعصر وصلى ثم مر بماء يتأتى منه الاغتسال، وعلم به ولم يغتسل حتى حضرت المغرب وقد أحدث أو لم يحدث ومعه ماء قدر ما يكفيه الوضوء فإنه يتيمم ولا يتوضأ به لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال عاد جنبًا فهذا جنبٌ معه من الماء ما لا يكفي الاغتسال فيتيمم. ومن تيمم ثم شك أنه أحدث أو لم يحدث فهو على تيممه ما لم يستيقن بالحدث، كما لو شك في الحدث بعدما لو توضأ.
قال: مسافر أجنب، فغسل وجهه وذراعيه، ولم يبق الماء فإنه يتيمم، فإن تيمم وشرع في الصلاة ثم قهقه ثم وجد ماءًا يكفي الاغتسال، فإنه يغسل أعضاء الوضوء، إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله، ويغسل ما بقي من جسده ما لم يكن غسله في المرة الأولى بلا خلاف، فالضحك في الصلاة ينقض طهارة الوضوء بالإجماع، وهل ينقض طهارة الاغتسال؟ فيه خلاف وقد مرت المسألة من قبل.

.الفصل السادس في المسح على الخفين:

يجب أن يعلم بأن المسح على الخفين جائز عند عامة العلماء بآثار مشهورة قريبة من التواتر، روى عمر وعلي والعبادلة الثلاثة وصفوان بن عسال المرادي وغيرهم رضي الله عنهم عن رسول الله عليه السلام، وعن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال توضأ رسول الله عليه السلام في سفر وكنت أصب عليه الماء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يديه من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت: نسيت غسل القدمين فقال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عزّ وجلّ». وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه مسح على خفيه وقال: «رأيت النبي عليه السلام فعل ذلك، فقالوا لجرير: أبعد نزول سورة المائدة، وعنوا به وأرجلكم على قراءة النصب الدالة على فرضية الغسل، فقال جرير: وهل كان إسلامي إلا بعد سورة المائدة»، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: أدركت سبعين نفرًا من أصحاب رسول الله عليه السلام كلهم يرون المسح على الخفين.
ولكثرة الأخبار قال أبو حنيفة رحمه الله: ما قلت بالمسح على الخفين حتى جاء في مثل ضوء النهار، وفي رواية قال: حتى رأيت له شعاعًا كشعاع الشمس. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سُئل عن السنّة والجماعة فقال: أن تحب الشيخين ولا تطعن في الحسنين وتمسح على الخفين. وقال الكرخي رحمه الله: من أنكر المسح على الخفين يخشى عليه الكفر. قالوا: وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله: من أنكر المسح على الخفين يكفر لأن حديث المسح على الخفين بمنزلة التواتر عنده، ومن أنكر التواتر يكفر.
وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في صورة المسح وكيفيته ومقداره:
فنقول: قال أصحابنا رحمة الله عليهم: مسح الخف مرة واحدة ولا يسن فيه التكرار، ويبدأ من قبل الأصابع فيضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفيه الأيمن، ويضع أصابع يده اليسرى على مقدم خفه الأيسر ويمدهما إلى أصل الساق، هكذا روى مغيرة بن شعبة فعل رسول الله عليه السلام، والمعنى: أن المسح قائم مقام الغسل، والسنّة في الغسل البداية من قبل الأصابع فكذلك في المسح.
وعن محمد رحمه الله: أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: أن يضع أصابع يديه على مقدم خفيه ويجافي كفيه ويمدهما إلى الساق أو يضع كفيه مع الأصابع ويمدهما جملة، قال محمد رحمه الله: كلاهما حسن قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والأحسن تحصيل المسح بجميع اليد، ولو بدأ من قبل الساق يجوز لأنه أتى بأصل المسح إلا أنه ترك السنّة، وترك السنّة لا يمنع الجواز. ألا ترى أن في الغسل لو بدأ من أصل الساق يجوز؟، وطريقه ما قلنا.
ولو مسح برؤوس الأصابع وجافى أصول الأصابع والكف لا يجوز، إلا أن يبلغ ما ابتل من الخف عند الوضع مقدار الواجب وذلك ثلاثة أصابع، ولو مسح بظاهر كفيه يجوز والمستحب المسح بباطن كفيه.
ولو مسح بأصبع أو أصبعين لا يجوز؛ لأن المسح على الخفين نظير المسح على الرأس لأنه معطوف على الرأس في إحدى الروايتين على ما مر ثم لو مسح على الرأس بأصبع أو أصبعين لا يجوز، ولو مسح بثلاثة أصابع جاز فهاهنا كذلك. وعلى قياس رواية الحسن في مسح الرأس انه لا يجوز ما لم يمسح مقدار الربع، لا يجوز في مسح الخفين إلا مقدار الربع أيضًا ولو مسح بالإبهام والسبابة: إن كانا مفتوحين جاز لأن ما بينهما مقدار أصبع آخر، وقد ذكرنا هذا في مسح الرأس، ولم يذكر محمد رحمه الله في (الأصل): أن التقدير بثلاثة أصابع اليد أو بثلاثة أصابع الرجل، وكان الكرخي رحمه الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع الرجل اعتبارًا لمحل المسح. وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع اليد اعتبارًا لآلة المسح، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله.
ولو مسح بأصبع واحد ثم بله ومسح ثانيًا وثالثًا، إن مسح كل مرة غير الموضع الذي مسحه مرة (لا) يجوز كأنه مسح بثلاثة أصابع اليد، ويجوز المسح على الخف ببلل الغسل سواء كانت البلة متقاطرة أو غير متقاطرة، ولا يجوز المسح ببلل المسح، وتفسير هذا: إذا توضأ ثم مسح الخف بلة بقيت على كفه بعد الغسل يجوز، ولو مسح رأسه ثم مسح الخف ببلة بقيت لا يجوز، لأن في الفصل الأول: البلة لم تصر مستعملة لأن الغرض منها ما أقيم بها، وفي الفصل الثاني: البلة صارت مستعملة، لأن الغرض أقيم بها.
ولو توضأ ونسي مسح خفيه، ثم فاض الماء، فأصاب الماء ظاهر خفيه، يجزئه عن المسح، لأن المقصود والمأمور به وصول البلة وقد وجد، وهو نظير ما لو نسي مسح الرأس فأصاب رأسه ماء المطر هل يصير الماء مستعملًا؟ قال أبو يوسف رحمه الله: لا يصير، وقال محمد رحمه الله: يصير.
وإذا لم يمسح على خفيه ولكن مشى في الحشيش فابتل ظاهر خفيه ببلل الحشيش، إن كان الحشيش مبتلًا بالماء أو بالمطر يجزئه بالإجماع، وإن كان مبتلًا بالطل، اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز لأن الطل من الماء كالمطر، وفيه أن الطل سبيل في بيت المقدس كالمطر.
ولو أَمَرَ إنسانًا حتى مسح على خفيه جاز لحصول المقصود وهو إيصال البلة والله أعلم.

.نوع آخر في بيان محل المسح:

فنقول: محل المسح ظاهر الخف دون باطنه، حتى لو مسح باطن خفيه دون ظاهرهما لم يجزئه، وقال الشافعي رحمه الله: المسح على ظاهر الخف فرض وعلى باطنه سنة، والأولى عنده أن يضع يده اليمنى على ظاهر الخف، ويده اليسرى على باطن الخف فيمسح بهما كل رجل.
احتج الشافعي رحمه الله بما روي عن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه: «أن النبي عليه السلام: مسح على خفيه أسفله وأعلاه»، ولأن الاستيعاب في مسح الرأس سنة، فكذا في مسح الخفين.
وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا: بما روينا من حديث المغيرة، وبما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله عليه السلام يمسح على ظاهر الخفين دون باطنهما»، ولأن باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصب يده ذلك اللوث وفيه بعض الحرج.
والمسح بالخف إنما شرع لرفع الحرج. وأما الجواب عن الحديث: فكذلك الحديث فلا يوجه به، وأما الجواب عن استيعاب الرأس قلنا: جميع الرأس محل المسح بدليل: أنه لو مسح بعض أطرافه دون البعض يجوز بالإجماع، وهاهنا لو اقتصر على المسح على باطن الخف، لا يجوز بالإجماع، دل أن باطن الخف ليس بمحل للمسح، وإذا لم يكن محلًا للمسح لا يسن المسح عليه وكذلك إذا مسح على العقب لا يجوز؛ لأن محل المسح المقدم دون المؤخر، ولو مسح على ما يلي الساق أو على ما يلي مقدم ظاهر الخف يجوز، ولو مسح على فوق الكعبين لا يجزئه والله أعلم.

.نوع آخر في بيان ما يجوز عليه المسح من الخفاف وما بمعناها وما لا يجوز:

قال: الخف الذي يجوز عليه المسح ما يُمَكّن قطع السفر، وتتابع المشي عليه، وستر الكعبين وما تحتهما. وستر ما فوق الكعبين ليس بشرط، لأن ما فوق الكعبين زيادة في إطلاق اسم الخف عليه، وإن كان يرى من الكعب قدر أصبع أو أصبعين جاز المسح عليه، وإن كان ثلاثة أصابع فصاعدًا لا يجوز المسح نص عليه محمد رحمه الله في (الزيادات).
والمذكور في (الزيادات): رجل عليه خفاف لا ساق عليهما جاز أن يمسح عليهما، إذا كان الكعب مستورًا، وإن كان خرج منها شيء من مواضع الوضوء نحو الكعب وغيره، وإن كان ما خرج مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل لا يجوز المسح عليهما، وعن هذه المسألة قال مشايخنا: إذا لبس المكعب ولا يرى من كعبه إلا إصبع أو إصبعان جاز المسح عليه لأنه بمنزلة الخف الذي لا ساق له.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الصحيح من المذهب جواز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود التركية، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله روى عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود، قال مشايخنا: كان أبو حنيفة رحمه الله لم يعرف صلابة هذا النوع من الخف وصلاحيته لقطع السفر وتتابع المشي به أما لو عرف ذلك لأفتى به، لأن مثل هذا الخف صالح لقطع السفر وتتابع المشي به فكان كالخف المتخذ من الأديم وغيره.
وأما المسح على الجوارب، فلا يخلو: إما إن كان الجوارب رقيقًا غير منعل، وفي هذا الوجه لا يجوز المسح بلا خلاف، وأما إذا كان ثخينًا منعلًا، وفي هذا الوجه يجوز المسح بلا خلاف، لأنه يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليه فكان بمعنى الخف، والمراد من الثخين: إن كان يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء، ولا يسقط، فأما إذا كان لا يستمسك ويسترخي فهذا ليس بثخين، ولا يجوز المسح عليه، وأما إذا كان ثخينًا غير منعل، وفي هذا الوجه لا يجوز المسح عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز.
ثم بين المشايخ اختلاف في مقدار النعل الذي يكفي لجواز المسح على الثخين عند أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: إذا كان في باطن الخف أديم وهو ما يكفي لكف القدم، جاز المسح عليه، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى) حتى تكون الأديم على أصابع الرجل وظاهر القدمين، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى) يكون الأديم إلى الساق ليكون ظاهر قدميه وكعباه مستورًا بالأديم فعلى قول هذا القائل: لو كان المستور بالأديم ما دون الساق، والساق مجورب لا يجوز المسح عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وسألت الشيخ الإمام الأستاذ عن تفسير الجورب المنعل عند أبي حنيفة رحمه الله، أراد به الجلد الرقيق، الذي اعتاد الناس حوزه على جواربهم، أو أراد الصرم العلنطنطر الصرم الذي يكون على جوارب أهل مرو، وقال: إن كان هذا الجورب المنعل كجوارب الصبيان يمشون عليهما في تخرجة وغلظ النعل جاز المسح عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال شمس الأئمة: هذا في شرح كتاب الصلاة الجورب أنواع: منها ما يكون من غزل وصوف، ومنها ما يكون من غزل، ومنها ما يكون من شعر.
والأول: أن لا يجوز عليه المسح عندهم جميعًا.
وأما الثاني: فإن كان رقيقًا: لا يجوز المسح عليه بلا خلاف، وإن كان ثخينًا مستمسكًا ويستر الكعب سترًا لا يراه الناظر كما هو جوارب أهل مرو، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز المسح عليه، إلا إذا كان منعلًا أو مبطنًا، وعلى قولهما: يجوز.
وأما الثالث: ذكر في (النوادر): أنه لا يجوز المسح عليه، قالوا: إذا كان صلبًا مستمسكًا يمشي معه فراسخ أو فرسخًا، يجب أن يكون على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.
وأما الرابع، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز المسح عليه، والمتأخرون قالوا: الصحيح أن المسألة على الخلاف.
وأما الخامس: فلا يجوز المسح عليه كيف ما كان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في (شرحه): حكي أن أبا حنيفة رحمه الله مسح على جوربيه في مرضه الذي مات فيه، وقال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، قال رحمه الله: استدلوا به على رجوعه إلى قولهما، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: هذا كلام محتمل يحتمل أنه كان رجوعًا إلى قولهما، ويحتمل أن لا يكون رجوعًا ويكون اعتذارًا إليهم، أي إنما أخذت بقول المخالف للضرورة، فلا يثبت الرجوع بالشك.
وأما المسح على الحاروق فإن كان يستر القدم والكعب، فهو بمنزلة الخف الذي لا ساق له، فكل جواب ذكرناه ثمة فهو الجواب هاهنا، وإن كان لا يستر الكعب والقدم أكر بدهش حاروق يوست برد وفيه باسر جنابك عادت بعضي مرديان أست مسح روا يودوا بن بمعنى جوربي ما شدان يوست كه بليس معه النعليه وإنما مسح رواست باتفاق كذا ذكره الطحاوي رحمه الله، واكر وني حاروق توست في برد وضنة است عليه عامة مشايخ برا يندكه لا يجوز المسح عليه، وجوز بعضهم ذلك لأن عوام الناس يسافرون به خصوصًا في بلاد الشرق، وإذا كان مشقوقًا بمعنى ما يلي ظاهر القدم فكان يبدو قدمه من ذلك، أو كان جوربًا ثخينًا منعلًا إلا أن ما يلي ظاهر القدم مشقوق، وقد بينا لذلك الشق أزرارًا مكان حشوهما أو هيأ له خيطًا أو سترًا فكان يسدها سدًا يستر قدميه فهو كغير المشوق، وإن كان يستر بعضه دون بعض ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن ذلك بمنزلة الخرق في الخف، وسيأتي الكلام في الخرق بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا لبس الجرموقين، وأراد أن يمسح عليهما فالمسألة على وجهين: إما أن يلبسهما وحدهما أو يلبسهما فوق الخفين، وكل مسألة على وجهين: إما إن كان الجرموق من كرباس أو ما يشبه الكرباس، أو من أديم، أو ما يشبه الأديم فإن لبسهما وحدهما، فإن كان من كرباس، أو ما يشبه الكرباس لا يجوز المسح عليهما، لأنه لا يمكن قطع السفر، وتتابع المشي عليه، وإن كان من أديم أو ما يشبه الأديم يجوز المسح عليهما، لأنه يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليه، وإن لبسهما فوق الخفين، فإن كانا من كرباس أو ما يشبه الكرباس لا يجوز المسح عليهما كما لو لبسهما على الانفراد إلا أن يكونا رقيقين يصل البلل إلى ما تحتهما، وإن كانا من أديم أو ما يشبه الأديم أجمعوا أنه إذا لبسهما بعدما أحدث قبل أن يمسح على الخفين أو بعدما أحدث ومسح على الخفين أنه لا يجوز المسح عليهما، وإن لبسهما قبل أن يحدث جاز المسح عليهما عندنا، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام فقد روى عنه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه مسح على الموق والموق هو الجرموق، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر رضي الله عنه مسح على جرموقيه.
وحاصل مذهب أصحابنا رحمهم الله: أنه متى لبس الجرموق على الخف قبل الحدث والجرموق يصير بدلًا عن الخف، فلا يؤدي إلى أن يكون للبدل بدلًا، ومتى لبس الجرموقين على الخف، فلو جاز المسح على الجرموق أدى إلى أن يكون للبدل بدلًا وأنه لا يجوز، وإن مسح على جرموقيه ثم نزعهما أعاد المسح على خفيه.
فرق بين هذا وبين ما إذا مسح على خف ذي طاقين ثم نزع أحد طاقيه، فإنه لا يلزمه إعادة المسح على الطاق الثاني، وكذلك إذا مسح على خفيه فقشر جلد ظاهر الخفين ثم رفعه فإنه لا يلزمه إعادة المسح، وكذلك إذا كان الخف مشعورًا كالخف اليماني فمسح على ظاهر الشعر ثم حلق الشعر، فإنه لا يلزمه إعادة المسح.
والفرق: أن الخف إذا كان ذا طاقين وكل طاق متصل بالآخر غير مزايل عنه فيصيران بحكم الاتصال كشيء واحد كالشعر مع بشرة الرأس اعتبرا شيئًا واحدًا في حكم الاتصال، حتى كان المسح على شعر الرأس كالمسح على البشرة، فكذا هاهنا يجوز المسح على أحد الطاقين كالمسح على الطاق الآخر فالممسوح لم يزد من حيث الحكم والاعتبار فلم يجب إعادة المسح، فأما الجرموق غير متصل بالخف بل هو مزايل عنه فلا يجعل المسح على الجرموق كالمسح على الخفين، فالممسوح زال حقيقة وحكمًا فيحل الحدث بما تحته، فيلزمه إعادة المسح، كما لو أحدث في هذه الحالة. وإذا لبس الخفين فوق الخفين، فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا: فيما إذا لبس الجرموقين فوق الخفين.
وإذا لبس الجرموقين فوق الخفين ثم نزع أحدهما قال: عليه أن يعيد المسح على الخف الثاني والجرموق الثاني هكذا ذكر في ظاهر الرواية، ووقع في بعض كتاب الصلاة أنه يخلع الجرموق الثاني ويمسح على الخفين وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية، (الأصول).
ووجه ذلك: أن الحدث حل بالخف الأدنى فيحل في الخف الآخر لأنه خلف الخف فلا يتجزأ، ووجه ما ذكرنا في (ظاهر الرواية): أن الحدث إنما حل بالخف الأدنى لزوال المانع وهو الجرموق وهذا المعنى معدوم في الخف الآخر، فلا يحل الحدث بالخف الآخر، وإنما يحل بالجرموق الذي على الخف الآخر، فلا يلزمه إعادة المسح على الخف الآخر، وإنما لزمه إعادة المسح على الجرموق الذي على الخف الآخر؛ لأن المسح انتقض في حق الخف الأدنى فينتقض المسح في حق الجرموق الآخر، لأن انتقاض المسح لا يتجزأ.
فإن قيل: ما ذكرتم يشكل بما إذا نزع أحد خفيه، فإن هناك يحل الحدث بالرجل الأخرى حتى يلزمه غسل الرجل الأخرى مع أن المانع من حلول الحدث في الرجل الأخرى قائم وهو الخف.
قلنا: قضية القياس فيما إذا نزع أحد خفيه ألا يحل الحدث في الرجل الأخرى لقيام المانع به لكن سقط اعتبار القياس فيه لضرورة وهي ألا يصير جامعًا بين البدل والمبدل منه، وهذه الضرورة معدومة فيما نحن فيه فيبقى المانع معتبرًا، وهذه المسائل كلها دليل على أن من لبس الجرموق فوق الخف ومسح على الجرموق ثم أحدث ونزع الجرموق جاز له المسح على الخف.
وإذا كان في الخف خرق فإن كان يسيرًا لا يمنع وإن كان كبيرًا يمنع، والقياس في الخرق الكبير أن يمنع جواز المسح أيضًا لأن الخف جعل مانعًا سراية الحدث إلى الرجل لا رافعًا حدثًا حل بالرجل، وإذا كان بعض القدم مكشوفًا، ولا مانع في حق ذلك البعض فسرى الحدث إلى ذلك البعض، ومن ضرورته سراية الحدث إلى الكل، لأن الحدث لا يتجزأ إلا أنا استحسنا في اليسير لضرورة لأن الخف قل ما يخلو عن قليل خرق، لأنه وإن كان جديدًا ما بان الدروب والأسافي فيه خرق ولهذا يدخله التراب، ولا ضرورة في الكبير فيبقى الكبير على أصل القياس.
بعد هذا الكلام في معرفة الحد الفاصل بين اليسير والكبير فنقول: إذا كان الخرق قدر إصبع أو إصبعين فهو يسير، وإذا كان قدر ثلاثة أصابع فهو كبير، ثم على رواية (الزيادات): اعتبر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع الرجل، وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة: اعتبر ثلاثة أصابع اليد، ثم الخرق الكبير إنما يمنع جواز المسح إذا كان منفرجًا يرى ما تحته، فأما إذا كان لا يرى ما تحته، فإن كان الخرق جليًا إلا أنه إذا أدخل فيه الأصابع يدخل فيها ثلاثة أصابع لا يمنع جواز المسح وإن كان يبدو قدر ثلاثة أصابع حالة المشي، لأن في حال وضع القدم على الأرض يمنع جواز المسح، لأن الخف يلبس للمشي، فكان المعتبر حالة المشي، وهذا لأن جواز المسح على الخفين بطريق الرخصة لرفع الحرج عن الناس، فإذا كان الجرموق بحال لا يرى ما تحته حالة المشي فالناس يلبسون مثل هذا الخف عادة لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي به فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لوقعوا في الحرج، وإذا كان الخرق بحال يرى ما تحته حالة المشي، فالناس لا يلبسون مثل هذا الخف عادة، لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي به فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج.
ثم اختلف المشايخ في فصل أنه إذا كان يبدو قدر ثلاثة أنامل من أصابع الرجل هل يمنع جواز المسح؟ قال بعضهم يمنع، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وقال بعضهم: لا يمنع ويشترط أن يبدو قدر ثلاثة أصابع بكمالها، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الأصح.
ولو ظهر من الخرق الإبهام، وهي مقدار ثلاثة أصابع من غيرها جاز عليه المسح ويعتبر التقدير في تقدير الأصابع الصغير والكبير على السواء، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وسواء كان الخرق في باطن الخف أو ظاهره أو في ناحية العقب فالحكم لا يختلف، يعني إذا كان الخرق مقدار ثلاثة أصابع من أي جانب كان، فذلك يمنع جواز المسح؛ لأن الخرق إذا كان مقدار ثلاثة أصابع يمنع قطع السفر وتتابع المشي به من أي جانب كان الخرق فلا يلبس عادة مع هذا الخرق، فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج.
وذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله: إذا كان المكشوف من قبل العقب أكثر من المستور لا يجوز المسح عليه، وإن كان المكشوف أقل من المستور يجوز المسح، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة أنه يمسح حتى يبدو أكثر من نصف العقب.
ويجمع الخروق في خف واحد ولا يجمع في خفين.
بيانه: إذا كان في أحد الخفين خرق قدر أصبع، وفي الآخر قدر إصبعين جاز المسح عليهما، ولو كان في خف واحد خرق في مقدم الخف قدر أصبع وفي العقب مثل ذلك، وفي جانب الخف مثل ذلك لا يجوز المسح عليه، فرق بين الخرق وبين النجاسة، فإن النجاسة تجمع في خفين كما تجمع في خف واحد متى كان في كل موضعين وكذلك الخرق في موضع العورة يجمع، والفرق أن في باب العورة المانع انكشاف العورة وقد وجد ذلك، وأما في باب النجاسة المانع هو النجاسة لأنها تنافي الطهارة، وإن كانت في مواضع متفرقة، فأما الخرق فما كان مانعًا لعينه، بل لكونه مانعًا تتابع المشي به، وهذا إنما يحصل إذا كان الخرق مقدار ثلاثة أصابع في خف واحد لا في خفين، وإن كان الخرق على الساق لا يمنع جواز المسح وإن كان أكثر من ثلاثة أصابع؛ لأن الخرق على الساق لا يكون أعلى حالًا من عدم الساق، ولو لم يكن للخف ساق وكان الكعب مستورًا يجوز المسح عليه فهاهنا أولى.

.نوع آخر في بيان شرط جواز المسح على الخف:

شرط جواز المسح على الخف أن يكون الحدث بعد اللبس طارئًا على طهارة كاملة، حتى إنه لو غسل رجليه أولًا ولبس الخفين ثم أحدث لم يجزه المسح، لأن الحدث ما طرأ على طهارة كاملة وسواء كملت الطهارة قبل اللبس أو بعده جاز المسح في الحالين عندنا حتى إنه لو غسل رجليه أولًا ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم أحدث جاز له المسح على الخف عندنا، وقال الشافعي: الشرط أن يدخلهما في الخف بعد إكمال الطهارة.
وثمرة الخلاف مع الشافعي لا تظهر في هذه المسألة، لأن عنده الترتيب في الوضوء شرط وقد عدم الترتيب هاهنا، وإنما تظهر في مسألة أخرى، وهي:
ما إذا توضأ وغسل رجله اليمنى ولبس عليه الخف ثم غسل رجله اليسرى ولبس عليه الخف ثم أحدث وتوضأ وأراد المسح جاز المسح عندنا وعند الشافعي لا يجوز واعتبر بما لو أحدث بعد اللبس ثم أكمل الطهارة فإنه لا يجوز المسح هناك، ونحن فرقنا بينما إذا أكمل الطهارة قبل الحدث، وبينما إذا لم يكمل حتى أحدث، والفرق أن الخف جعل مانعًا سراية الحدث إلى الرجل لا رافعًا لحدث حل بالرجل، فإذا أكمل الطهارة قبل الحدث كان الخف مانعًا سراية الحدث من كل وجه ولم يكن رافعًا بوجه ما، لأن الحدث قد ارتفع عن الرجلين حقيقة لغسلهما، وحكمًا لغسل ما بقي ولهذا جاز أداء الصلاة بتلك الطهارة فجاز المسح، فأما إذا أحدث قبل إكمال الطهارة كان الخف رافعًا الحدث من وجه لأن الحدث إن ارتفع عن القدمين حقيقة بغسلهما لم يرتفع حكمًا، ولهذا لو أراد أن يصلي بتلك الطهارة لا يجوز فيكون الخف رافعًا لحدث كان قائمًا فيه من وجه وإنه لا يجوز، ولهذا لا يمسح.
والنية ليست بشرط لجواز المسح على الخفين حتى إن من قال لغيره: علمني الوضوء والمسح على الخفين، فتوضأ ذلك الغير ومسح على الخفين وكان قصده التعلم جاز عندنا وهذا لأن المنصوص عليه المسح دون النية فاشتراط النية يكون زيادة على النص وإنه لا يجوز، ألا ترى أنه لا تشترط النية لجواز مسح الرأس، وإنما لا تشترط لما قلنا.
وكذلك الترتيب ليس بشرط عندنا، بيانه: فيما ذكرنا أنه إذا غسل رجليه أولًا ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم أحدث وتوضأ، جاز له المسح على الخفين.
ويمسح من كل حدث أو خبث في الوضوء بعد اللبس، فأما الجنابة فلا يجوز المسح فيها لحديث صفوان بن عسال المرادي قال: «كان رسول الله عليه السلام يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة ولكن من بول أو غائط أو نوم» ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن بالنص ومع الخف لا يتأتى ذلك، ولأن جواز المسح لضرورة دفع المشقة، وذلك في الحدث أظهر لتكرير وقوعه في كل يوم عادة، وعدم تكرير وقوع الجنابة في كل يوم عادة، فامتنع الاستدلال.
ذكر الناطفي رحمه الله في (هدايته): قال أبو يوسف رحمه الله في (الإملاء): كل طهارة تنتقض بغير حدث، فإذا انتقض مع الحدث يمنع جواز المسح على الخفين، وكل طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، فإذا انتقض بالحدث الصغرى لا يمنع جواز المسح على الخفين.
وأشار إلى الفرق فقال: ما يبطل بغير حدث كان الحدث موجودًا عند ابتداء لبسه فلم يصادف الحدث طهارة ولا كذلك طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، لأن ابتداء اللبس صادف طهارة كاملة، فكان الحدث طارئًا على لبسه.
وتفسير هذا: المسافر إذا لم يجد الماء وتيمم ولبس خفيه ثم أحدث ووجد من الماء ما يكفيه للوضوء فإن عليه أن يتوضأ ويغسل قدميه ولا يجوز المسح على خفيه، لأن تيممه قد بطل بوجود الماء، وكان الحدث موجودًا في رجليه لأن التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك المستحاضة، ومن به جرح سائل.
وكذلك لو توضأ بنبيذ التمر ولبس الخفين ومسح على الخفين بنبيذ التمر ثم وجد الماء نزع خفيه وتوضأ به وغسل قدميه لأنه لا يرفع الحدث وهو كالتراب.
وإذا توضأ بسؤر الحمار ولبس خفيه ولم يتيمم حتى أحدث فإنه يتوضأ بما بقي معه من سؤر الحمار ويمسح على الخفين ثم يتيمم ويصلي لأن سؤر الحمار إن كان طاهرًا مطهرًا فقد حصل اللبس على طهارة كاملة فجاء شرط جواز المسح على الخفين، وإن كان نجسًا أو كان طاهرًا غير طهور ففرضه في هذه الحالة التيمم، والرِّجْلُ لاحظ لها من التيمم، فتيقنا لسقوط غسل الرجلين فلهذا جاز المسح.
ولو توضأ بنبيذ التمر، ولبس الخف ثم أحدث ومعه نبيذ التمر، فإنه يتوضأ وينزع خفيه ويغسل قدميه في قول أبي حنيفة رحمه الله، ولا يمسح على خفيه وفي سؤر الحمار قال: يمسح على وخفيه، ونبيذ التمر عنده مقدم على سؤر الحمار حتى قال في سؤر الحمار: يجمع بينه وبين التيمم، ولم يقل بالجمع في نبيذ التمر.
والفرق: أن الطهارة الحاصلة بنبيذ التمر طهارة ناقصة، ولهذا تنتقض برؤية الماء، ورؤية الماء ليست بحدث علم أنه يصير محدثًا بالحدث السابق، إلا أنه جوز أداء الصلاة بها عند انعدام الماء بالنص، إنما هي في نفسها طهارة ناقصة فكان اللبس حاصلًا على طهارة ناقصة فلا يجوز المسح، فأما سؤر الحمار، فإنما يجوز التوضؤ به على تقدير أنه طاهر مطهر، وعلى هذا التقدير هو وسائر المياه سواء كان اللبس حاصلًا على طهارة كاملة والله أعلم.

.نوع آخر في بيان مدة المسح على الخفين:

قال علماؤنا رحمة الله: عليهم: يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها، والأصل فيه ما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «يمسح المقيم يومًا وليلة والمسافر ثلاثة أيام»، وعن صفوان بن عسال المرادي أنه سأل رسول الله عليه السلام عن المسح على الخفين فقال: «المقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها»، والمعنى المجوز للمسح الضرورة، والضرورة في حق المسافر أكثر من الضرورة في حق المقيم، لأن المسافر لا ينزع الخف في كل مرحلة غالبًا أو يلحقه الحرج بالنزع في كل مرحلة، فقدر في حقه بأقل مدة السفر، إذ لا نهاية لما وراءه، فأما المقيم ينزع الخف في كل يوم وليلة عادة، ولا يُحرج في ذلك، فقدر في حقه بيوم وليلة لهذا.
وابتداء المدة يعتبر من وقت الحدث عند علمائنا، حتى إن من توضأ في وقت الفجر وهو مقيم وصلى الفجر ثم طلعت الشمس فلبس الخفين ثم زالت الشمس وصلى الظهر ثم أحدث ثم دخل وقت العصر فتوضأ ومسح على الخفين فقدرنا مدة المسح باقية إلى الغد إلى الساعة التي أحدث فيها اليوم، حتى جاز له أن يصلي الظهر في الغد بالمسح، ولا يجوز له أن يصلي العصر في الغد بالمسح، وإنما اعتبر بابتداء المدة من وقت الحدث لأن وجوب الطهارة باعتبار الحدث.... القدم بالخف مانع سراية الحدث إلى القدم، وإنما يصير مانعًا عند الحدث، وإذا كان علمه يظهر عند الحدث تعتبر المدة من وقت الحدث ضرورة.
قال في (الأصل): وإذا انقضى وقت المسح ولم يحدث في تلك الساعة فعليه نزع خفيه وغسل رجليه وليس عليه إعادة الوضوء، وأراد بقوله: ولم يحدث في تلك الساعة، أنه لم يحدث بعد الحدث الأول من وقت اللبس لا أنه لم يحدث أصلًا من وقت اللبس، فإن لابس الخفين إذا استكمل يومًا وليلة وهو على وضوء ولم يحدث أصلًا لا يجب عليه غسل القدمين بالإجماع، لأن انقضاء المدة إنما اعتبر في حق ماسح الخفين لا في حق لابس الخفين، وهذا الرجل لابس الخفين وليس بماسح الخفين، فلا يعتبر انقضاء المدة في حقه، فأما إذا أحدث بعد لبس الخفين فتوضأ ومسح على الخفين، ثم استكمل يومًا وليلة، وهو على وضوء ولم يحدث حدثًا آخر، يجب عليه نزع الخفين، وغسل القدمين، ولا يجب عليه تجديد الوضوء لأن الخف جعل مانعًا سراية الحدث إلى الرجل ما دامت مدة المسح باقية، فإذ انقضت مدة الحدث لم يبق المانع، فيسري الحدث السابق إلى الرجل، فصار كما لو توضأ وأخر غسل الرجلين، ولو توضأ وأخر غسل الرجلين، يجب عليه غسل الرجلين، ولا يجب عليه تجديد الوضوء كذا هاهنا، علمنا أن المراد من المسألة ما ذكرنا، وإن كان أحدث في تلك الساعة نزع خفيه وغسل رجليه وأعاد الوضوء.
وإذا استكمل المقيم مسح الإقامة، ثم سافر نزع خفيه وغسل رجليه. وإن لم يستكمل مسح الإقامة حتى سافر: إن سافر قبل أن يحدث فإنه يستكمل مدة مسح السفر بالإجماع لأن ابتداء المدة انعقد وهو مسافر، لأن ابتداء المدة من وقت الحدث، وأما إذا أحدث ومسح على الخفين أو لم يمسح وسافر فكان ذلك قبل استكمال مسح الإقامة، فإنه يستكمل مدة مسح المسافر عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وإذا قدم المسافر مصره، وكان ذلك بعد ما مسح يومًا وليلة أو أكثر نزع خفيه لأنه صار مقيمًا، ولا يلزمه إعادة شيء من تلك الصلوات وإن كان قدومه بعدما مسح أكثر من يوم وليلة؛ لأنه حين مسح كان مسافرًا.
وإن قدم المصر قبل استكمال يوم وليلة يمسح مسح المقيمين بالاتفاق، وإذا انقضت مدة المسح وهو مسافر ويخاف ذهاب الرجل من البرد لو نزع خفيه، جاز له المسح لمكان الضرورة، وإن كان لا يخاف ذهاب الرجل ينزع خفيه ويغسل رجليه، وإذا أحدث الماسح في صلاته وانصرف للتوضؤ وانقضت مدة المسح قبل أن يتوضأ يغسل رجليه ويبني على صلاته، كالمصلي بالتيمم إذا أحدث وانصرف ووجد ماءً، فإنه يتوضأ ويبني على صلاته.
إذا انقضت مدة مسحه وهو في الصلاة، ولم يجد ماء فإنه يمضي على صلاته؛ لأنه لا فائدة في قطع الصلاة؛ لأن حاجة الماسح بعد انقضاء مدة المسح إلى غسل الرجلين، ولو قطع الصلاة وهو عاجز عن غسل الرجلين فإنه يتيمم ولاحظ للرجلين من التيمم، ولهذا يمضي على صلاته، ومن المشايخ من قال: تفسد صلاته، والأول أصح والله أعلم.

.نوع آخر: بيان ما يبطل المسح على الخفين:

قال رضي الله عنه: وإذا مسح على الخف ثم دخل الماء وابتل من رجله قدر ثلاثة أصابع أو أقل، لا يبطل مسحه، ولو ابتل جميع القدم وبلغ الماء الكعب بطل المسح، روي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله، ويجب غسل الرجل الأخرى، ذكره في (حيرة الفقهاء).
وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا أصاب الماء أكثر أحد رجليه ينتقض مسحه، ويكون بمنزلة الغسل وبه قال بعض المشايخ، وقد حكي أيضًا عن الفقيه هذا رحمه الله أنه قال مرة على نحو ما ذكرنا في كتاب (الحيرة)، وبعض مشايخنا قالوا لا ينتقض المسح، على كل حال لأن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم، فلا يقع هذا غسلًا معتبرًا فلا يوجب انتقاض المسح.
وإذا نزع خفيه بعد المسح أو أحدهما غسل رجليه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم، وإذا بدا للماسح أن يخلع خفيه، فنزع القدم من الخف غير أنه في الساق بعد فقد انتقض مسحه، وهذا قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وجه ذلك: أن موضع المسح فارق مكانه، فكأنه ظهر رجله، وهذا لأن ساق الخف غير معتبر حتى لو لبس خفًا لا ساق له، جاز له المسح إذا كان الكعب مستورًا، فكون الرجل في الساق وظهوره في الحكم سواء هذا إذا نزع كل القدم إلى الساق.
فأما إذا نزع بعض القدم عن مكانه ذكر الفقيه أبو محمد الجويني عن أبي حنيفة رحمه الله في (الإملاء): أنه إذا زال عقب الرجل عن عقب الخف أو زال أكثر عقب الرجل عن عقب الخف انتقض المسح ووجب غسل الرجل، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن اللبس وقع للمشي المعتاد، وقد تعذر المشي إذا خرج أكثر عقب الرجل عن موضعه، فصار وجود هذا اللبس والعدم بمنزله، فيبطل المسح ضرورة.
وعن أبي يوسف رحمه الله في رواية أخرى: إذا نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع انتقض مسحه، وعن محمد رحمه الله: إذا بقي من ظهر القدم في موضع المسح قدر ثلاثة أصابع لا ينتقض مسحه، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه الجملة في (شرحه)، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هذه المسألة في (شرحه)، وقال: ذكر في بعض الروايات أنه إذا كان بحيث يمكنه المشي بعد ما تحرك قدمه عن موضعه لا ينتقض مسحه وإن كان بحيث لا يمكنه المشي ينتقض مسحه، وذكر في بعض الروايات: إذا خرج أكثر ما يفترض غسله ينتقض مسحه، وما لا فلا، وفي بعض الروايات: إن بقي في موضع قرار القدم مقدار ثلاثة أصابع لا ينتقض مسحه، قال: وأكثر المشايخ على هذا، وهو مروي عن محمد رحمه الله على نحو ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وفي كتاب (الصلاة) لأبي عبد الله الزعفراني رحمه الله: رجل أعرج يمشي على صدور قدميه وقد ارتفع عقبه عن موضع عقب الخف أو كان لا عقب للخف وصدور قدميه في الخف، أو رجل صحيح أخرج عقبه من عقب الخف، إلا أن مقدم قدمه في الخف في موضع المسح، له أن يمسح ما لم يخرج صدر قدمه عن الخف إلى الساق، وفي بعض المواضع إذا كان صدور القدم في موضعه والعقب يخرج ويدخل لا ينتقض مسحه، ولو كان الخف واسعًا إذا رفع القدم قع (عن) القدم حتى يخرج العقب، فإذا وضع القدم عادت العقب إلى موضعها لا ينتقض مسحه.
ذكر أبو علي الدقاق رحمه الله صاحب (كتاب الحيض): رجل لبس خفين ولبس فوقهما جرموقين واسعين يفضل من الجرموق على الخف مقدار ثلاثة أصابع، فمسح على تلك الفضلة لم يجز، وإن مسح على تلك الفضلة وقد قدم رجله إلى تلك الفضلة ومسح عليه، ثم زال رجله عن ذلك الموضع، أعاد المسح والله أعلم.

.نوع آخر:

المرأة في المسح على الخفين بمنزلة الرجل؛ لاستوائهما في المعنى المجوز للمسح، وإذا استحيضت المرأة ولبست خفيها بعدما توضأت، ثم أحدثت في الوقت حدثًا آخر حتى انتقضت طهارتها لما عرف، فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفيها، فهذه المسألة على أربعة أوجه:
أما إذا كانت الدم سائلًا وقت الوضوء واللبس، أو كان منقطعًا وقت الوضوء واللبس، أو كان سائلًا وقت الوضوء منقطعًا وقت اللبس، أو كان منقطعًا وقت الوضوء سائلًا وقت اللبس، وفي الوجوه كلها لها أن تمسح على خفيها؛ لأن طهارتها ما دام الوقت باقيًا طهارة معتبرة يجوز أداء الصلاة بها، فكان اللبس حاصلًا على طهارة معتبرة، فيجوز المسح.
ولو لم تحدث حدثًا آخر، ولكن خرج الوقت حتى انتقضت طهارتها بخروج الوقت، فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفيها ففيما إذا كان الدم منقطعًا وقت الوضوء واللبس لها أن تمسح، وفيما عدا ذلك من الوجوه ليس لها أن تمسح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر رحمه الله لها أن تمسح.
وجه قول زفر: أن اللبس حصل على طهارة معتبرة، لأن طهارة المستحاضة طهارة معتبرة حتى ينبني عليها جواز الصلاة، وما وجد من السيلان أسقط الشرع اعتباره وألحقه بالعدم، فيجوز لها أن تمسح كما لو كان الدم منقطعًا وقت الوضوء واللبس جميعًا.
وجه قول علمائنا الثلاثة: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت يستند الانتقاض ويظهر الاستناد في حق القائم من الأحكام على ما عرف، وجواز المسح حكم قائم فيظهر الاستناد في حقه ويظهر أن اللبس حصل مع الحدث في حق هذا الحكم، بخلاف ما إذا كان الدم منقطعًا وقت اللبس والوضوء؛ لأن هناك وإن استند الانتقاض إلا أنه إنما يستند إلى سيلان، متأخر عن اللبس، فلا يظهر أن اللبس حصل مع الحدث.
فإن قيل: لو استند الانتقاض بخروج الوقت يجب أن يقال إذا شرعت في التطوع ثم خرج الوقت أن لا يجب عليها القضاء؛ لأنه ظهر أن الشروع حصل مع الحدث، قلنا: هذا ليس بظهور من كل وجه، بل هو ظهور من وجه، اقتصار من وجه؛ لأن انتقاض الطهارة حكم الحدث والحدث وجد في تلك الحالة، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من تلك الحالة، إلا أن صيرورتها محدثة معلقة بخروج الوقت وخروج الوقت وجد الآن، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من كل وجه فلا يجوز لها المسح، ولا يجب عليها القضاء، ولو كان اقتصارًا من كل وجه يجوز لها المسح، ويجب عليها القضاء، فإذا كان ظهورًا من وجه اقتصارًا من وجه، قلنا: لا يجوز لها المسح ويجب عليها القضاء أخذًا بالاحتياط في كل فصل.
وصاحب الجرح السائل في حق هذه الأحكام بمنزلة المستحاضة؛ لأنه بمعناها والله أعلم.

.نوع آخر:

قال محمد رحمه الله في (الزيادات): رجل قطعت إحدى رجليه، وبقي من موضع الوضوء مقدار ثلاثة أصابع أو أكثر أو أقل حتى بقي شيء منها من موضع الوضوء، فتوضأ وغسل ذلك الرجل، والرجل الصحيحة، ولبس الخف على الرجل الصحيحة ثم أحدث وتوضأ لا يجوز له أن يمسح على الرجل الصحيحة؛ لأنه إذا بقي من الرجل المقطوعة شيء من موضع الوضوء يجب غسله، فيجب غسل الرجل الصحيحة كي لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة.
وإن لبس الخفين، فإن كان ما بقي من الرجل المقطوعة سأقل من مقدار ثلاثة أصابع لا يجوز المسح على الخفين؛ لأن محل المسح قدر ثلاثة أصابع ولم يبق من الرجل المقطوعة قدر ثلاثة أصابع، فلم يجز المسح عليه بل وجب غسله، فوجب غسل الرجل الصحيحة لما ذكرنا، وهذا بخلاف ما إذا لبس الخفين وظهر من أحدها أقل من مقدار ثلاثة أصابع من موضع الوضوء ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على خفيه؛ لأن هناك ليس يلزمه غسل ما ظهر من إحدى الرجلين، فلا يلزمه غسل الباقي، فلا يلزمه غسل الرجل الأخرى، أما هنا لزمه غسل ما بقي من الرجل المقطوعة فيلزمه غسل الرجل الصحيحة.
وإن كان الباقي من الرجل المقطوعة مقدار ثلاثة أصابع، فإن لم يكن الباقي من ظاهر القدم لا يجوز المسح، وإن كان الباقي من ظاهر القدم جاز المسح؛ لأن محل المسح ظهر القدم على ما مر، فإذا لم يكن الباقي من ظاهر القدم لم يجز المسح بل وجب غسله فيجب غسل الرجل الصحيحة، فأما إذا كان الباقي من ظاهر القدم جاز المسح عليه، فيجوز المسح على الرجل الصحيحة أيضًا هكذا ذكر المسألة في (الزيادات).
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمه الله: إذا كان الباقي مقدار ثلاثة أصابع من جانب الأصابع، جاز المسح وإن لم يبق من جانب الأصابع شيء، وإنما بقي ما يلي العقب مقدار ثلاثة أصابع أو أقل أو أكثر لم يجز المسح، وهو الصحيح لأن محل المسح ظاهر القدم من جانب الأصابع، وقد مر هذا في أول هذا الفصل.
رجل قطعت إحدى رجليه من الكعب، أو من نصف الكعب ولبس الخف على الرجل الصحيحة لم يجز له أن يمسح عليها، إلا على قول زفر رحمه الله؛ لأن عنده الكعب لا يدخل في الغسل، وعندنا الكعب يدخل في الغسل فإذا بقي أحد طرفي الكعب يجب غسله، فيجب غسل الرجل الأخرى، فإن قطعت إحدى رجليه فوق الكعب جاز له المسح على الأخرى، لأنه لم يبق شيء من هذه الرجل من موضع الوضوء، فكأنها ذاهبة أصلًا.
وفي (نوادر بشر): عن أبي يوسف رحمه الله في مقطوع الرجل من الكعب عليه أن يمسح موضع القطع وإن كان عليه خفاف جاز أن يمسح عليها والله أعلم.

.نوع آخر:

قال محمد في (الزيادات): رجل بإحدى رجليه جراحة لا يستطيع غسلها، ولكن يستطيع أن يمسح على الخرق التي عليها، فإنه يتوضأ ويمسح على الخرق التي عليها ويغسل الرجل الصحيحة، فإن توضأ وغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها ومسح على الخرقة التي على الرجل الأخرى إلا أنه لم يستطع أن يلبس الخف عليها ثم أحدث وتوضأ لا يجوز له المسح على الخف الذي لبسه على الرجل الصحيحة؛ لأنه لو مسح على الخف مسح على الجبيرة، والمسح على الجبيرة بمنزلة غسل ما تحتها، فيجتمع له البدل والمبدل في وظيفة واحدة، وذلك لا يجوز، وعلى قياس ما قيل عن أبي حنيفة رحمه الله: أن من ترك المسح على الجبائر والمسح لا يضره أنه يجزئه عنده لما تبين ينبغي أن يجوز هاهنا المسح على الخف؛ لأن المسح على الجبائر عنده ليس بفرض لما تبين وسقط وظيفة هذا الرجل المجروحة أصلًا، فكأنها ذهبت أصلًا، وهناك جاز المسح على الخف في الرجل، إذ لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل منه في وظيفة واحدة كذا هاهنا.
وإن كان حين غسل الرجل الصحيحة ومسح لبس الخفين ثم أحدث جاز المسح على الخفين على الجبائر بمنزلة غسل ما تحتها، فصار كأنه لبس الخفين بعد غسل الرجلين وهناك يجوز المسح؛ لأنه لو مسح مسح على الخفين، فلا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة، كذا هاهنا، فقد جوز المسح على الخف الذي لبسه على الرجل المجروحة، وإن كان ما تحته ممسوحًا.
وإذا مسح على الخفين ثم لبس عليهما الجرموقين لا يجزئه المسح على الجرموق، والفرق أن المسح على الجبيرة بمنزلة غسل ما تحتها، ولهذا لا يتوقت هذا المسح بمدة، ويجب الاستيعاب فيه كالغسل وإذا كان بالغسل لما تحتها صار في الحكم لابسًا الخفين بعد غسل القدمين، فلو جوزنا المسح على الخفين كان المسح بدلًا عن الغسل لا عن المسح، فلا يؤدي إلى أن يكون البدل بدلًا من جنسه، فأما المسح على الخف ليس كالغسل لما تحته، بدليل عكس هذه الأحكام، بل هو بدل عن الغسل، فلو جاز المسح على الجرموق صار البدل بدلًا آخر من جنسه، وإنه لا يجوز.
وإن كانت الجراحة بحال لا يقدر على المسح عليها وعلى ربط الخرق والجبائر، فغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها، ثم أحدث وتوضأ جاز المسح على الخف في الرجل الصحيحة؛ لأن الجراحة إذا كانت بهذه الصفة لا يلزمه في الرجل المجروحة لا فرض الغسل ولا فرض المسح، فجعلت كالدامية وصار كأن له رجلًا واحدة وهي الصحيحة لا غير فيمسح عليها إذ المسح لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل.
قال: وفي (نوادر الصلاة) لأبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل انكسرت يده وهو على وضوء وربط الجبائر عليها ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ، ومسح على الخفين والجبائر ثم برئت اليد، قال: يغسل موضع الجبائر ويصلي، ولو كان على غير وضوء، حين انكسرت يده وربط الجبائر عليها ثم توضأ ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ ومسح على الخفين والجبائر ثم برئت، قال: ينزع خفيه.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وجدت في بعض (الأمالي) عن أبي يوسف رحمه الله، فيمن أحدث وعلى بعض مواضع وضوءه جبائر فتوضأ ومسح عليه ثم لبس الخف ثم برئ، فعليه أن يغسل قدميه، قال: ولو أنه لم يحدث بعد لبس الخفين حتى برأ الجرح، وألقى الجبائر، وغسل مواضعه ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على الخفين.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف رحمه الله: إذا مسح على جبائر إحدى رجليه وغسل الأخرى ولبس خفيه، ثم أحدث، فإنه ينزع الخف الذي على الرجل الذي عليه الجبائر، ويمسح على الجبائر، ويمسح على الخف الآخر.
رجل بإحدى رجليه بثرة، فغسل رجليه ولبس الخف عليهما، ثم أحدث ومسح على الخفين وصلى صلوات، فلما نزع الخف وجد البثرة قد انشقت وسال منها الدم وبطل مسحه وهو لا يعلم أنها متى انشقت حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: ننظر إذا كان رأس الجرح قد يبس، وكان الرجل لبس الخف عند طلوع الفجر ونزعه بعد العشاء فإنه لا يعيد الفجر، ويعيد باقي الصلوات، وإن نزع الخف ورأس الجراحة يسيل بالدم لا يعيد شيئًا من الصلوات.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في (صلاة المستفتي): إذا كان الرجل مقطوع الأصابع، وبعض خفيه خالٍ عن القدم، فمسح عليه؛ ننظر إن وقع المسح على المغسول مقدار ثلاثة أصابع جاز وما لا فلا، وكذلك إذا كان الخف واسعًا وبعضه خالٍ عن القدم ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح، والبدل الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:

.المسح على الجبائر وعصابة المفتصد ومسألة الشقاق:

قال ذكر في كتاب الصلاة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في (غريب الرواية): من ترك المسح على الجبائر وذلك لا يضره أجزأه، ولم يبين القائل، قال: وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: ذلك قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال الحسن: قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا مسح على العصابة، فعليه أن يمسح على موضع الجرح، وعلى جميع العصابة، صغيرًا كان الجرح أو كبيرًا أو على الأكثر منها، فقد أوجب المسح، فصار عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله والله أعلم: أيهما الأول وأيهما الآخر، قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص السفكردري رحمه الله في (مختصر غريب الرواية) ليس في روايتنا ما حكاه الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن كتاب الصلاة، وإنما الذي في روايتنا: وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: إذا ترك المسح على الجبائر، وذلك لا يضره لا يجزئه، فلعل ما ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في رواياتهم.
وفي باب الوضوء والغسل من (الأصل) إذا اغتسل من الجنابة فمسح بالماء على الجبائر التي على بدنه أو لم يمسح؛ لأنه يخاف على نفسه إن مسح يجزئه، ذكره مطلقًا من غير أن يضيفه إلى أحد، ثم ذكر قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله كما حكاه الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله: أنه إذا ترك المسح على الجبائر ولا يضره ذلك لا يجزئه.
وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في (مختلف الرواية): اختلاف المتأخرين في قول أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: لا يخالف قول أبي يوسف ومحمد؛ لأنهما قالا بعدم جواز الترك فيمن لا يضره المسح، وأبو حنيفة رحمه الله قال: يجوز إن ترك المسح فيمن يضره ذلك وبعضهم حققوا الخلاف فيما إذا ترك المسح والمسح لا يضره، فقالوا على قول أبي حنيفة رحمه الله يجزئه وعلى قولهما لا يجزئه.
وفي (شرح الطحاوي): إن المسح على الجبيرة ليس بفرض عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي (تجريد القدوري): إن الصحيح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن المسح على الجبيرة ليس بفرض، وإن كان لا يضره المسح.
وكان القاضي الإمام أبو علي الحسين بن الخضر النسفي رحمه الله يقول: المسح على الجبائر إنما يجوز إذا كان لا يقدر على القرحة كما كان لا يقدر على غسلها بأن كان يضرها الماء، أما إذا كان يقدر على القرحة على المسح لا يجوز المسح على الجبائر، كما لو كان قادرًا على غسلها، فلم يغسلها وكان يقول ينبغي أن يحفظ هذا، فإن الناس عن هذا غافلون.
وإذا كان بإصبعه قرحة أدخل المرارة في إصبعه والمرارة تجاور موضع القرحة، فمسح عليها جاز، وهل يكره إدخال المرارة في إصبعه لأجل الاستشفاء؟ لا شك أنه إذا لم يكن فيه شيء من بول الشاة أنه لا يكره، وإن كان فيه شيء من بول الشاة يكره، هكذا روي عن محمد رحمه الله. ويجب أن يكون قول أبي يوسف رحمه الله في هذا كقول محمد رحمه الله؛ لأن عندهما يجوز شرب بول الشاة للتداوي، فيجوز الاستشفاء به وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يكره؛ لأن على قوله لا يجوز شربه للتداوي، فقد كره الاستشفاء به.
وكذلك إذا كان على بعض أعضائه جراحة، فجعل عليها الجبائر، والجبائر تزيد على موضع الجراحة، فمسح عليها جاز، وكذلك في المفتصد.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله لا يجيز المسح على عصابة المفتصد، وإنما يجيزه على خرقة المفتصد لا غير، وذكر القاضي علاء الدين محمود النسفي رحمه الله في، (مختلف الرواية) في حق المفتصد: أنه إن كان في موضع يمكنه الشد بنفسه من غير إعانة أحد لا يجوز المسح على العصابة، وإن كان في موضع يحتاج إلى العون يجوز المسح على العصابة.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: إذا كان حل العصابة وغسل ما تحتها يضر بالجراحة يجوز المسح على العصابة وما لا فلا.
قال رحمه الله: وكذلك الحكم في كل خرقة جاوزت موضع القرحة وأما القرحة التي تبقى من اليد بين العقدتين، فقد اختلف المشايخ فيها؛ بعضهم قالوا يجب غسلها؛ لأنها.... به.
بعضهم قالوا: لا يجب غسلها، ويكفي المسح؛ لأنه لو أمر بالغسل ربما تبتلّ جميع العصابة وتنفذ البلّة إلى موضع الفصد، فيتضرر وإذا مسح على الجبيرة أو على عصابة المفتصد، هل: يشترط الاستيعاب؟ فقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم شرطوا الاستيعاب، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر القاضي الإمام الكبير أبو زيد رحمه الله في (الأسرار).
وبعضهم لم يشترطوا ذلك؛ لأنه عسى يؤدي إلى إفساد الجراحة، ولكن إذا مسح على أكثر العصابة يجوز، وإن مسح على النصف فما دونه لا يجوز، وبه كان يقول شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله.
وهل يشترط تكرار المسح اختلفوا فيه أيضًا؟ قال بعضهم يشترط إلى الثلاث؛ لأنه لو كان بارئًا يغسل ثلاثًا، فكذا يمسح عليه ثلاثًا، إلا أن تكون الجراحة في الرأس، فلا يشترط التكرار أيضًا، ومنهم من قال لا يشترط ويكتفي بالمسح مرة واحدة وهو الصحيح.
وإذا انكسر عضو من أعضائه، وهو محدث فشد عليه العصابة ثم توضأ ومسح على العصابة جاز؛ لأن المسح على العصابة بمنزلة غسل ما تحتها.
ولو غسل ما تحت العصابة ثم عصب عليها أليس إنه يجوز؟ كذا هاهنا، وهذا بخلاف المسح على الخفين، فإن اللبس إذا حصل مع الحدث لا يجوز المسح على الخف، فالمسح على الجبائر يخالف المسح على الخف في حق أحكام من هذه، ومن أن المسح على الخفين ينتقض بمضي مدة المسح، والمسح على الجبائر لا ينتقض إلا بالحدث كالغسل، ومن جملتها أن ماسح الخف إذا نزع أحد خفيه يلزمه غسل الرجلين وإذا سقطت الجبائر لا عن برء لا يلزمه الغسل أصلًا، وإن سقطت عن برء يجب غسل ذلك الموضع خاصة.
وفي (المنتقى): الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إذا مسح على الجبائر ثم نزعها ثم أعادها كان عليه أن يعيد المسح عليها وإن لم يعد أجزأه، ورأيت في موضع آخر: إذا سقطت العصابة فبدلها بعصابة أخرى، فالأفضل والأحسن أن يعيد المسح عليها، وإن لم يعد أجزأه؛ لأن المسح على الأولى بمنزلة الغسل لما تحتها.
وفيه عن أبي يوسف رحمه الله: رجل به جرح يضره إمساس الماء فعصبه بعصابتين ومسح على العليا ثم رفعها، قال: يمسح على العصابة الباقية بمنزلة الخفين والجرموقين ولا يجزئه حتى يمسح.
وفي (الأصل): إذا انكسر ظفره، فجعل عليه الدواء أو العلك، فتوضأ وقد أُمِر أن لا ينزع عنه يجزئه، وإن لم يخلص إليه الماء، ولم يشترط المسح ولا إمرار الماء على الدواء والعلك من غير ذكر خلاف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشرط إمرار الماء على العلك، قال: ولا يكفيه المسح، وذكر رحمه الله أيضًا: إذا ألقى علقة على بعض أعضائه، فسقطت العلقة، فجعل الجبائر في موضع العلقة، ولا يمكنه الغسل ولا إمرار الماء يلزمه المسح، فإن عجز عن المسح أيضًا سقط فرض الغسل والمسح جميعًا، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك ذلك الموضع، فإن سقطت الجبائر، فإن كان السقوط عن برء يلزمه غسل ذلك الموضع وما لا فلا.
وذكر رحمه الله أيضًا: إذا كان في أعضائه شقاق، وقد عجز عن غسله سقط عنه فرض الغسل ولزمه إمرار الماء، فإن عجز عن إمرار الماء يكفيه المسح، فإن عجز عن المسح أيضًا سقط عنه فرض الغسل والمسح، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك ذلك الموضع.
قال: وإذا كان الشقاق في يده ولا يمكنه استعمال الماء، وقد عجز عن الوضوء يستعين بغيره حتى يوضئه، فإن لم يستعن وتيمم وصلى جازت صلاته عند أبي حنيفة خلافًا لهما رحمهم الله، وإذا كان الشقاق في رجله فجعل (فيه) الدواء أو الشحم أو العلك، ولا يمكنه إيصال الماء إلى قعره يؤمر بإمرار الماء فوق الدواء، ولا يكلف إيصال الماء إلى قعره ولا يكفيه المسح، وإذا توضأ وأمرَّ الماء على الدواء ثم سقط الدواء: إن سقط عن برء يفترض غسل ذلك الموضع وما لا فلا كما في المسح على الجبائر والله أعلم.

.الفصل السابع في النجاسات وأحكامها:

هذا الفصل يشتمل على نوعين:

.الأول: في معرفة الأعيان النجسة وحدّها:

فنقول: الأعيان النجسة نوعان: مائع وغير مائع، وكل نوع على قسمين: نجس باعتبار نفسه، ونجس باعتبار غيره وسنذكر هاهنا بعضها، وبعضها في كتاب الصلاة.
قال القدوري رحمه الله في (كتابه): كل ما يخرج من بدن الإنسان مما يوجب الوضوء أو الغسل فهو نجس، كالغائط والبول والدم والمني وغير ذلك، وقال الشافعي رحمه الله: المني طاهر لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يصلي»، والمراد: حال الصلاة كما يقال فلان دخل الدار وهو راكب، ولأنه أصل الآدمي يجب أن يكون طاهرًا كرامة له، ولهذا اكتفي بالفرك، ولنا قوله عليه السلام في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: «إنما يغسل الثوب من خمسة من البول والغائط والمني والقيء والدم»، وهو دليل على نجاسته إلا أنه اكتفى فيه بالفرك، إما لأنه شيء لزج لا يداخل أجزاء الثوب كثيرًا، وإنما يصيب ظاهره، وذلك يزول بالفرك، ولا يبقى منه إلا شيء قليل، وإنه عفو، أو لمكان الحرج، فإن إصابة المني اليابس إنما تكون باعتبار أن الجماع غالبًا إنما يكون في الثياب ويتعذر صيانة الثياب عنها، فلو كلف الغسل عند كل إصابة يؤدي إلى الحرج، فسقط اعتباره وأقيم الفرك مقامه.
والأرواث والأخثاء كلما نجسة، وقال زفر ومالك: كلها طاهر، حجتهما أن الأرواث وقود أهل الحرمين فإنهم يطبخون ويخبزون به ولو كان نجسًا لما انتفعوا (بها)، وروي أن الشبان من الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا نزلوا في أسفارهم يترامون بالأبعار ويتلاعبون بها، فلو كان نجسًا لما استعملوها، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «طلب مني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحجار الاستنجاء ليلة الجن؛ فأتيته بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى بالروثة، وقال: إنها رجس» أي نجس، وروى المعلى عن محمد رحمه الله أنه قال: الروث لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيرًا فاحشًا، قيل: هذا آخر قوله رجع إلى هذا القول حين طلع مع الخليفة إلى الري، ورأى أسواقهم وسككهم مملوءة من الأرواث، فرجع إلى هذا القول لدفع البلوى.
قال مشايخنا على قياس هذه الرواية لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيرًا فاحشًا، مع أن التراب مخلوط في العذرات دفعًا للبلوى، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله لا يعتمد على هذه الرواية، وكان يقول البلوى إنما تكون في النعال والنعال مما يمكن خلعها، وقد اعتاد الناس خلع النعال، وليس فيه كثير ضرورة والصلاة بغير النعل أحمد، والكثير الفاحش فيه يمنع جواز الصلاة.
وقد ذكرنا خرء ما يؤكل لحمه من الطيور كالحمامة والعصفور والبط والحدأة.
وأما خرء ما لا يؤكل لحمه نحو سباع الطير، كالصقر والبازي وغيرها من الحدأة وأشباهها، فهو طاهر في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: هو نجس، فوجه قول محمد رحمه الله، وهو الفرق له بين خرء هذه الطيور، وبين خرء العصفور والحمامة، أن هذه الطيور لا تخالط الناس فيمكن التحرز عن خرئها بخلاف الحمامة والعصفور؛ لأنهما تخالطان، فلا يمكن التحرز عن خرئهما.
ولهما أن هذه الحيوانات تذرق من الهواء، وفي التمييز بينما يخالطونا وبينما لا يخالط الناس، فيحتاج إلى التأمل في كل جانب، وفيه حرج على أن ما قال من المعنى لا يتأتى في الصقر والبازي والشاهين، فإن الناس يخالطوهما أكثر مما لا يخالطون الحمام والعصفور.
والأبوال كلها نجسة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: بول ما يؤكل لحمه طاهر حجته في ذلك حديث العرنيين، فإنه روى «أن قومًا من عرينة جاءوا إلى رسول الله عليه السلام بالمدينة فاجتووها فانتفخت بطونهم واصفرت ألوانهم، فأمرهم رسول الله عليه السلام أن يخرجوا إلى إبل الصدقات، فيشربوا من أبوالها وألبانها»، فقد أمرهم بشرب الأبوال، فلو كانت نجسة لما أمرهم بذلك مع قوله عليه السلام: «إن الله تعالى لم يجعل في نجس شفاء» وإذا ثبت أنه طاهر، فإذا أصاب الثوب لا يمنع جواز الصلاة فيه وإن فحش، وإذا وقع في الماء القليل لا يمنع التوضؤ به إلا أن يغلب على الماء، فحينئذٍ لا يجوز التوضؤ به لا لأنه نجس، ولكن لأنه صار شيئًا آخر، ألا ترى أنه لو وقع اللبن في الماء القليل واللبن غالب لا يجوز التوضؤ به، وإنما لا يجوز لأنه صار شيئًا آخر لا لنجاسة اللبن، كذا هاهنا.
لهما ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه»، ولأن بول الآدمي نجس مع أنه أطهر الحيوانات فبول هذه الحيوانات أولى، وأما حديث العرنيين، فالتمسك به لا يصح؛ لأنه روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله عليه السلام أمرهم بشرب ألبانها»، ولم يذكر الأبوال، ولو ثبت فهو محمول على أن رسول الله عليه السلام عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ويحل تناول النجس إذا علم حصول الشفاء، ألا ترى أن من اضطر إلى ميتة إن أصابه جوع مفرط يخاف منه الهلاك ولم يجد إلا ميتة يباح له التناول؛ لعلمه أنه يزول به الجوع والجوع داء، وكذلك إذا اضطر إلى خمر بأن أصابه عجز مفرط ولا يجد إلا خمرًا جاز له الشرب منها بقدر ما يزول به العطش، لعلمه أنه يزول به العطش والعطش داء.
ويحتمل أنه كان مباحًا في الابتداء، ثم انتسخ إباحته بقوله عليه السلام: «استنزهوا (من) البول».
ثم إن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله اختلفا فيما بينهما، قال أبو حنيفة لا يجوز شربه للتداوي ولغيره، وقال أبو يوسف يجوز شربه للتداوي، ولا يجوز شربه لغيره. فأبو يوسف قال القياس ما قاله أبو حنيفة، ولكن تركنا القياس بالأثر والأثر أباح شربه للتداوي، فبقي الشرب لغير التداوي على أصل القياس.
وبول الهرة نجس لو أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم منع جواز الصلاة هو الظاهر من المذهب، وحكي عن محمد بن محمد بن سلام رحمه الله أنه كان يقول: لو ابتليت به لغسلت ولكن آمر غيري بإعادة الصلاة.
وأما بول الفأرة إذا وقع في الماء أفسد الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به بخلاف سؤره، والقياس أن يكون سؤره نجسًا لأن لعابه نجس لنجاسة لحمه، لكن أسقطنا النجاسة في اللعاب لمكان الضرورة، فإنها تقصد الماء وتشرب، وصون الأواني عنها غير ممكن، أما الضرورة في البول (فتنتفي) لأنها لا تقصد الماء لتبول فيه، فيحكم بنجاسته.
وأما بول الفأرة إذا أصاب الثوب، فقد قال بعض مشايخنا إنه ينجس الثوب وقاسه على الماء، وقال بعضهم: لا ينجسه وفرق بين الثوب والماء، والفرق أن صيانة الثوب في الغالب يكون بالثياب؛ بأن يلف البعض في البعض ومتى صين على هذا الوجه، وبال على الثوب الأعلى يصل إلى باقيه ويتنجس، فصيانة الثياب عن بول الفأرة غير ممكن، فصار البول معفوًا عنه في الثياب.
أما الماء يصان في الأواني، والأواني مما يُخمر وبعد التخمير تقع الصيانة للماء لا محالة، فلم يكن البول معفوًا عنه في الماء، وعن محمد رحمه الله أنه قال: ولا أرى ببول الفأرة بأسًا، وذهب في ذلك إلى أن البلوى في بولها ظاهر، وإن وجد رائحته في الثوب، ولا يستيقن فالتنزه أولى، وإن صلى فيه لم أقل بأنه لا يجزئه، وبعض مشايخنا قالوا: لا ينجسه، إلا أن هذا القائل يجعل أثر البلوى في التخفيف لا في صلب أصل النجاسة.
وقال الحسن بن زياد رحمه الله لو أن بعرة من بعر الفأرة وقعت في وقر حنطة، وطحنت لم يجز أكلها، ولو وقعت في دهن فسد الدهن.
وقال محمد بن مقاتل رحمه الله لا تفسد الحنطة والدهن ما لم يتغير طعمه، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ.
وفي مسائل أبي حفص رحمه الله في بعر الفأرة: إذا وقع في الزيت أو الخل إنه لا يفسده.
وعن الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن الفضل الخيزاخزي رحمه الله أنه قال: وقعت في هذه المسألة، فسألت أبا إسحاق الضرير، فقال: لو كان لي لشربت وأنا لم أشرب، وليس بول الخفاش وخرؤه بشيء؛ لأنه لا يستطاع الامتناع عنه، وليس دم البق والبراغيث بشيء وإن كثر لأنه ليس بدم مسفوح، وأما دم الحلم والأقراد فنجس لأنه دم مسفوح والاحتراز عنه ممكن، وإذا أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم يمنع جواز الصلاة.
في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: الدم يخرج من الكبد إن لم يكن من غيره متمكنًا فيه فهو طاهر؛ لأن الكبد دم جامد وكذلك اللحم المهزول إذا قطع، فالدم الذي فيه ليس بنجس، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر رحمه الله، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يرفض هذا القول ويقول: إن لم يكن هذا دمًا فقد جاور الدم، والشيء ينجس بنجاسة المجاور.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله في موضع آخر: ذكر مسألة اللحم مطلقة، ولم يقيد بالمهزول.
ورأيت في موضع آخر: الطحال إذا شق وخرج منه دم فليس بشيء، وكذلك الدم الذي في القلب ليس بشيء، ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بين دم ودم.
وفي (عيون المسائل): الدم الملتزق باللحم إن كان ملتزقًا من الدم السائل بعدما سال كان نجسًا، وإن لم يكن ملتزقًا من الدم السائل لم يكن نجسًا، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أن غسالة الدم إذا أصابت الثوب لم تجز الصلاة فيه، وإن صب في بئر يفسد الماء يريد به الدم الذي بقي في اللحم ملتزقًا به، ولو طبخ اللحم.
وفي (القدوري) صفرة أو حمرة، فلا بأس به، ورد الأثر في غير هذه الصورة عن عائشة رضي الله عنها، وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه إنما يحرم الدم المسفوح وهو السائل، فأما ما يكون في اللحم ملتزقًا به فلا بأس، وعن أبي يوسف رحمه الله يفسد برواية ابن سماعة، إنما يحرم الدم المسفوح الذي يسكن العروق، وإذا فجر سال، فهذه الروايات تبين لنا أن في الطعن في مسألة اللحم المهزول كلام.
وفي (الجامع الأصغر) عن أبي جعفر الكبير: أن الطين إذا جعل فيه السرقين وطُين به شيء ويبس، لا بأس بأن يوضع عليه منديل مبلول.
وسئل هو عن سرقين جاف أو التراب النجس إذا هبت به الريح وأدخلته في الثوب لا ينجسه ما لم ير أثره.
التبن النجس، إذا استعمل في الطين، إن كان يرى مكانه كان نجسًا، وإن لم ير مكانه لا يكون نجسًا؛ لأنه مستهلك في الوجه الأول دون الثاني.
ولو يبس يحكم بطهارته، ولو أصابه الماء فهو على الروايتين إذا كان الماء أو التراب نجسًا، أما الطين فيها يكون طاهرًا، هكذا حكي عن الفقيه أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله.
وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله يقول: العبرة للماء، إن كان الماء طاهرًا فالطين طاهر، وإن كان الماء نجسًا، فالطين نجس، وقد قيل على العكس أيضًا وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: الطين نجس، وبعضهم قالوا على قول محمد رحمه الله: الطين يكون طاهرًا، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون نجسًا، وجعلوه فرعًا لمسألة أخرى: إن السرقين أو العذرة إذا احترقت وصارت رمادًا، فالمذهب عند محمد رحمه الله أن النجس يطهر بالتغيير والاستحالة، خلافًا لأبي يوسف رحمه الله.
إذا لف الثوب النجس في ثوب طاهر، والنجس رطبة مبتلة، فظهر ندوته على الثوب الطاهر، ولكن لم يصر رطبًا، بحيث لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر اختلف المشايخ فيه:
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجسًا، وكذلك الثوب الطاهر اليابس إذا بسط على أرض نجسة مبتلة، وظهر أثر بلة النجاسة في الثوب، إلا أنه لم يصر رطبًا ولم يصر بحال لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر، اختلف المشايخ، قال شمس الأئمة رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجسًا ذكر هذين الفصلين في (صلاة المستفتي) إذا وضع رجله على أرض نجسة، أو على لبد نجس، إن كانت الرجل رطبة والأرض أو اللبد يابسًا، وهو لم يقف عليه بل مشى لا تتنجس رجله، ولو كانت الرجل يابسة والأرض رطبة وظهرت الرطوبة في الرجل تتنجس رجله، وفي بعض المواضع لا يشترط ظهور الرطوبة في الرجل؛ لأنه يظهر أثر الرطوبة في الرجل لا محالة.
وإذا نام الرجل على فراش قد أصابه مني ويبس، فعرق الرجل وابتل الفراش من عرقه، إن لم يصب بلل الفراش جسده لا يتنجس جسده، وإن أصاب بلل الفراش جسده يتنجس جسده.
وفي (مجموع النوازل): عن أبي بكر الوراق رحمه الله سئل عمن توضأ بشط نهر ومشى حافيًا إلى المسجد، قال: كاد أن ينكسر ظهري في زعم بعض الناس يتوضئون على شطوط الأنهار، ويغسلون أقدامهم ويمشون حفاة ورجلاهم رطبة إلى مساجدهم، فينجسون الحصر والبواري وتفسد صلواتهم وصلاة أهل المسجد، ووبال ذلك عليهم، ثم ينصرفون كذلك حفاة إلى منازلهم، وينامون مع أزواجهم، فتتنجس فرشهم وأيدي أزواجهم وأرجلهم وجميع أعضائهن، فيصلين ولا يشعرن بذلك، فتفسد صلاتهن، ووبال ذلك عليهم وأكثر هذا الخوف على أرباب الدواب، وأهل الرساتيق الذين يحتاجون إلى الدخول على الدواب والمرابط كل يوم كذا مرة، وقد قيل في.....: إنه يرمى بالدم، فإن كان كذلك نجسًا والثوب المصبوغ به أيضًا يكون نجسًا، فيغسل ثلاث مرات ويحكم بطهارته عند أبي يوسف رحمه الله، وقد سألنا عن معارف النجار فأخبرونا أنه لا يرمى بالدم، وسمعنا أيضًا أن أهل فارس يستعملون البول في الديباج عند النسج، ويقولون: إن البول يزيد في بريقه، فإن كان كذلك لا شك أن ديباجهم يكون نجسًا، ولا تجوز معه الصلاة إلا بعد الغسل ثلاث مرات عند أبي يوسف رحمه الله، وقد وقع عند بعض الناس أن الصابون نجس؛ لأنه يتخذ من دهن الكتان، ودهن الكتان نجس لأن أوعيته تكون مفتوحة الرأس، والغالب يقصد شربها ويقع فيها غالبًا، ولكنا لا نفتي بنجاسة الصابون لأنا لا نفتي بنجاسة الدهن؛ لأن الأصل الطهارة، والنجاسة يعارض أمرًا نادرًا وقع، إنما نفتي بنجاسة الدهن، ولا نفتي بنجاسة الصابون؛ لأن الدهن قد تغير وصار شيئًا آخر، وقد ذكرنا أن من مذهب محمد رحمه الله أن النجس يصير طاهرًا بالتغيير، يفتى فيه بقول محمد رحمه الله لمكان عموم البلوى.
وفي (الجامع الأصغر): سئل خلف عمن ألقى حجرًا ملطخًا بالعذرة في نهر كبير جار، فارتفعت قطرات من الماء فأصاب ثوبه، قال: إن كان ذلك من الماء المتصل بالحجر، فسد وإن كان من غير ذلك الماء، فلا بأس به، وإن لم يعلم، فأحب إليّ أن يغسله، ويسعه أن يصلي فيه من غير أن يغسله.
وفي (الفتاوى): سئل ابن شجاع عن هذه المسألة، فقال عليه أن يغسله، وبه قال نصر بن يحيى رحمه الله، وقال إبراهيم بن يوسف لا يضره ذلك، وبه قال أبو بكر إلا إن ظهر فيه لون النجاسة، قال أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ. وفيه عن إبراهيم: حمار يبول في الماء، فيصيب من ذلك الرش ثوب إنسان، قال: لا يضره وهو ماء حتى يستيقن أنه بول، قال الفقيه: وبه نأخذ.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر): في الفرس إذا مشى على الماء وعليه راكب وأصاب ثوبه من ذلك الماء، عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه إذا كان في رجل الفرس نجاسة نحو السرقين وغيره صار الثوب نجسًا، سواء كان الماء جاريًا أو راكدًا، وإن لم يكن في رجله نجاسة لا يضره.
سئل أبو نصر عمن يغسل الدابة، فيصيب من مائها أو من عرقها، قال لا يضره ذلك، قيل: فإن كانت تمرغت في بولها وروثها، قال: إذا جف وتناثر وذهب عينه لا يضر أيضًا.
وفي (الأصل): رجل مر بكنيف فسال عليه من ذلك الكنيف شيء، قال: إن علم بنجاسته فعليه غسله، وإن علم بطهارته لا يجب عليه غسله، وإن لم يعلم بنجاسته ولا بطهارته، ولم يجد من يسأل عنه يتحرى، ويبني الأمر على ما يستيقن عليه رأيه، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله: إنما بنى هذا الجواب على عرف ديارهم، أما في عرف ديارنا يغسله لا محالة؛ لأن الكنيف في ديارنا معد لصب النجاسة لا يصب فيه إلا النجاسة، أما في ديارهم: الكنيف كما يعد لصب النجاسة يعد لصب غسالة القدر، قال شيخ الإسلام: هذا وقياس كنيفهم بما عندنا الميازيب، فإنه يصب فيه الماء وغيره، فلا جرم لو أصابه شيء من الميزاب كان الجواب على ما ذكره في (الكتاب).
وعن أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله: أن من مر بكنيف وسال منه شيء وهبت به الريح وانتضح عليه منه شيء مثل رؤوس الإبر، قال: هذا ليس بشيء، ولا يجب عليه الغسل وإن استيقن أنه بول، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في (الأصل)، والمذكور في (الأصل) إذا انتضح عليه البول مثل رؤوس الإبر، فليس ذلك بشيء، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: قوله: رؤوس الإبر دليل أن الجانب الآخر من الإبرة معتبرة، وليس عندنا هكذا، بل لا يعتبر.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف رحمه الله: إذ انتضح من البول بشيء يرى أثره لابد من غسله، ولو لم يغسل، وصلى كذلك، فكان إذا جمع كان أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة.
ذباب المستراح إذا جلس على ثوب رجل فقد قيل لا بأس به؛ لأن التحرز عنه غير ممكن، وقيل: لا بأس به إذا فحش.

.ذكر النوع الثاني من الفصل في بيان مقدار النجاسة التي تمنع جواز الصلاة:

يجب أن يعلم بأن القليل من النجاسة عفو عندنا، لما روي أن عمر رضي الله عنه سئل عن قليل النجاسة في الثوب، فقال: «إذا كان مقدار ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة»، ولأن التحرز عن قليل النجاسة غير ممكن، فإن الذباب يغفو على النجاسة ثم يغفو على ثياب المصلي، لابد وأن يكون (في) أجنحتهن وأرجلهن نجاسة، فجعل القليل عفوًا لمكان البلوى، وقد صح أن أكثر الصحابة كانوا يكتفون بالاستنجاء بالأحجار، وإنه لا يزيل أصل النجاسة لولا أن القليل من النجاسة عفو، وإلا لما اكتفوا به.
ثم النجاسة نوعان: غليظة، وخفيفة، فالغليظة إذا كانت قدر الدرهم أو أقل فهي قليلة لا تمنع جواز الصلاة، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم منعت جواز الصلاة، ويعتبر الدرهم الكبير دون الصغير، قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) الدرهم الكبير أكبر ما يكون من الدرهم ولم يبين أنه أراد بالكبير من حيث العرض والمساحة أو من حيث الوزن، وذكر في (النوادر) أن الدرهم الكبير أكبر ما يكون من الدراهم كالدراهم السود الزبرقانية، درهم كبير أسود ضربه الزبرقان، وقال في موضع آخر: الدرهم ما يكون عرض الكف كالدرهم السهيلي، فهذا اعتبار التقدير من حيث العرض.
ومن المشايخ من قال: إنما يعتبر أكبر ما تكون الدراهم من نقود زمانهم أما ما كان من النقود وانقطع لا يعتبر، وذكر في (كتاب الصلاة): واعتبر الكبير من حيث الوزن، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله يوفق بين ألفاظ محمد رحمه الله، فنقول أراد بالتقدير من حيث الوزن تقدير النجاسة الغليظة، وهو الصحيح من المذهب أن في الرقيقة يعتبر الدرهم من حيث العرض، وفي الغليظة يعتبر الدرهم من حيث الوزن، ثم إنما قدروا بالدرهم، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قدره بظفره، وظفره كان يبلغ قدر الدرهم الكبير واعتبارًا لموضع الحدث؛ لأن الشرع عفى عن النجاسة التي في موضع الحدث، فإنه حكم بطهارته بالاستنجاء بالحجر، وإنه يزيل العين لا الأثر، والأثر مانع جواز الصلاة كالعين، فدل أن الشرع عفا عن النجاسة التي في موضع الحدث، وموضع الحدث يبلغ قدر الدرهم الكبير لكن استقبحوا ذكر موضع الحدث، فكنوا عنه بالدرهم، هكذا قاله إبراهيم النخعي رحمه الله.
وأما النجاسة الخفيفة، فالتقدير فيها بالكثير الفاحش هكذا ذكر محمد رحمه الله في هذا (الكتاب)، وفي (الأصل) ولم يبين لذلك حدًا، وروى بشر بن غياث عن أبي يوسف رحمه الله، قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله عن حد الكثير الفاحش فكره أن يحد فيه حدًا، فقال: الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس ويكثرونه، وكان لا يقدر ما استطاع؛ لأن المقادير لا تعرف قياسًا.
وروى الحسن في (المجرد) عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش شبر في شبر في (كتاب الصلاة) للمعلى قال: هو شبر أو أكثر، وعن محمد رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش هو ربع الثوب، وذكر أبو علي الدقاق رحمه الله في كتاب (الحيض): الكثير الفاحش عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ربع الثوب، وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش مقدار باطن الخفين معًا، وأن يستوعب القدمين، وروي عن محمد رحمه الله أن الفاحش في الخف أكثر الخف، وإنما خص الخف بالأكثر على هذه الرواية؛ لأن الضرورة فيه مستدامة خصوصًا لسايس الدواب، فقدر الفاحش فيه بالأكثر إظهارًا لتوسعه، وقد اختلفت الروايات فيه عن أبي يوسف رحمه الله، ذكر في (كتاب الصلاة): أنه شبر في شبر، قاله الفقيه أبو الليث رحمه الله، وهكذا ذكر في (الأمالي).
وفي (صلاة الأثر) قال أبو يوسف رحمه الله في لعاب الحمار: قدر شبر فاحش يعيد منه الصلاة، وفي عرفه الفاحش أكثر من شبر، وفي الوضوء أكثر من شبر على أصله، وذكر الطحاوي في (مختصره) عن أبي يوسف ذراعًا في ذراع، وقيل على قوله على قياس مسائل كثيرة، الكثير الفاحش أكثر من النصف، في النصف روايتان.
قال مشايخنا: الأصح التقدير بالربع؛ لأن الربع أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام، المسح ربع الرأس أقيم مقام الكل، وكحلق ربع الرأس في الإحرام أقيم مقام حلق الكل، وكذا كشف ربع العورة أقيم مقام كشف الكل.
ثم اختلف المشايخ في كيفية اعتبار الربع بعضهم، قالوا: يعتبر ربع جميع الثوب لأن اسم الثوب يقع على المحيط بجميع أجزائه، فيصير ربع جميع الثوب إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم، حكي عن أبي بكر الرازي أنه يعتبر ربع السراويل احتياطًا؛ لأنه أقصر الثياب، ومنهم من قال: يعتبر ربع ثوب كامل، وقال بعض المشايخ: يعتبر ربع الطرف الذي أصابه النجاسة، يعني: ربع الكم أو الذيل أو الدخريص.
بعد هذا يحتاج إلى الحد الفاصل بين الغليظة والخفيفة: قال القدوري رحمه الله في (شرحه): النجاسة الغليظة عند أبي حنيفة رحمه الله كل عين ورد في نجاستها نص ولم يعارضه نص آخر اختلف الناس فيها أو اتفقوا فيها، أشار إلى أنه إذا عارضه نص آخر فهي خفيفة اتفق الناس فيها أو اختلفوا، وهذا لأن النص يعارض النص، فإن لم يعمل بأحدهما بدليل فلا أقل من أن يؤثر في تخفيف حكمه، أما إذا لم يعارضه نص لا يخفف حكم النجاسة، اختلف الناس فيها أم اتفقوا؛ لأنه لم يعارض النص (إلا الاختلاف)، والاختلاف ليس بحجة بمقابلة النص إلى النص حجة، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: ما شاع الاجتهاد في طهارته فهو مخفف؛ لأن الاجتهاد حجة في حق وجوب العمل كالنص.
وثمرة الاختلاف تظهر في الأرواث: عند أبي حنيفة رحمه الله نجاستها غليظة؛ لأنه ورد فيه النص، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ما روينا، ولم يعارض هذا الحديث نص آخر فيتغلظ؛ وعندهما نجاستها خفيفة لاختلاف العلماء فيه، ولمكان البلوى، فإن الطرق مملوءة فيها، وقد يحتاج الإنسان إلى سوق الدواب فيمشي عليها، فيصيبه الروث على وجه لا يمكنه الدفع عن نفسه، وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في سؤر الهرة، فلأن يكون لها أثر في التخفيف أولى وقد ذكرنا رواية (المعلى) عن محمد رحمه الله أنه قال: الروث لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيرًا فاحشًا.
ونجاسة بول ما يؤكل لحمه على قول من يقول بنجاسته خفيفة، حتى لو أصاب الثوب لا يمنع جواز الصلاة ما لم يكن كثيرًا فاحشًا، وإذا وقع قطرة في الماء أفسده؛ لأن القليل في الماء يصير كثيرًا، وإنما كانت نجاسته خفيفة إما لأن بنجاسته اختلاف، فتخفف نجاسته، أو لأن فيه ضرورة وللضرورة أثر في التخفيف.
قال الفقيه أحمد بن إبراهيم: إن أصحابنا جعلوا القيء في (ظاهر الرواية) كالعذرة والبول، حتى قالوا إذا أصاب يده القيء، وهو أكثر من قدر الدرهم لا تجوز الصلاة معه، وفي رواية الحسن رحمه الله ما جعله كذلك حتى كان التقدير فيه بالكثير الفاحش على رواية الحسن، ووجه ذلك أن القيء في الأصل طعام طاهر وقد تغير عن حاله، فلا هو طعام طاهر على الكمال ولا استحال غائطًا على الكمال، فلا تعطى له درجة الطاهر ولا درجة البول والغائط، بل يحكم له بحكم التخفيف؛ ليكون حكمه مأخوذًا من كل الأصل، فيتقدر فيه بالكثير الفاحش، كما في سائر النجاسات الخفيفة.
ونجاسة سؤر سباع البهائم غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه خفيفة، وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف فقال: الناس اختلفوا في نجاسة سؤر سباع البهائم وطهارته، فأوجب ذلك تخفيفًا فيه كبول ما يؤكل لحمه.
والخمر: وهي التي من ماء العنب إذا غلى وقذف بالزبد واشتد، نجاستها غليظة، وإذا طبخ أدنى طبخة وغلى واشتد وقذف بالزبد، فنجاستها غليظة، إليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الأشربة، قالوا: هكذا روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمة الله عليهما، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أن على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف يجب أن تكون نجاستها خفيفة، والفتوى على الأول أن نجاستها غليظة والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:
ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في أسآره أن النجاسة إذا أخرجت من البئر ولم ينزح شيء من الماء بعد، فنجاسة الماء غليظة، ثم بقدر ما ينزح من الماء تخف النجاسة وتقل قال: وهذا كما قلنا في الكلب إذا ولغ في إناءين، فغسلت إحداهما مرة وغسلت الأخرى مرتين، إن كل واحد منهما نجس ثم غسلا مرة مرة، فإن الذي غسل في المرة الأولى مرتين طهر والآخر لا يطهر ما لم يغسل مرة باليد.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: نجاسة الثوب إذا غسل الثوب ينبغي أن يكون على هذا القياس.
بيانه: في الثوب النجس إذا غسل في ماء طاهر وعصر ثم غسل في ماء آخر على هذا القياس طاهر، وعصر ثم غسل في ماء ثالث طاهر وعصر، فإن الثوب يطهر والمياه كلها نجسة، ولو أنه أصاب هذا الماء الثالث ثوبًا ينبغي أن يطهر هذا الثوب بالعصر، وإن لم يغسل؛ لأن ما دخل فيه من النجاسة لو كانت في الثوب الأول، فكان يطهر بالعصر، ولا يحتاج فيه إلى الغسل، ولو أصاب الماء الثاني كانت طهارته بالعصر والغسل مرة، ولو أصاب الماء الأول كانت طهارته بالعصر والغسل مرتين، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه) أن الماء الثاني أو الثالث من غسالة الثوب النجس إذا أصاب الثوب لا يطهر الثوب إلا بالغسل ثلاثًا، وفرق بين مسألة البئر وبين مسألة الثوب، وفي (شرح الجامع) من تعليقي في مسألة الثوب أن نجاسة المياه على نمط واحد عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله نجاستها مختلفة.
فمن حكم الماء الأول أنه إذا أصاب ثوبًا آخر لا يطهر إلا بالغسل ثلاث مرات، ومن حكم الماء الثاني أنه إذا أصاب الثوب لا يطهر إلا بالغسل مرتين، ومن حكم الماء الثالث أنه إذا أصاب الثوب يطهر بالغسل مرة؛ لأن بالغسل تحولت النجاسة من الثوب إلى الماء، فيصير الماء والذي أصابه هذا الماء على الصفة التي كان الثوب الأول، والثوب الأول حال إصابته النجاسة كان بحال لا يطهر إلا بالغسل ثلاثًا، وبعد الغسل الأول كان بحال لا يطهر إلا بالغسل مرتين، وبعد الغسل الثاني كان بحال يطهر مرة بالغسل، فكذا الذي أصابته هذه المياه على هذا الترتيب والله أعلم.
في تطهير النجاسات:
يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5] وقال تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] وإزالتها إن كانت مرئية بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئًا يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن كان شيئًا لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر عفوًا، وإن كان كثيرًا، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول الأثر؛ لأن النجاسة كانت باعتبار العين والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره»، والمعنى في ذلك الحرج.
بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أيامًا كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى، وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح.
وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثًا، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب بالإجماع.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفًا لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثًا، وكذلك الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء ثلاثًا»، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في المرة الثالثة.
وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين، فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثًا.

.في تطهير النجاسات:

يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5] وقال تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] وإزالتها إن كانت مرئية بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئًا يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن كان شيئًا لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر عفوًا، وإن كان كثيرًا، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول الأثر؛ لأن النجاسة كانت باعتبار العين والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره»، والمعنى في ذلك الحرج.
بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أيامًا كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى، وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح.
وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثًا، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب بالإجماع.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفًا لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثًا، وكذلك الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء ثلاثًا»، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في المرة الثالثة.
وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين، فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثًا.
وقال بعضهم وإن زال العين بالمرة الأولى ما لم يغسله مرتين لا يحكم بطهارته اعتبارًا بغير المرئي، وهذا لأن المرئي لا يخلو عن غير المرئي، فإن رطوبته التي اتصلت بالثوب لا تكون مرئيًا، وغير المرئي لا يطهر إلا بالغسل ثلاثًا، فكذا هذا إذا كانت النجاسة مرئية.
وإن كانت غير مرئية كالبول والخمر، ذكر في (الأصل)، وقال يغسلها ثلاث مرات ويعصر في كل مرة، فقد شرط الغسل ثلاث مرات، وشرط العصر في كل مرة. وعن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول: أنه إذا غسل ثلاث مرات وعصر في المرة الثالثة تطهر.
وفي (القدوري) ما لم تكن مرئية، فالطهارة موكولة إلى غلبة الظن، وقدرنا بالثلاث؛ لأن غلبة الظن يحصل عنده.
وفي (شرح الطحاوي) إن كانت النجاسة غير مرئية كالبول وأشباه ذلك يغسله حتى يطهر ولا وقت في غسله ووقته سكون قلبه إليه.
وهذا الذي ذكرنا من اشتراط الغسل ثلاث مرات مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: إذا كانت النجاسة غير مرئية فإنه يطهر بالغسل مرة والعصر إلى أن يخرج الماء، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله مثل قول الشافعي، وإنه ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في (المنتقى) عنه: أنه إذا غسل مرة واحدة ما معه طهر، فالشافعي رحمه الله اعتبر النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية، والنجاسة الحكمية تزول بالغسل مرة، وكذا الحقيقية، بل أولى لوجهين:
أحدها: أن الحكمية أغلظ من الحقيقية لأن الحكمي، وإن قل يمنع جواز الصلاة، ولا يكون عفوًا والحقيقي ما لم يكن كثيرًا لا يمنع جواز الصلاة خصوصًا على أصلكم.
والثاني: أن الحكمي لا يسقط اعتبارها عند عدم ما يزيلها، فإنه إذا لم يجد الماء وكان على بدنه نجاسة يصلي كذلك، وفي الحكمي ينتقل إلى التراب، فصح أن الحكمية أغلظ من الحقيقية والتقريب ما ذكرنا.
ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا استيقظ من منامه، فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، إنه لا يدري أين باتت يده» فالنبي عليه السلام أمر بغسل اليد ثلاثًا من نجاسة غير مرئية إذا كانت متوهمة، فلأن يجب عن نجاسة متحققة أولى وأحرى.
واعتبار النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية باطل؛ لأن الحكمية عرف ثبوتها بالحكم لا بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحكم والحكم حكم بالزوال مرة واحدة، لما روي عن النبي عليه السلام أنه توضأ مرة مرة، وقال: «هذا وضوء من لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به» فقد حكم بزوالها مرة واحدة، فأما الحقيقية عرف ثبوتها بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحقيقة، والحقيقية المرئية في الأغلب لا يزول إلا بالثلاث، فاعتبر غير المرئي بها ثم يشترط (الأصل) ثلاث مرات في ظاهر رواية الأصل، وإنه أحوط، وفي غير رواية الأصول يكتفي بالعصر مرة، وإنه أوسع وأرفق بالناس.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في (صلاة المستفتي) أن النجاسة إذا كانت بولًا أو ماءً نجسًا وصب الماء عليه كفاه ذلك، ويحكم بطهارة الثوب على قياس قول أبي يوسف رحمه الله، فإنه روي عنه أن الجنب إذا اتزر في الحمام وصب الماء على جسده من جنب الظهر والبطن حتى خرج عن الجنابة ثم صب الماء على الإزار يحكم بطهارة الإزار، وإن لم يعصره. وقال في رواية أخرى: إذا صب الماء على الإزار وأمرّ الماء يكفيه فوق الإزار فهو أحسن وأحوط، فإن لم يفعل يجزئه.
وفي (المنتقى) شرط العصر على قول أبي يوسف رحمه الله، فقد روى ابن سماعة عنه في الثوب يصيبه مثل قدر الدرهم من البول، فصب عليه الماء صبة واحدة وعصره طهر، وكذلك إذا غمسه غمسة واحدة في إناء أو نهر جار وعصره، فإن ذلك يطهره وإن غمسه غمسة سابغة، فلم يطهره، قال الحاكم الشهيد رحمه الله يريد به إذا لم يعصره.
وبعض مشايخنا قالوا على قول أبي يوسف إذا كانت النجاسة رطبة لا يشترط العصر، وإذا كانت يابسة يشترط.
واستدلوا بما روي عنه أنه قال عقيب مسألة الجنب: إذا اتزر في الحمام وصب الماء على جسده ثم صب الماء على الإزار إنه يحكم بطهارة الإزار، ثم قال: وكذلك في الثوب، فقد عطف الثوب على الإزار ونجاسة الإزار رطبة؛ لأن نجاستها بنجاسة الماء المستعمل، فإن الماء المستعمل عند أبي يوسف نجس، ثم في كل موضع شرط العصر ينبغي أن يبالغ في العصر في المرة الثالثة، حتى يصير الثوب بحال لو عصر بعد ذلك لا يسيل منه الماء، ويعتبر في حق كل شخص قوته وطاقته ثلاثًا.
و(لو) عصر في كل مرة ثم تقاطر منه قطرة، فأصاب شيئًا قال ينظر إن عصر في المرة الثالثة عصرًا بالغ فيه حتى صار بحال لو عصر لم يسل منه، فالثوب طاهر واليد طاهرة وما تقاطر طاهر، وإن لم يبالغ في العصر في المرة الثالثة، وكان الثوب بحال لو عصر سال الماء، فالماء نجس، والثوب نجس، وما تقاطر نجس؛ لأن الأول بله والتحرز عنه غير ممكن، والثاني ماء والتحرز منه ممكن.
ثم الغسل يكون بطرفين، تورد الماء على العين النجس بأن يصب الماء على العين النجس، ويغسل، ويورد الماء على العين النجس على الماء بأن يجعل الماء في طست ويلقى فيه الثوب النجس، والقياس: أن يطهر العين النجس سواء ورد الماء عليه أو ورد هو على الماء؛ لأن الماء لاقى النجاسة في الحالين، فينجس بأول الملاقاة وتحتمل الغسل بالماء النجس، ولكن ترك القياس حال ورود الماء على النجس، وحكم بالطهارة بالإجماع.
وفي حال ورود النجس على الماء خلاف، والمسألة في (الجامع)، وصورتها: إذا غسل الثوب النجس في إجانة ماء وعصر، ثم غسل في إجانة أخرى وعصر، ثم غسل في إجانة أخرى، وعصر فقد طهر الثوب والمياه كلها نجسة، هكذا ذكر المسألة في (الجامع).
وذكر بعد هذه المسألة في (الجامع): إذا غسل العضو النجس في ثلاث إجانات فقد طهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يطهر ما لم يصب عليه الماء صبًا، ذكر الخلاف في فصل العضو ولم يذكره في فصل الثوب، والمشايخ المتأخرون يختلفون في ذلك، فمشايخ عراق على أن الخلاف في الفصلين واحد عند أبي يوسف رحمه الله لا يطهر الثوب ما لم يصب عليه الماء صبًا كالعضو، قيل وهكذا روى عنه في (النوادر)، ومشايخ بلخ رحمهم الله على أن الخلاف في فصل العضو لا غير، وفرقوا على قول أبي يوسف بين فصل العضو وبين فصل الثوب، قيل: وهكذا روى ابن سماعة في (نوادره)، فإن حملنا فصل الثوب على الخلاف، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله في الفصلين أن القياس أن لا يطهر العين النجس في الأحوال كلها؛ لأن الماء يلاقي النجس في الحالتين، فينجس بأول الملاقاة.
ويحتمل بالماء النجس لكن عرفنا الطهارة حال ورود الماء عليه بالنص على ما مر، والنص الوارد حال ورود الماء عليه لا يكون واردًا حال وروده على الماء؛ لأن الماء حالة الصب على النجس بمعنى الماء الجاري؛ لأنه ينزل على الماء الذي تنجس بأول الملاقاة ماء طاهر مرة بعد أخرى، فيصير بمعنى الماء الجاري؛ لأن ما يلاقي النجس من الماء الجاري، يتنجس بأول الملاقاة ثم ينزل على ما يتنجس من الماء ماء طاهر مرة بعد أخرى فيطهره.
وإذا أورد النجس على الماء لا يرد على الماء الذي يتنجس ماء طاهر ليطهره، فيكون بمعنى الماء الراكد لا يرد عليه ماء طاهر مرة بعد أخرى، والماء الجاري أقدر على إزالة النجاسة، وألقى لها من الماء الراكد.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنا تركنا القياس حال ورود الماء على النجس ضرورة إمكان التطهير، يجب أن يترك القياس حال ورود النجس على الماء ضرورة إمكان التطهير أيضًا، أكثر ما في الباب أن الضرورة تندفع بورود الماء على النجس، إلا أنه ليس أحدهما بالتعيين بأولى من الآخر إذا كان كل واحد منهما مؤثرًا أو كل واحد منهما مؤثر؛ لأن الماء تداخل أجزاء الثوب في الحالين، وبالعصر يخرج ويخرج النجاسة مع نفسه،ألا ترى أن أبا يوسف رحمه الله كما ترك القياس حال ورود الماء على النجاسة ضرورة إمكان التطهير، ترك القياس حال ورود النجاسة على الماء ضرورة إمكان التطهير، وإن كانت الضرورة تندفع بالماء ما كان الطريق إلا ما قلنا إن كل واحد منهما مؤثر، وليس أحدهما بالتعيين أولى من الأخرى كذا هاهنا.
وقوله بأن الماء حال وروده على النجس، يصير بمعنى الماء الجاري على ما قدر قلنا الماء الثاني والثالث يتنجس أيضًا بملاقاة النجاسة إياه إلا أن النجاسة في المرة الثالثة والثانية يكون أقل من النجاسة في المرة الأولى، لكن قليل النجاسة في تنجيس الماء القليل والكثير سواء، ثم وجب ترك القياس في أحد الموضعين ضرورة إمكان التطهير، فكذا في الباقي، وإن حملها فصل الثوب على الوفاق، فوجه الفرق لأبي يوسف بين الثوب وبين العضو أن في الثوب تركنا القياس، لتعامل الناس، فإن الناس يتعاملون بغسل الثياب في الإجانات من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والقياس يترك بالتعامل، والتعامل في العضو بصب الماء لا بإدخال العضو في الماء القليل، فيبقى فصل العضو على أصل القياس.
والدليل على ترك القياس في الثوب كان للتعامل، ما حكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أنه لو غسل ثلاثة أثواب مختلفة في ثلاثة إجانات وعصرها في كل مرة لا تطهر؛ لأنه لا تعامل فيه، إنما التعامل في ثوب واحد، ثم إذا طهر الثوب بالغسل في الإجانات على قول من قال به طهرت الإجانة، لأن نجاسة الإجانة كانت تبعًا لنجاسة الثوب، فإذا طهر الثوب طهرت الإجانة بطريق التبعية، وهو نظير ما قلنا في طهارة الدلو والرشاء تبعًا لطهارة البئر، هذا إذا أصابت النجاسة شيئًا يتأتى فيه العصر.
فأما إذا أصابت شيئًا لا يتأتى فيه العصر، فقام إجراء الماء فيه مقام العصر حتى حكي عن الفقيه أبي إسحق الحافظ رحمه الله: أنه إذا أصابت النجاسة البدن يطهر بالغسل ثلاث مرات متواليات؛ لأن العصر متعذر فقام التوالي في الغسل مقام العصر.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: خف بطانة ساقه من الكرباس، فدخل جوفه ماء نجس، فغسل الخف ودلكه باليد ثم ملأه بالماء ثلاثًا وأهراقه إلا أنه لم يتهيأ له عصر الكرباس، فقد طهر الخف وعلل ثمة فقال: لأن جريان الماء قد يقام مقام الغسل واستشهد، فقال: ألا ترى أن البساط النجس إذا جعل في نهر وترك فيه يومًا وليلة حتى جرى عليه الماء يطهر، وإذا أصابت النجاسة الأرض، فإن كانت رخوة طهرت بالصب عليها؛ لأنها صارت بمنزلة العصر في الثوب، وإن كانت صلبة فاندفع الماء عن موضع النجاسة طهر ذلك المكان، وينجس الموضع الذي انتقل الماء إليه، وإن لم ينتقل الماء عن ذلك المكان يحفر ذلك الموضع، هكذا ذكر القدوري رحمه الله، ومعنى قوله يحفر ذلك الموضع أنه يجعل أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها.
وفي (الطحاوي): إذا كانت الأرض محددة، وكانت صلبة، فإنه يحفر في أسفلها حُفيرة، فيصب الماء عليها، فيجمع الماء في تلك الحفيرة فيغسل الأرض ثم يكنس الحفيرة، وإن كانت الأرض مستوية وكانت صلبة، فلا حاجة إلى غسلها بل يجعل أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويطهر.
وفي (الفتاوى): البول إذا أصاب الأرض واحتيج إلى الغسل يصب الماء عليه عند ذلك وينشف ذلك... أو خرقة، فإذا فعل ذلك ثلاثًا طهر وإن لم يفعل كذلك، ولكن صب عليه ماءً كثيرًا حتى عرف أنه زالت النجاسة، ولا يوجد في ذلك لون ولا ريح ثم تركه حتى تنشفه الأرض كان طاهرًا، وعن الحسن بن أبي مطيع رحمه الله قال: لو أن أرضًا أصابها نجاسة، فصب عليها الماء، فجرى عليها إلى أن أخذت قدر ذراع من الأرض طهرت الأرض، والماء طاهر ويكون ذلك بمنزلة الماء الجاري.
وفي (المنتقى): أرض أصابها بول أو عذرة ثم أصابها ماء المطر، وكان المطر غالبًا قد جرى ماؤه عليه فذلك مطهر له، وإن كان المطر قليلًا لم يجر ماؤه عليها لم يطهر، ثم قال: وليغسل قدميه وخفيه؛ لأن غسل كل شيء إنما يكون على حسب ما يليق بذلك الشيء واللائق بالأرض إجراء الماء عليه قد وجد إذا كان المطر غالبًا، ولم يوجد إذا كان المطر قليلًا، فبقي نجسًا، فإذا وضع عليها خفه أو قدمه فقد تنجس، فيجب الغسل، فإذا كان ذلك الموضع قد يبس قبل المطر، فلا يغسل قدميه يريد به إذا كان المطر قليلًا، وهذه إشارة إلى إحدى الروايتين في الأرض النجسة يبست ثم أصابها الماء.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر) عن أبي يوسف رحمهما الله أنه سئل عن غسل أرض أصابها نجاسة، قال: إذا صب عليها من الماء مقدار ما يغسل به ثوب أصابته هذه النجاسة ثلاث مرات، وعصر في كل مرة يطهر وطهرت الأرض بهذا المقدار، فبلغ هذا القول أبا عبد الله محمد بن سلمة رحمه الله، فأعجبه وقال: ما أحد أتى أبا يوسف رحمه الله إلا وجد عنده فائدة.
حصير أصابه نجاسة، فإن كانت النجاسة يابسة لابد من الدلك حتى تلين، وإن كانت رطبة إن كان الحصير من قصب أو ما أشبه ذلك، فإنه يطهر بالغسل ولا يحتاج فيه إلى شيء آخر؛ لأن النجاسة لا تدخل أجزاء القصب، بل تبقى على ظاهر، فيطهر بالغسل، وإن كان الحصير من بردي أو ما أشبه ذلك غسل ويوضع عليه شيء ثقيل أو يقوم عليه إنسان حتى يخرج الماء من أثنائه، هكذا ذكر في بعض المواضع ذكر عن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن الحصير إذا كان من بردي يغسل ثلاثًا، ويجفف في كل مرة ويطهر عند أبي يوسف رحمه الله، خلافًا لمحمد رحمه الله.
وفي (شرح الطحاوي) أنه لا يؤقت في إزالة النجاسة إذا أصابت الحجر أو الآجر أو شيئًا من الأواني، بل يغسله مقدار ما يقع في أكبر رأيه أنه قد طهر، ويشترط مع ذلك أن لا يوجد منه طعم النجاسة ولا رائحتها ولا لونها، فأما إذا وجد هذه الأشياء لا يحكم بالطهارة قال ثمة: وسواء كانت الآنية من خزف أو غيره، وسواء كانت قديمة أو جديدة.
وعن محمد رحمه الله أن الخزف الجديد إذا وقع فيه خمر أو بول أنه لا يطهر أبدًا.
وفي (النوازل): إن تشربت النجاسة في النصاب بأن غمس السكين بماء نجس أو كان الخزف أو الآجر جديدين على قول محمد رحمه الله لا يطهر أبدًا، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يمر الحديد بالماء الطاهر ثلاثًا ويغسل الآجر الجديد والخزف الجديد بالماء ويجفف في كل مرة ويطهر.
وحدّ التجفيف أن يترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب الندوة ولا يشترط اليبس.
وعلى هذا الاختلاف الحنطة إذا أصابتها خمر وتشربت فيها وانتفخت من الخمر فغسلها عند أبي يوسف أن تنقع في الماء حتى تشرب الماء كما تشربت الخمر ثم تجفف، يفعل ذلك ثلاث مرات ويحكم بطهارتها عند أبي يوسف، وقيل: مثل هذا في غسل الخزف الجديد أن يوضع في الماء حتى يتشرب فيه الماء كالنجاسة، ويطهر في قول أبي يوسف.
ورأيت في (المنتقى) عن أبي يوسف رحمه الله ثوب كان فيه خمر فتطهيره أن يجعل الماء فيه ثلاث مرات كل مرة بساعة إذا كان الثوب جديدًا.
إذا أصابت الحنطة الخمر إلا أنها لم تنتفخ من الخمر فغسلت ثلاثًا ولا يوجد لها طعم ولا رائحة ذكر في بعض المواضع عن أبي يوسف أنه لا بأس بأكلها، وفي (شرح الطحاوي): أنه لا يحل أكلها، وكأن المذكور في (شرح الطحاوي) قول محمد رحمه الله.
وفي (المنتقى) عن أبي يوسف رحمه الله لو طبخت الحنطة بخمر حتى تنتفخ وتنضج فطبخت بعد ذلك ثلاث مرات وانتفخت في كل مرة وجفت بعد كل طبخة فلا بأس بأكلها وفيه أيضًا: الدقيق إذا أصابه خمر لم يؤكل وليس لهذا حيلة. وفيه أيضًا: قدر يطبخ فيه لحم وقع فيه خمر فغلى فيه لا يؤكل، وهذا قول محمد رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يطبخ بالماء ثلاث طبخات ويرد بعد ذلك كل طبخة ويؤكل.
وفي مسائل: امرأة تطبخ بقدر فطار طير ووقع في القدر ومات لا تؤكل المرقة بالإجماع لأنه تنجس بموت الطير فيه، وأما اللحم ينظر إن كان الطير وقع في القدر حالة الغليان لا يؤكل لأن النجاسة سرت فيه، وإن كان الطير قد وقع في القدر حالة السكون يغسل ويؤكل، وهذا قول محمد رحمه الله: فأما على قول أبي يوسف رحمه الله: إذا كان الوقوع في القدر حالة الغليان يطبخ في الماء ثلاث مرات ويرد في كل مرة ويؤكل.
وكذلك الجمل المشوي إذا كان في بطنها بعر فأصابت بعض اللحم في حالة الشي، فطريق غسله ما ذكرنا عند أبي يوسف رحمه الله.
أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: رجل اتخذ من سمك وملح وخمر إذا صار مرقًا فلا بأس للأثر الذي جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأبو يوسف رحمه الله يقول كذلك إلا في مسألة واحدة أن السمك إذا كان هو الغالب والخمر قليل فأراد أن يتناول شيئًا منه ليس له ذلك وهو كالخبز عجن بالخمر وإذا كان غالبًا وتحول الخمر عن طبيعتها إلى المرق فلا بأس بذلك.
وفيه أيضًا عن أبي يوسف رحمه الله لو أن رجلًا اتخذ من الخمر طيبًا أو ألقى فيه... فإنه لا يحل له أن يتطيب به وأن..... به، ولا يحل له بيعها لأن ذلك لا يغيرها عن طبها.
وكذلك ما خالط الخمر من الإدام فإن الخمر يحرمه ماخلًا حصيلة واحدة أن تكون الخمر غالبة فتتحول عن طباعها إلى الحل أداء المرئي.
وعن أبي يوسف رحمه الله: لو أن رغيفًا من الخبز المعجون بالخمر وقع في دنّ خلّ وذهب فيه حتى لا يرى فلا بأس بأكل الخل، فأما الرغيف نفسه فلا يؤكل، وفيه أيضًا لو أن خرقة أصابها خمر ثم سقطت في دن خل فلا بأس بأكل الخل، ولو وقع رغيف طاهر في خمر ثم وقع في خل طهر الخل.
ورأيت في موضع آخر الرغيف إذا وقع في الخمر ثم تخلل فهاهنا اختلف المشايخ فيه، إذا أصابت النجاسة خُفًا أو نعلًا لم يكن لها جرم كالبول والخمر فلابد من الغسل رطبًا كان أو يابسًا.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله إذا أصاب نعله بول أو خمر ثم مشى على التراب أو الرمل ولزق به بعض التراب وجف ومسحه بالأرض يطهر عند أبي حنيفة رحمه الله وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمه الله. وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله مثل ذلك إلا أنه لم يشترط الجفاف.
وأما التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل فإن كانت رطبة لا تطهر إلا بالغسل، هكذا ذكر في (الأصل) ألا ترى أن الرطوبة التي فيها لو أصابته لا يطهر إلا بالغسل فكذا إذا أصابته مع غيرها، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا مسحه في التراب أو الرمل على سبيل المبالغة يطهر، وعليه فتوى من مشايخنا للبلوى والضرورة.
وإن كانت النجاسة يابسة يطهر بالحت والحك عند أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله لا تطهر إلا بالغسل، الصحيح قولهما لقوله عليه السلام: «إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه وإن كان بهما أذىً فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور».
والمعنى فيه أن الجلد شيء صلب لا تتسرب فيه رطوبات النجاسة إلا بعد زمان وجرم النجاسة... يبس قل أن تتشرب في الجلد الرطوبة وتجذب بأعلى النعل من الرطوبة إلى نفسه، فإذا حكّه وحتّه يزول الجرم وتزول الرطوبة معه ولا يبقى معه إلا شيء قليل والقليل من النجاسة معفو وعن محمد رحمه الله أنه رجع عن هذا القول بالري لما رأى من كثير السرقين في طرقهم، قال القدوري رحمه الله في (شرحه): معنى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة أن الخف والنعل يطهر لجواز الصلاة معه.
أما لو أصابه الماء بعد ذلك يعود نجسًا على إحدى الروايتين وأصل المسألة: الأرض إذا ثبت أصل النجاسة فيها ثم أصابها الماء فإنه يعود حكم النجاسة على إحدى الروايتين، وجعل القدوري رواية عود النجاسة في الأرض بإصابة الماء (ظاهر الرواية) ثم إن محمدًا رحمه الله ذكر في (الجامع الصغير) في النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل وحكّه أو حتّه بعدما يبس إنه يطهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وذكر في (الأصل): إذا مسحه بالتراب يطهر، قال مشايخنا لولا المذكور في (الجامع الصغير) لكنا نقول لا يطهر ما لم يمسحه بالتراب لأن المسح بالتراب له أثر في باب الطهارة، فإن محمدًا رحمه الله قال: المسافر إذا أصابت يده نجاسة يمسحه بالتراب، وأما الحك فلا أثر له في باب الطهارة فالمذكور في (الجامع الصغير) من أن للحك أثرًا كما أن للمسح بالتراب أثرًا، ثم إذا وجب غسل الخف أو النعل في الموضع الذي وجب فإن كان الجلد يشف رطوبات النجاسة فقد قال بعض مشايخنا: إنه لا يطهر أبدًا على قول محمد رحمه الله إذا كان لا يمكن عصره، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ينقع ثلاثًا في ماء طاهر ويجفف في كل مرة في رواية، وفي المرة الثالثة في رواية، وقاسوا الخف والنعل على الخزف الجديد والآجر الجديد وسائر المسائل التي مرّ ذكرها من هذا الجنس.
وبعض مشايخنا قالوا هذا التفصيل خلاف ظاهر لفظ محمد رحمه الله، فإن محمدًا رحمه الله قال: لا يجزئه حتى يغسل موضع النجاسة في الخفٍ وغيره من غير فصل بين خف وخف وهو الظاهر، فإن.... الذي يتخذ منه الخف والنعل أو لا ينقع في الماء ويعالج بالدهن والشحم فلا يتسرب منه رطوبات النجاسة فلا يكون نظير الكوز والحب. ولأجل هذا المعنى مال بعض مشايخنا (إلى) اشتراط التجفيف في الخف، ألا ترى إلى ما حكي عن أبي القاسم الصفار رحمه الله في الرجل يستنجي ويجري ماء استنجائه بين رجليه وخفه ليس بمنخرق أن له أن يصلي مع ذلك الخف لأن الماء الآخر يطهر خفه كما يطهر موضع استنجائه ولم يشترط الجفاف، فعلى قول هذا القائل الخف أو المكعب إذا أصابته نجاسة يغسل ثلاث مرات بدفعة واحدة ويحكم بطهارته.
والمختار أنه يغسل ثلاث مرات ويترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب الندوة ولا يشترط اليبس وفي (مجموع النوازل): الخف الخراساني الذي صرمه موشًّى بالغزل حتى صار ظاهر الصرم كله غزلًا فأصابه نجاسة فحته وصلى فيه، قال نجم الدين النسفي رحمه الله: لا تجوز صلاتهُ إلا إذا غسله بالماء ثلاثًا وجففه في كل مرة، وحكم هذا حكم الثوب لا حكم الخف أو السيف أو السكين إذا أصابه بول أو دم. ذكر في (الأصل) أنه لا يطهر إلا بالغسل.
فإن أصابه عذرة إن كانت رطبة فكذلك الجواب، وإن كانت يابسة طهرت بالحت عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله لا يطهر إلا بالغسل.
والكرخي رحمه الله ذكر في (مختصره) أن السيف يطهر بالمسح من غير فصل بين الرطب واليابس وبين العذرة والبول، وعلل فقال: لأن السيف متى صقل لا تتداخل النجاسة في أجزائه بل تبقى على ظاهره، فإذا مسحها لا يبقى إلا شيء قليل وذلك غير معتبر.
وفي (الفتاوى) سئل أبو القاسم عمن ذَبَحَ بالسكين ثم مسح السكين على صوفها أو بما يذهب به أثر الدم عنه يطهر، وعنه أنه لحس السيف بلسانه حتى ذهب الأثر فقد طهر، وعن أبي يوسف رحمه الله أن السيف إذا أصابه دم أو عذرة فمسحت بخرقة أو تراب إنه يطهر حتى لو قطع بطيخًا بعد ذلك أو ما أشبهه كان البطيخ طاهرًا ويباح أكله، وقد صح أن الصحابة كانوا يقتلون الكفار بسيوفهم ويمسحون السيوف ويصلون معها.
وإذا وقع على الحديد نجاسة من غير أن يمره بها فكما يطهر بالغسل يطهر بالمسح بخرقة طاهرة أيضًا، إذا كان الحديد صقيلًا غير خشن كالسيف والسكين والمرآة ونحوها. الحديد إذا أصابه نجاسة فأدخله في النار قبل أن يمسحه أو يغسله، ينبغي أن يطهر إذا ذهب أثر النجاسة ويكون الحرق كالغسل، ألا ترى إلى ما ذكر في (الفتاوى): إذا أحرق رجل رأس شاة ملطخ وزال عنه الدم فإنه يحكم بطهارته كذا هنا بخلاف ما إذا مرّ الحديد بالماء النجس على قول محمد رحمه الله لأن النجاسة تسير فيه بالتمويه، أما بدون التمويه لا تتسرب فيه النجاسة بل يبقى على ظاهره فتزول بالإحراق.
وإذا سعرت التنور ثم مسحه بخرقة مبتلة نجسة ثم حرقت فيه فإن كانت حرارة النار أكلت بلّة الماء قبل إلصاق الخبز بالتنور لا يتنجس الخبز لأن النجاسة لا تبقى إذا نشف التنور بالنار كما لا تبقى نجاسة الأرض إذا يبست بالشمس.
قال الزندويستي رحمه الله في (نظمه): شيئان يطهران بالجفاف: الأرض إذا أصابها نجاسة فجفّت ولم يُرَ أثرها جازت الصلاة فوقها. والتلة والحشيش وما نبت في الأرض إذا أصابتها النجاسة فجفت طهرت لأنها من نبات الأرض والأرض تطهر بهذا فكذا نباتها.
ورأيت في موضع آخر أن الكلأ أو الشجر ما دام قائمًا على الأرض ففي طهارته بالجفاف اختلاف المشايخ، وحكى الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: الحمار إذا بال على السك فوقع عليه الظل ثلاث مرات والشمس ثلاث مرات فقد طهر ويجوز عليه الصلاة الحشيش إذا أصابه النجاسة وأصابه المطر بعد ذلك كان له بمنزلة الغسل.
وفي بعض النسخ حكم الحصى حكم الأرض إذا تنجست فجفت وذهب أثرها، يريد به: إذا كان الحصى في الأرض متداخلًا، فأما إذا كان على وجه الأرض لا يطهر، وكذا الحجر على وجه الأرض إذا أصابته نجاسة.
في (متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله): والآجرة إذا كانت مفروشة فحكمها حكم الأرض تطهر بالجفاف وإن كانت موضوعة تُنقل، وتجول من مكان إلى مكان لابد من الغسل، وكذلك اللبنة إذا أصابتها نجاسة وهي غير مفروشة لا تطهر بالجفاف، وإن كانت مفروشة وصلى عليها بعد الجفاف يجوز لأن في الوجه الثاني صارت من وجه الأرض بخلاف الوجه الأول، فإن خلعت بعد ذلك هل تعود نجسة؟ ففيه روايتان.
الخف أو النعل أو الثوب إذا أصابه مني فإن كان رطبًا فلابد من الغسل. وإن كان يابسًا يجوز فيه الفرك، عرف ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال لها: «إذا وجدت المني على الثوب، فإن كان رطبًا فاغسليه وإن كان يابسًا فافركيه».
قال الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله: المني اليابس إنما يطهر بالفرك إذا كان رأس الذكر طاهرًا وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، أما إذا لم يكن طاهرًا لا يطهر قالوا: وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله، قيل أيضًا: إذا كان رأس الذكر طاهرًا إنما تطهر الثياب بالفرك إذا خرج المني قبل خروج المذي، فأما إذا خرج المذي على رأس الإحليل ثم خرج المني لا يطهر الثوب بالفرك.
وإذا فرك المني اليابس عن الثوب وحكم بطهارة الثوب ثم أصاب الماء ذلك الثوب هل يعود نجسًا فهو على الروايتين، وقد مرّ نظير هذا فيما تقدم.
وإذا كانت النجاسة على بدن الآدمي ذكر في (الأصل) أنها لا تطهر إلا بالغسل رطبًا كان أو يابسًا لها جرم أو لا جرم لها. وفي (القدوري): لا يطهر شيء كان فيه نجاسة من ثوب أو بدن إلا بالغسل إلا المني فإنه يجوز فيه الفرك إذا كان يابسًا على الثوب، وإن كان على البدن لا يكتفى بالحتّ ويغسل في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله، لأن البدن لا يمكن أن يفرك ولأن لمس البدن وتجاذبه فلا يزول بالحت منه ما يزول بالفرك في الثوب فبقي على الأصل.
وذكر الكرخي رحمه الله مسألة المني في (مختصره) وذكر أنها تطهر بالفرك من غير فصل بين العضو وغيره. ويجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل شيء ينعصر بالعصر كالخل وبماء الريق في قولهما، وقال محمد وزفر لا يزول إلا بالماء، وروي عن أبي يوسف في البدن كذلك، وفرّق أبو يوسف رحمه الله على هذه الرواية بين الثوب والبدن ووجه الفرق: أن البدن كما يقبل النجاسة الحقيقية يقبل النجاسة الحكمية ثم النجاسة الحكمية اختص زوالها بالماء فكذا النجاسة الحقيقية ولا كذلك الثوب.
وفي (المنتقى) رجل على ساقه دم أخذ كفًّا من ماء وغسل به ذلك الدم وسال الماء على يده أجزأه وطهّره، ولو غمس يده في الماء ولم يأخذ في يده شيئًا منه ثم مسح به موضع الدم حتى ذهب أثره لم يجزه، يريد به إذا مسح موضع الدم بعدما أخرجه من الماء، أما لو مسح به في الماء حتى ذهب أثره يجزئه وهذا ظاهر.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: كل ما غسل به الثوب من شيء نحو الدم وأشباهه يخرج منه الدم بعصره فانعصر حتى سال فقد أذهب النجس. قال: والأدهان لا تخرج الدم لأن لها رسوبة ولصوقًا بالمحل فلا يقدر على الاستخراج. قال: ولو غسله بلبن أو خل فانعصر موضع الدم. حتى خرج من الثوب فقد طهر، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله إذا غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن أو زيت حتى يذهب أثره جاز، ولو أصاب يديه لم يجز إلا أن يغسله بالماء، وقد ذكرنا الفرق بين البدن والثوب على رواية أبي يوسف.
وفي (المنتقى) وقال أبو يوسف في المحتجم لا يجزئه أن يمسح الدم عن موضع الحجامة حتى يغسله، قال الحاكم: رأيت عن أبي حفص عن محمد بن الحسن رحمهم الله أنه إذا مسحه بثلاث خرق رطاب نظاف أجزأه.
وفي (نوادر إبراهيم) عن محمد في حمار وقع في الملاحة ومات وترك حتى صار ملحًا أكل الملح، وقال أبو يوسف: لا يؤكل، وكذلك رماد عذرة أحرقت وصلى عليه على هذا الاختلاف، وحكى أبو عصمة: خشبة لو أصابها بول فاحترقت ووقع رمادها في بئر قال أبو يوسف رحمه الله يفسد الماء، وقال محمد رحمه الله: لا يفسد.
الطين النجس إذا جعل منه الكوز والقدر فطبخ يكون طاهرًا.
إذا قاء ملء الفم ينبغي أن يغسل فاه، فإن لم يغسل ومضى زمان ينبغي أن تجوز صلاته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويطهر فمه ببزاقه.
وعلى هذا إذا شرب الخمر وصلى بعد زمان، وإذا شرب الخمر ونام وسال من فمه شيء على وسادته إن كان لا يرى عين الخمر ولا يوجد رائحته ينبغي أن يكون طاهرًا، على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما بناء على ما قلنا.
العنب إذا تنجس يغسل ثلاثًا ويؤكل، وضع المسألة في (مجموع النوازل) في العنقود إذا أكل الكلب بعضه وذكر أنه يغسل العنقود ثلاثًا ويؤكل. كذا قال ثمة وكذا يفعل بعد يبس العنقود، ولو عصر عنبًا فأدمى رجله وسال في العصير والعصير يسيل ولا يظهر أثر الدم فيه قال لا ينجس العصير، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما كما في الماء الجاري.
الفأرة إذا وقعت في دن تشاسته ومات واين تشاسة وسيده بودشت، قال الشيخ الإمام نجم الدين رحمه الله: أقتاده باشدكه آب درخم كرد بودنه ديك رود شرخم كشاده بوداب دنكر رنجيشد دشرخم يستندوبعه أن جنه سبانروز سرخم كسادنه موش ماقنية اما سيده أما ومعلوم شه كه موشرهم ان اول انذر اقتاده اشت قال الاحتياط في هذا أن يُراق لأن القلب لا يسكن إلى طهارته وزوال نجاسته، ولو بذر هذا في الأرض صار نجسًا وهذا الذي ذكر قول محمد رحمه الله أما على قول أبي يوسف رحمه الله يغسل التساستح ثلاثًا ويجفف في كل مرة ويحكم بطهارته.
رجل اتخذ عصيرًا في خابية فغلى واشتد وقذف بالزبد وانتقص مما كان ثم صارت خلًا طهر الحب كله حتى يخرج الخل طاهرًا إذا زالت رائحة الخمر، هكذا وقع في بعض الكتب، وفي بعضها: إذا تخلل وتطاول مكثه في الدن طهر الحب كله، ولو رفع من الدن كما تخلل من غير مكثه فالموضع الذي لوّث بالخمر نجس، فأما إذا عالج ذلك الموضع بالخل على أن يتطاول مكثه فعلى قول من يرى إزالة النجاسة الحقيقية بغير الماء يطهر الدن الذي فيه العصير.
إذا غلى واشتد وصار خمرًا وعلى رأسه... فرفع ذلك... بعد زمان يعني بعدما صار خلاّ وتطاول مكثه فإنه يكون طاهرًا لو وضع على قدر مرقة لا تتنجس المرقة أما إذا رفع قبل أن يصير خلًا فإنه يكون نجسًا فتنجس المرقة وكذلك إذا رفع بعدما صار خلًا ولكن قبل أن يتطاول مكثه.
وقع كوز من خمر في دن خل أو صب فيه ولا يوجد طعمها ولا رائحتها يباح الخل من ساعته. ولو وقع قطرة من خمر في دن خل لا يباح خل من ساعته، والفرق: أن الخمر الذي في الكوز كثير لو لم يتغير المصبوب ولو لم يصر خلًا توجد رائحته، فإذا لم يوجد علمنا أنه تغير وصار خلًا، فأما القطرة فشيء قليل لا يكون لها رائحة فلا يستدل بعدم الرائحة على التغيير، فلعل أنها على حالها ولم تتغير فلا يحكم بالخل في الحال. هكذا ذكر في (مجموع النوازل) وينبغي أن يقال في القطرة: إذا كان غالب ظنه أنه صار خلًا يطهر.
الخمر إذا وقع في الماء، والماء إذا وقع في الخمرة صار خلًا ففيه اختلاف المشايخ، واختار الصدر الشهيد رحمه الله أنه يطهر، وكذلك في خل..... اختلف المشايخ فيه واختياره أنه يطهر.
وإذا صب الخل المتنجس في الخمر حتى صار الكل خلًا تبقى النجاسة في الكل، وإذا وقعت فأرة في دن خمر وصارت الخمر خلًا فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يباح تناول الخل وقال بعضهم: لا يباح، وقال بعضهم: إن تفسخت الفأرة فيها لا يباح، وإن لم تتفسخ يباح.
الكلب إذا وقع في عصير فتخمّر العصير ثم تخلل لا يحل شربه لأن لعاب الكلب فيه قائم وإنه لا يصير خلًا، وعلى قياس خل.... ينبغي أن يحلّ شربه.....
الحديدة إذا أصابها نجاسة فبالغسل ثلاثًا تطهر ظاهرًا لا باطنًا حتى لو وقع قطعة منها في ماء قليل يتنجس الماء.

.الفصل الثامن في الحيض:

ثوب أصابه عصير ومضى على ذلك أيام إلا أنه يوجد منه رائحة الخمر لا يحكم بنجاسته لأن العصير لا يصير خمرًا في الثوب والله أعلم بالصواب.
هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منه في تفسيره:

بيان فنقول:
الحيض لغة: اسم لدرور الدم من أي شخص كان، تقول العرب حاضت الأرنب إذا خرج الدم من فرجها.
وشرعًا: اسم لدم دون دم، فإنها: اسم لدم خارج من رحم المرأة، فأما الخارج من فرج المرأة دون الرحم فهو استحاضة وليس بحيض شرعًا، الدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت حبيش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالت: «إني امرأة أستحاض فلا أطهر الشهر والشهرين فقال عليه السلام: ليس تلك بالحيضة إنما هي دم عرق انقطع فإذا أجليت الحيضة فدعي الصلاة أيام أقرائك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة».
وفي (الفتاوى) لأبي الليث رحمه الله: أن الدم الخارج من الدبر لا يكون حيضًا، ويستحب لها أن تغتسل عند انقطاع الدم. وإن أمسكت زوجها عن الاستمتاع بها أحب إلي لجواز أنها خرجت من الرحم، ولكن من هذا السبيل.
ثم الدم الخارج من الرحم نوعان: حيض ونفاس، فالنفاس: هو الدم الخارج بعقب الولادة وسيأتي الكلام فيها في نوعها وأما الحيض: فقد قال الكرخي رحمه الله في (مختصره) الحيض: الدم الخارج من الرحم تصير المرأة بالغة بالبداية بها. كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: الحيض هو الدم التي ينفضها رحم المرأة السالمة عن الداء والصغر والله أعلم.

.نوع آخر في بيان الدماء الفاسدة التي لا يتعلق بها حكم الحيض:

وإنها كثيرة فمن جملة ذلك القاصر... عن أقل مقدار الحيض لأنه مقدر شرعًا، والتقدير الشرعي يمنع أن يكون لما دون المقدر حكم المقدر، وعند ذلك يحتاج إلى بيان أقل مقدار الحيض فيقول: أقل الحيض مقدر بثلاثة أيام ولياليها في ظاهر رواية أصحابنا، وروى ابن سماعة في (نوادره) وأبو سليمان في (نوادر الصلاة) عن أبي يوسف رحمه الله أنه يومان والأكثر من اليوم الثالث، وجه (ظاهر الرواية) ما روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام» وقال عليه السلام لفاطمة بنت حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك».
والأيام اسم جمع وأقل الجمع ثلاثة. وعن عمر وعثمان وعلي وزيد وثابت وابن مسعود وابن عباس وابن عمر ومعاذ وأنس بن مالك وعائشة وجابر وعبد الله وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم مثل مذهبنا.
ومن جملة ذلك الدم الذي جاوز أكثر مدة الحيض فإن أكثر الحيض مقدر شرعًا والتقدير الشرعي يمنع أن يكون لما فوق المقدر حكم المقدر كيلا تفوت فائدة التقدير. وفي هذا المقام يحتاج إلى بيان أكثر مقدار الحيض فنقول: أكثر الحيض عشرة أيام، وقال الشافعي: خمسة يومًا، فالحجة لعلمائنا ما روينا من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
ومن جملة ذلك الدم المتخلل في أقل مدة الطهر ولا يمكن معرفة ذلك إلا بعد معرفة أقل الطهر وأقله خمسة عشر يومًا عندنا، وقال عطاء بن أبي رباح ويحيى بن أكثم ومحمد بن شجاع رحمهم الله إنه تسعة عشر يومًا، هم يقولون: إن الشرع أقام الشهر في حق الآيسة والصغيرة مقام الحيض والطهر إذ هما يوجدان في الشهر عادة والشهر قد ينتقص بيوم، والحيض لا يزيد على عشرة فيبقى الطهر تسعة عشر، وعلماؤنا قالوا: إن مدة الطهر نظير مدة الإقامة من حيث إنه يجب فيها ما كان سقط من الصوم والصلاة. ثم أقل مدة الإقامة تقدر بخمسة عشر يومًا على ما عرف في موضعه فكذا أقل مدة الطهر، وقد قسنا أقل مدة الحيض بأقل مدة السفر من حيث إن كل واحد يؤثر في الصوم والصلاة، فجاز لنا أن نقيس أقل مدة الطهر بأقل مدة الإقامة من حيث إن كل واحد يؤثر في الصوم والصلاة أيضًا.
وأما أكثر مدة الطهر فالمنقول من أصحابنا أنه لا غاية له. وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: قول أصحابنا لا غاية له أن كانوا عَنَوا به أن الطهر طهر وإن طال فصحيح، وإن عنوا به أن الطهر الذي يصلح لنصب العادة عند وقوع الحاجة إليه لوقوع الاستمرار غير مقدر، فهو ليس بصحيح بل هو مقدر عندهم جميعًا إلا عند أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله فإنه لا يقدر طهرها بشيء إذا احتيج إلى بقية العادة لها إذا استمر بها الدم وصلت أيامها لكنها تبني على ما رأت وإن امتدت.
وعامة مشايخنا قالوا بتقديره واختلفوا فيما بينهم، وبيان هذا: مبتدأة رأت عشرةً دمًا وستةً طهرًا واستمر بها الدم. قال أبو عصمة سعد بن معاذ: حيضها وطهرها ما رأت لأنها (رأت) دمًا صحيحًا وطهرًا صحيحًا والمبتدأة إذا رأت دمًا صحيحًا وطهرًا صحيحًا يجعل ذلك عادة لها حتى إن على قوله تنقضي عدتها إذا طلقها زوجها بثلاث سنين وثلاثين يومًا.
وقال محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تجعل عادتها من الطهر ستة أشهر إلا ساعة اعتبارًا بمدة الحبل، فإن أقل مدة هي طهر كلها ستة أشهر مدة الحبل، غير أن مدة الحبل تكون أمد من مدة الطهر عادة فينقص عنها شيء ليقع الفرق بينهما.
وأقل ذلك ساعة حتى إن عدة هذه المرأة إذا طلقها زوجها على قول محمد بن إبراهيم الميداني تنقضي عدتها ثمانية عشر شهرًا إلا ثلاث ساعات لجواز أن يكون وقوع الطلاق عليها في حالة الحيض فيحتاج إلى ثلاثة أطهار كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وإلى ثلاث حيض كل حيض عشرة أيام.
وقال بعضهم: تجعل عادتها من الطهر سبعة وعشرون يومًا لأن المرأة ترى الدم والطهر في كل شهر عادة.
وأقل الحيض ثلاثة أيام، فيجعل الباقي وذلك سبعة وعشرون طهرًا ثم تكمل الحيض عشرة أيام مع هذه الثلاثة في الثاني وهكذا دأبها ما دام بها الاستمرار عشرة حيضها وسبعة وعشرون طهرها. وقال أبو علي الدقاق: يجعل عادتها من الطهر سبعة وخمسون يومًا. وكان أبو عبد الله الزعفراني رحمه الله يجعل عادتها من الطهر ستون يومًا وحيضها عشرة، وهكذا أثبته الحاكم الشهيد في المختصر.
ومن جملة ذلك ما تراه الحامل من الدم فقد ثبت عندنا أن الحامل لا تحيض، وكذا روي عن عائشة رضي الله عنها وعرف أن المرأة إذا حبلت يُسدّ فم رحمها فلا يكون ذلك الدم خارجًا من الرحم فكان فاسدًا.
ومنها الدم الذي جاوز أكثر مدة النفاس فإن أكثر النفاس مقدر شرعًا، والتقدير الشرعي ينفي أن يكون لما فوق المقدر حكم المقدر حتى لا تبطل فائدة التقدير وفي هذا المقام يحتاج إلى معرفة أكثر مدة النفاس، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ومن جملة ذلك ما تراه الصغيرة جدًا من الدم لأن هذا دم سبق أوانه فلا يعطى له حكم الحيض، إذ لو أعطي له حكم الحيض يحكم ببلوغها، وإنه محال في الصغيرة.
هذا واختلف في أدنى المدة التي يحكم ببلوغ الصغيرة فيه برؤية الدم، فكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقدرها بتسع سنين لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين. والظاهر أنه كان يبني بها بعد البلوغ. وكان لأبي مطيع البلخي بنّية صارت جدة وهي بنت تسع عشرة سنة وكان أبو مطيع يقول فضحتنا هذه الجارية.
وبعضهم قدروها بسبع سنين قال عليه السلام: «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا» والأمر للوجوب، ولا وجوب إلا بعد البلوغ. ولا تصور له إلا في هذا الموضع. وقد سئل أبو نصر محمد بن محمد بن سلام البلخي عن بنت ست سنين إذا رأت الدم هل يكون حيضًا؟ قال: نعم إذا تمادى هذا مدة الحيض فلم يكن نزوله عن آفة. وأكثر مشايخ زماننا على ما قاله محمد بن مقاتل، وبعض مشايخ زماننا قدروا ذلك بثنتي عشر سنة.
فإذا رأت الدم وهي صحيحة لأداء بها فهو حيض وإلا فهو من المرض، والأغلب في زماننا رؤية الدم في ثلاثة عشر سنة أو في أربع عشر سنة. وأصحابنا المتقدمون لم يجدوا في ذلك حدًّا لأن ذلك يختلف باختلاف الهواء وباختلاف البلدان والبيئة ولكن قالوا: إذا بلغت مبلغًا فرأت الدم ثلاثة أيام فهو حيض.
ومن جملة ذلك ما تراه الكبيرة جدًّا هكذا وقع في بعض الكتب. وقد ذكر محمد رحمه الله في (نوادر الصلاة) أن العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض فهو حيض. قال محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله رواية (النوادر) محمولة على ما إذا لم يحكم بإياسها، فأما إذا انقطع الدم وحكم بإياسها وهي بنت تسعين سنة أو نحوه فرأت الدم بعد ذلك لا يكون حيضًا كما وقع في بعض الكتب، وهو مروي عن عطاء بن أبي رباح والشعبي وجماعة من التابعين رحمهم الله. وكان محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: ما ذكر في (النوادر) محمول على ما إذا رأت دمًا سائلًا و(ذلك) حيض، وما وقع في بعض الكتب محمول على ما إذا رأت بلة مدة يسيرة وذلك ليس بحيض، وعامة المشايخ أن على رواية (النوادر) لا تقدير في حد الآيسة بالستين. وتفسير الآيسة على هذه الرواية أن تبلغ من السن ما لا يحيض مثلها، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع دمها يحكم بإياسها. فإن رأت بعد ذلك دمًا فلا يكون حيضًا على هذه الرواية ويظهر كونها حيضًا في حق بطلان الاعتداد بالأشهر، وفي حق فساد الأنكحة.
وعلى رواية بعض الكتب لحد الآيسة تقدير واختلفت الأقاويل في التقدير: قال بعضهم: إذا بلغت المرأة مبلغًا لا تحيض نساء تلك البلدة في ذلك المبلغ. ولم يرد ما يحكم بإياسها. وقال بعضهم: يعتبر إبراؤها من قرائنها وقال: يعتبر سر تركيبها وهذا لأن طبائع النساء يختلف باختلاف الهواء والبلدان والأغذية، ألا ترى أن المرأة المنعمة يبطئ إياسها والفقيرة البائسة يسرع إياسها فلا يمكن التقدير فيهن بالزمان فقدرنا ببراءتها وتركيبها وكثير من المشايخ منهم أبو علي الدقاق اعتبروا ستين سنة، وهو مروي عن محمد رحمه الله أيضًا: واعتبر بعضهم خمسين سنة وهو مذهب عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها أنها قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم يُرَ في بطنها قرة عين.
ومشايخ مرو أفتوا بخمس وخمسين سنة، وكثير من مشايخ بخارى كذلك أفتوا بخمس وخمسين سنة وهو أعدل الأقوال، فإن رأت بعد ذلك دمًا هل يكون حيضًا؟ على هذه الرواية اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يكون حيضًا ولا يبطل به الاعتداد بالأشهر لأن الحكم بالإياس بعد خمسين سنة وأشباه ذلك كان بالاجتهاد. والدم حيض بالنص وإذا رأت الدم فقد وجد النص بخلاف الاجتهاد فيبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد، وهذا القائل يقول: الدم المرئي بعد هذه المدة إنما يكون حيضًا إذا كان أحمر أو أسود، فإذا كان أخضر أو أصفر لا يكون لأن كون هذا المرئي حيضًا ثبت بالاجتهاد فلا يبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد فعلى قول هذا القائل يبطل الاعتداد بالأشهر. ويظهر فساد الأنكحة وقال بعضهم: إن كان القاضي قضى بجواز ذلك النكاح ثم رأت الدم لا يقضى بفساد ذلك النكاح.
وطرق القضاء أن يدعي أحد الزوجين فساد النكاح بسبب قيام العدة فيقضي القاضي بجوازه وبانقضاء العدة بالأشهر، وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يفتي بأنها لو رأت الدم بعد ذلك على أي صفة رأت يكون حيضًا ويفتي ببطلان الاعتداد بالأشهر إن كانت رأت الدم قبل تمام الاعتداد بالأشهر ولا يفتي ببطلان الاعتدال بالأشهر ولا بفساد النكاح إن كانت رأت الدم بعد تمام الاعتداد بالأشهر قضى القاضي بجواز ذلك النكاح أو لم يقض.
ومن جملة ذلك ما رأته المرأة على غير ألوان الدم، وعند ذلك يحتاج إلى معرفة ألوان الدم: ما تراه المرأة في حالة الحيض من الدماء ستة: بعضها على الوفاق وبعضها على الخلاف. أما الذين على الوفاق إنهم قالوا: السواد والحمرة والصفرة حيض، وهذا لأن الأصل بالدم الحمرة، إلا أن غلبة السواد انصرف إلى السواد، وعند غلبة الصفرة انصرف إلى الصفرة. فأما الذات واحد.
وكان الشيخ الإمام الزاهد الماتريدي رحمه الله مرة يقول في الصفرة إذا رأتها ابتداء في زمان الحيض: إنها حيض، فأما إذا رأتها في زمان الطهر واتصل ذلك بزمان الحيض فإنها لا تكون حيضًا، ومرة يقول: إذا اعتادت المرأة أن ترى أيام الطهر صفرة وأيام الحيض حمرة فحكم صفرتها يكون حكم الطهر حتى لو امتدت هي بها لم يحكم لها بالحيض في شيء من هذه الصفرة لأن الحال دل على أن طهرها بهذه الصفة فقيل يحتمل أنه اعتبر ذلك في صفرة يغلب على لونها البياض وحكمها حكم الطهر على قول أكثر المشايخ.
ثم إن بعض مشايخنا... بصفرة القز، وبعضهم بصفرة التين وبعضهم بصفرة السّبر وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: أن يعتبر فيه أدنى ما ينطلق عليه اسم الصفر، وهذا كله في المرأة إذا كانت في ذوات الأقراء، فأما إذا كانت آيسة وحكم بإياسها ثم رأت شيئًا قليلًا يباشر الصفرة لا يكون حيضًا لأن ذلك أثر البول فلا يبطل به حكم الإياس وأما الذي على الخلاف فمن جملتها الكدرة وهي كالماء الكدر فإنها حيض عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تقدمت على الدم أو تأخرت عنها، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن تقدمت على الدم لا يكون حيضًا وإن تأخرت يكون حيضًا.
ثم اختلف المشايخ على قوله في الكدرة المتأخرة على الدم أنها متى تصير حيضًا، والصحيح: ما ذكره أبو علي الدقاق رحمه الله أن ما دون خمسة عشر يومًا لا يفصل بينها وبين الدم كما لا يفصل هو بين الدمين.
ومن جملة ذلك: الخضرة، وقد أنكر بعض مشايخنا وجودها حتى محمد بن محمد بن سلام البلخي رحمه الله حين سئل عن الخضرة كأنها أكلت قصيلًا على سبيل الاستبعاد. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله إنها كالكدرة. والخلاف فيهما واحد، وعنه أيضًا أنها حيض من غير ذكر الخلاف. قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمة الله عليه: والذي عليه عامة المشايخ أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء فالخضرة منها حيض، وإن كانت كبيرة يعني آيسة ولا ترى عندها الخضرة لا يكون حيضًا، ويحمل هذا على فساد المنبت، والأول على فساد الغذاء.
ومن جملة ذلك التُرْبِيَّة وقال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: من الناس من يخفق هذه اللفظة، ومنهم من يشددها، وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني يقول: التُرْبِيَّة ليست بشيء. ويقول قيل لأن موضع الفرج إذا اشتدت فيه الحرارة يخرج منه ماء رقيق فهو التُرْبِيَّة، وقيل: هي بين الكدرة والصفرة وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يقول: هي على لون التربة مشتقة منها، وقيل: هي التربة بزيادة الياء مستوية إلى التراب وهي التي على لون التراب، وعامة المشايخ على أنها حيض، فقد صح عن أم عطية رضي الله عنها وقد كانت غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثنتي عشر غزوة أنها قالت كنّا نعد التربية والخضرة حيضًا.
والأصل فيه قول الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} [البقرة: 222] وجميع هذه الألوان هي في معنى الأذى على السواء وقد صح أن النساء كن يبعثن بالكراسف إلى عائشة رضي الله عنها فكانت تنظر إليها وتقول: لا حتى ترين القصة البيضاء. جعلت ما سوى القصة البيضاء حيضًا قيل: هي شيء كالخيط الأبيض فالقصة الحيض ومنه النهي عن تفصيص القبور، أي عن لا تجصيصها فإنما يعتبر اللون على الكرسف حتى يرفع وهو طري لا حين يجف لأنه قد يتغير بالجفاف.

.نوع آخر في بيان أنه متى يثبت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة:

يجب أن يعلم بأن حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بخروج الدم، وظهوره هذا هو مذهب أصحابنا وعليه عامة مشايخنا، وعن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أن حكم الحيض والنفاس يثبت في حقها إذا أحسّت بالنزول وإن لم يظهر ولم يخرج ولا يثبت حكم الاستحاضة في حقها إلا بالظهور.
وأشار إلى الفرق فقال: للحيض والنفاس وقت معلوم، فجاز أن يثبت حكمها باعتبار وقتها إذا أحست بالنزول فأما الاستحاضة فليس لها وقت معلوم، وهي حدث كسائر الأحداث، فلا يثبت حكمه بالظهور، والفتوى على (ظاهر الرواية) فقد صح أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها بأن فلانة تدعو المصباح ليلًا لتنظر إلى نفسها، فقالت «عائشة ما كانت إحدانا تكلف لذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولكنها تعرف ذلك بالمسّ»، وذلك منها إشارة إلى الظهور ولأنه ما لم يظهر فهو في معدنه والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم، وإنما يعطى الحكم له إذا ظهر ويستوي في جميع ما ذكرنا من دم الحيض والنفاس والاستحاضة أن تكون كثيرًا سائلًا أو قليلًا غير سائل.
ولكن لابد من معرفة الخروج والنزول ولابد لمعرفة ذلك من معرفة مقدمة أخرى وبيانها: أن للمرأة فرجان فرج ظاهر وفرج باطن على صورة الفم وللفم شفتان وأسنان وجوف الفم.
فالفرج الظاهر بمنزلة ما بين الشفتين والأسنان، وموضع البكارة بمنزلة اللسان، الأليتان بمنزلة الشفتين والفرج الباطن بمنزلة المأكل ما بين الأسنان وجوف الفم. وحكم الفرج الباطن حكم قصبة الذكر لا يعطى للخارج إليه حكم الخروج والفرج الظاهر بمنزلة القلفة يعطى للخارج إليه حكم الخروج.
وإذا وضعت المرأة الكرسف في الفرج الخارج وابتل الجانب الداخل منه دون الجانب الخارج فإن ذلك يكون حيضًا لأنه صار ظاهرًا وإن وضعته في الفرج الداخل وابتل الجانب الداخل منه دون الجانب الخارج لا يكون حيضًا، وإن نفذت البلة إلى الجانب الخارج فإن كان الكرسف غالبًا عن جزء الفرج الداخل وإن كان محاذيًا له فذلك حيض. وإن كان الكرسف متسفلًا متجانبًا عنه فذلك ليس بحيض.
وعلى هذا: الرجل إذا حشا إحليله فابتل الجانب الداخل دون الجانب الخارج لا ينتقض وضوءه وإن ابتل الجانب الخارج فكذلك إذا كانت القطنة متسفلة عن رأس الإحليل متجافية عنه، وإن كانت القطنة غالبة على رأس الإحليل أو محاذية له ينتقض وضوءه، وهذا كله إذا لم تسقط القطنة أو الكرسف، فأما إذا سقط وقد ابتلّ الجانب الداخل كان حيضًا، وينتقض وضوءه نفذت البلة إلى الجانب الخارج أو لم تنفذ.
وذكر الشيخ الإمام الأجل أبو الفضل الكرماني رحمه الله في (شرح كتاب الحيض) أن الدم إذا نزل من الرحم إلى الفرج، فإن خرج فهو حيض وإلا فلا عند أبي حنيفة رحمه الله استدلالًا بقصبة الذكر إذا نزل إليها البول، فإن ظهر على رأس الإحليل ينتقض وضوءه وما لا فلا. وقال محمد رحمه الله هو حيض وإن لم يخرج استدلالًا بقصبة الأنف إذا أنزل إليها الدم فإنه ينتقض وضوءه، وإن لم يخرج ولم يفصل بين الفرج الداخل والخارج وإنه مشكل، لأنه إن أراد بقوله نزل الدم من الرحم إلى الفرج الداخل، فذلك ليس بحيض بلا خلاف إلا رواية عن محمد رحمه الله في غير (الأصول) وإن أراد به الفرج الخارج فذلك حيض بلا خلاف.
ومما يتصل بهذا النوع من المسائل أن اتخاذ الكرسف سنّة عند الحيض، الثيّبْ يستحب لها اتخاذ الكرسف بكل حال لأنها لا تأمن خروج شيء منها فيحتاط في ذلك خصُوصًا في حالة الصلاة. وأما البكر فيستحب لها وضع الكرسف في حالة الحيض فلا يستحب لها ذلك في غير حالة الحيض. والطاهر إذا صلّت بغير كرسف وأمنت أن يخرج منها شيء جازت صلاتها، والأحسن أن تضع الكرسف. وعن محمد بن سلمة البلخي رحمه الله أنه يكره للمرأة أن تضع الكرسف في الفرج الداخل، قال: لأن ذلك يشبه النكاح بيدها.
وإذا وضعت الكرسف في أول الليل وهي حائض ونامت فنظرت إلى الكرسف حتى أصبحت رأت البياض الخالص فعليها قضاء العشاء للتيقن بطهرها من حين وضعت الكرسف ولو كانت هي طاهرة حين وضعت الكرسف ونامت ثم انتبهت بعد طلوع الفجر فوجدت البلة على الكرسف فإنها تجعل كأنها رأت الدم في آخر يومها حتى لا يسقط عنها العشاء احتياطًا، وكذلك حكم النفاس وانقطاعه.

.نوع آخر في الأحكام التي تتعلق بالحيض يجب أن يعلم بأن الأحكام:

فمنها: أنها لا تصوم ولا تصلي قال عليه السلام: «تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي» والمراد منه: زمان الحيض.
ومنها أنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وقالت عائشة رضي الله عنها: كنا على عهد رسول الله نقضي صيام أيام الحيض ولا نقضي الصلاة.
ومنها: أن لا يأتيها زوجها. قال تعالى: {فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].
ومنها: أن لا تمس المصحف ولا الدرهم المكتوب عليه آية تامة من القرآن ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن لقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كتب إلى بعض القبائل: «لا يمس مصحف القرآن حائض ولا جنب».
وهل يكره لها مس المصحف بكمها أو ذيلها؟ قال بعض مشايخنا: يكره لأن الكم والذيل تبع لها. ألا ترى لو حلف لا يجلس على الأرض فجلس عليها مفترشًا ثوبه يحنث في يمينه، وجعل ثوبه تبعًا له حتى لم يعتبر حائلًا. وعامتهم على أنه لا يكره لأن المحرّم هو المس وإنه اسم للمباشرة باليد من غير حائل. ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في ردغة حلّ للأجنبي أن يأخذ بيدها بحائل ثوب، وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمسّ بحائل بخلاف مسألة اليمين لأن مبنى الأيمان على العرف والجالس على الأرض بثوبه يعد جالسًا على الأرض عرفًا وعادة.
ولا بأس لها بأن تمس المصحف بغلاف، والغلاف هو الجلد الذي عليه في أصح القولين. وقيل: هو المنفصل كالخريطة ونحوها لأن المتصل بالمصحف من المصحف. ألا ترى أنه يدخل في بيع المصحف من غير ذكر، وهو نظير الاختلاف في المس بالكم.
ولا بأس لها بكتابة القرآن عند أبي يوسف رحمه الله إذا كانت الصحيفة على الأرض لأنها لا تحمل المصحف، والكتابة تقع حرفًا حرفًا وليس الحرف الواحد بقرآن، وقال محمد رحمه الله أحب إليّ أن لا تكتب لأنه في حكم المساس للحروف وهي بكليتها قرآن.
ومنها أن لا تقرأ القرآن عندنا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان «نهى الحائض والجنب عن قراءة القرآن» والآية وما دونها في تحريم القراءة سواء. هكذا ذكر الكرخي رحمه الله في كتابه لأنه قرآن فتمنع الحائض من قراءة كالآية التامة، وقيد الطحاوي القراءة بآية تامة لأنه تعلق بقراءة القرآن حكمان: جواز الصلاة وحرمة القراءة على الحائض والجنب. ثم فصّل في حق جواز الصلاة من بين الآية التامة وما دونها فكذا في حق حرمة القراءة على الحائض وهذا إذا قصدت القراءة.
فإن لم تقصدها نحو أن تقرأ الحمد لله رب العالمين شكرًا للنعمة فلا بأس به، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في مختصر كتاب الحيض أن الآية إذا كانت طويلة فقرأتها حرام عليها، وإن كانت قصيرة إن كانت تجري على (اللسان عند) عن الكلام كقوله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين يحرم أيضًا، وإن كانت لا تجزئ على اللسان عند الكلام كقوله: {ثم نظر} [المدثر: 21]، كقوله: {لم يولد} [الإخلاص: 3] فلا بأس به، وإذا حاضت المعلمة فينبغي لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخي رحمه الله، وعلى قول الطحاوي تعلم نصف آية وتقطع ثم تعلم نصف آية.
ولا يكره لها التهجي بالقرآن وكذا لا يكره لها قراءة دعاء القنوت «اللهم إنا نستعينك».
ومنها: أن لا تدخل المسجد قال عليه السلام: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب». ولأن ما بها من الأذى فوق الجنابة لتمكنها من إزالة أذى الجنابة دون أذى الحيض، ثم الجنابة تمنعها عن دخول المسجد فالحيض أولى.
ومنها: أنها لا تطوف بالبيت للحج والعمرة لأن البيت في المسجد وقد منعت عن الدخول في المسجد وقد صح أن رسول الله عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت بسرف: «اصنعي جميع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» مع هذا لو طافت بالبيت تحللت.
ومنها: أن يلزمها الاغتسال عند انقطاع الدم.
ومنها: أن يتقدر الاستبراء قال صلى الله عليه وسلّم «لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن ولا الحيالى حتى يستبرئن بحيضة».
ومنها: أن تنقضي بها العدة قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء} [البقرة: 288] وهي عبارة عن الحيض. وإذا مضت مدة الحيض وهي أكثر المدة عشرة أيام يحكم بطهارتها انقطع الدم أو لا، اغتسلت أو لم تغتسل مبتدأة كانت أو معتادة. ولا تؤخر الاغتسال لوقوع التيقن بخروجها من الحيض، لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام، وتنقطع الرجعة ويحل لها التزوج بزوج آخر، ولكن لا يستحب لها ذلك، ويحل للزوج قربانها ولكن لا يستحب له ذلك، وهي بمنزلة الجنب ما لم تغتسل.
وإن انقطع دمها فيما دون العشرة إن كانت مبتدأة ومضى عليها ثلاثة أيام فصاعدًا أو كانت معتادة وانقطع الدم على عادتها أو فوق عادتها، أخرّت الغسل إلى آخر وقت الصلاة فإذا خافت فوت الصلاة اغتسلت وصلّت، وإنما أخرت الاغتسال والصلاة احتياطًا لاحتمال أن يعاودها الدم في العشرة، وليس في هذا التأخير تفويت، شيء، وإنما تؤخر الاغتسال والصلاة إلى آخر الوقت المستحب دون الوقت المكروه، فإذا اغتسلت حكم بطهارتها في حق جميع الأحكام التي ذكرنا حتى حلّ قربانها، وكذلك لو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة.
ولو كانت مسافرة فتيمّمت، أو كانت في الحضر وتيممت لمكان المرض إن صلّت أو مضى عليها أدنى وقت الصلاة فكذلك، وإن لم تصل ولم يمض عليها أدنى وقت الصلاة لا يحل للزوج قربانها، ولا يحل لها التزوج بزوج آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما. وإن كانت معتادة وانقطع الدم فيما دون العادة ولكن بعدما مضى ثلاثة أيام واغتسلت أو مضى عليها الوقت كره للزوج قربانها، وكره لها التزوج بزوج آخر حتى تأتي عادتها وتغتسل وتصوم وتصلي في هذه الأيام، ولو كانت أيامها دون العشرة فانقطع الدم دون عادتها أخرت الاغتسال إلى آخر الوقت أيضًا.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: تأخر الاغتسال في هذه الصورة على طريق الاستحباب دون الإيجاب، وفيما إذا انقطع الدم فيما دون عادتها وباقي المسألة بحالها فتأخر الاغتسال بطريق الإيجاب. ولو كان حيضها عشرة أيام فحاضت ثلاثة أيام وطهرت ستة لا يحل للزوج قربانها عند أبي يوسف رحمه الله لأن احتمال بأن يصير الكل حيضًا قائم بأن رأت الدم في اليوم العاشر أو تمام اليوم العاشر ساعة وعلى هذا القياس تخرج جنس هذه المسائل والله أعلم.

.فرع:

إذا عاودها في العشرة بطل الحكم بطهارتها مبتدأة كانت أو معتادة وكأنها لم تطهر أصلًا عند أبي يوسف رحمه الله، لأن الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر لا يكون فاصلًا عنده ويكون كالدم المتوالي، وهذا الذي ذكرنا إذا عاودها الدم في العشرة ولم يزد على العشرة وطهرت بعد ذلك طهرًا صحيحًا خمسة عشر يومًا، ويكون جميع ذلك حيضًا.
أما إذا زاد على العشرة أو لم يزد لكن انتقص الطهر بعد ذلك عن خمسة عشر، ففي المبتدأة العشرة حيض، وفي المعتادة أيامها المعتادة حيض لأنه صار كالدم المتوالي، وفي الدم المتوالي الجواب على نحو ما ذكرنا.
وإن انقطع الدم بعدما رأت يومين وهي مبتدأة أو معتادة أخرت الصلاة إلى آخر الوقت، فإذا خافت الفوت توضأت وصلّت، وليس عليها مراعاة الترتيب صلّت في أول الوقت أو في آخر الوقت، وإن انقطع الدم بعدما رأت يومًا أو أقل وتوضأت؛ فإن أرادت أن تصلي في أول الوقت فعليها مراعاة الترتيب بقضاء الفوائت أولًا.
وإن كانت معتادة وعادتها في أيام حيضها أنها ترى يومًا دمًا ويومًا طهرًا هكذا إلى العشرة، فإن رأت الدم في اليوم الأول تترك الصوم والصلاة، وإن طهرت في اليوم الثاني تتوضأ وتصلي، فإن رأت الدم في اليوم الثالث فإنها تترك الصلاة والصوم لأنه تبين أنه حيض فإذا طهرت في اليوم الرابع تغتسل وتصلي هكذا تفعل إلى العشرة والله أعلم.

.نوع آخر من هذا الفصل:

مراهقة رأت الدم تركت الصلاة كما رأته وهو اختيار الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير والفقيه محمد بن إبراهيم الميداني والفقيه محمد بن سلمة البلخي رحمهم الله، وعن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول أنها لا تترك الصلاة ما لم يستمر بها الدم ثلاثة أيام، وبه كان يقول بشر بن غياث المريسي وجه هذا القول: أنها على يقين بالطهارة وفي شك من الحيض لجواز أن ينقطع الدم فيما دون الثلاث، ولا يُزال اليقين بالشك فلا تترك الصلاة والصوم برؤيتها الدم، فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فصاعدًا إلى عشرة تبين أنها كانت حيضًا فلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلوات. وجه القول: أن الله تعالى وصف الحيض بكونه أذىً قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة 222] وقد رأته المرأة في وقته فتعلق به حكمه.
وإنما يخرج المرئي من أن يكون حيضًا بالانقطاع فيما دون الثلاث، وفي ذلك شك، فإن انقطع دمها على رأس العشرة، فالعشرة كلها حيض، وإن جاوز العشرة، فالعشرة من أول ما رأت حيض، وباقي الشهر يكون طهرًا، لما ذكرنا أن الحيض لا يزيد على العشرة والشهر يشتمل على الحيض والطهر عادة، فإذا جعلت العشرة من أول ما رأت حيضًا كان باقي الشهر طهرًا ضرورة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تأخذ بالاحتياط فتغتسل بعد ثلاثة أيام ثم تصوم وتصلي سبعة أيام بالشك ولا يقربها زوجها ثم تغتسل هي بعد تمام العشرة وتقضي صيام الأيام السبعة لكن الاحتياط في باب العبادة واجب، ومن الجائز أن حيضها كان أقل الحيض فيحتاط لهذا، ولكن هذا ضعيف لأنا عرفنا هذه المرأة حائضًا، ودليل كونها حائضًا ظاهر هو سيلان الدم فلا معنى للاحتياط، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يقدر حيضها بحيض نساء عشيرتها وهو ضعيف لأنها تختلف باختلاف الطبائع والأغذية.

.فرع:

في دائرة هذا الفصل الأصل عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة آخرًا أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يومًا لا يفصل بين الدمين ويجعل الكل كالدم المتوالي. وإذا كان خمسة عشر أو أكثر يعتبر فاصلًا ثم ينظر إلى الدمين إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضًا يجعل ذلك حيضًا.
ومن أصله أيضًا إذا أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضًا يجعل كل واحد منهما حيضًا. ومن أصله أنه يبتدأ الحيض بالطهر ويختمها بالطهر وإن كان قبل البداية وبعد الختم دم. وجه قوله في ذلك: بأن طهر ما دون خمسة عشر يومًا طهرٌ فاسدٌ فلا يتعلق به حكم الطهر الصحيح ولا يفصل بين الدمين، فمن حكم الطهر الصحيح، بيان قوله في أن طهر ما دون خمسة عشر لا يفصل بين الدمين في المبتدأة، أما إذا رأت يومًا دمًا وأربعة عشر يومًا طهرًا ويومًا دمًا فالعشرة من أول ما رأت حيض بحكم بلوغها به، وكذلك إذا رأت يومًا دمًا وتسعة طهرًا أو يومًا دمًا وتسعة طهرًا أو يومين دمًا في المعتادة فمعروفها حيض وما زاد على ذلك استحاضة.
وبيان قوله في ابتداء الحيض بالطهر وفي ختمه بالطهر يشرط بأن يكون قبل البداية وبعد الختم دم في المرأة إذا كانت عادتها في الحيض في كل شهر خمسة، فرأت قبل أيامها يومًا دمًا ثم طهرت خمستها ثم رأت يومًا دمًا، فعنده خمسها حيض لإحاطة الدمين بها، ويقع الختم والابتداء هاهنا بالطهر، وفي المبتدأة لا يتصور الابتداء إلا بالدم، وكذلك لو رأت قبل خمستها يومًا دمًا ثم طهرت أول يوم من خمستها ثم رأت ثلاثة دمًا ثم طهرت آخر يوم من خمستها ثم استمر بها الدم فحيضها خمستها عنده وإن كان ابتداء الخمسة وختمها بالطهر لوجود الدم قبلها وبعدها.
وبعض مشايخنا أخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله، وبه كان يفتي القاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله وكان يقول: قول أبي يوسف أيسر وأسهل على النساء وعلى المفتي، ولا حرج في ديننا فكان الأخذ بقوله أولى، وعليه استقر رأي الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله وبه يفتي، والأصل عند محمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وعليه فتوى كثير من المشايخ أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يصير فاصلًا بين الدمين ويجعل ذلك كله كالدم المتوالي.
وإن كان ثلاثة أيام فصاعدًا إن كان الطهر مثل الدمين أو أقل من الدمين لا يعتبر فاصلًا أيضًا، ويجعل ذلك كله بمنزلة الدم المتوالي لأن الثلاثة من الدم نصاب شرعي، ألا ترى أنه يصلح لنصب العادة والثلاثة من الطهر نصاب ضروري، ألا ترى أنه لا يصلح لنصب العادة، فكان اعتبار النصاب الشرعي عند الاستواء أولى من اعتبار النصاب الضروري ولأن المرأة لا تخلو في زمان الحيض عن طهر قليل غالبًا، فلو اعتبر هو فاصلًا لا يتصور وجود الحيض أصلًا أما (لا) تخلو هي في زمان الحيض عن طهر كثير غالبًا. فلو اعتبر هو فاصلًا يتصور معه وجود الحيض فأصبح ثلاثًا الحد الفاصل بين القليل والكثير فقدر الكثير بثلاثة أيام لأن الكثيرة ثبت بالجمع، وأقل الجمع المتيقن عليه ثلاثة إلا إذا كان أقل من الدمين لا يعتبر فاصلًا، وإن كان الطهر ثلاثة فصاعدًا لأن الطهر مغلوب، والمغلوب ساقط الاعتبار شرعًا بمقابلة الغالب ولأن من عادة النساء غلبة دمهن على الطهر في زمان الحيض، فلو اعتبر الطهر فاصلًا حال غلبة الدم لا يتصور وجود الحيض أصلًا، وكذلك إذا كان الطهر مثل الدمين لا يعتبر هو فاصلًا أيضًا لأن الدم يتناول الطهر في العدد فيجعل الدم راجحًا لكونه مرئيًا في وقته، وكون الطهر مرئيًا في غير وقته والوقت وقت الحيض لا وقت الطهر ولأن الدم يحرم عليها أداء الصلاة والطهر يبيح لها أداء الصلاة والمبيح مع المحرم إذا اجتمعا كانت العبرة للمحرم فصار الدم في حكم الغالب، فسقط اعتبار الطهر بمقابلته فلم يصح الفصل بين الدمين.
وأما الطهر إذا كان أكثر من الدمين فيصير فاصلًا لأن الطهر غالب على الدم، والعبرة للغالب، وليس من عادة النساء غلبة الطهر على الدم في زمان الحيض فلو اعتبر الطهر فاصلًا والحالة هذه لا يؤدي إلى أن لا يتصور الحيض فجعل حاصلًا، ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدمين بانفراده حيضًا يجعل ذلك حيضًا وهذا ظاهر، وإن أمكن اعتبارهما حيضًا يجعل المتقدم حيضًا لأنهما استويا في إمكان الاعتبار ويترجح السابق منهما بقوة السبق.
وإذا اعتبر المتقدم حيضًا لا يعتبر المتأخر حيضًا معه لأنه لابد من وجود طهر تام بين الحيضتين وأقله خمسة عشر يومًا ولم يوجد.

.نوع آخر من الجنس:

اختلف المشايخ فيه على قول محمد رحمه الله أنه إذا اجتمع طهران معتبران يفتى به أن كل واحد منهما يصلح للفصل بين الدمين، وصار أحدهما لإحاطة لدمين بطرفيه واستوائه، فالطهر كالدم المتوالي هل يتعدى حكمه إلى الطهر الآخر؟ قال أبو زيد الكبير وأبو علي الدقاق: بأنه يتعدى. وقال الفقيه أبو سهل الغزالي: لا يتعدى.
صورة المسألة: مبتدأة رأت يومين دمًا وثلاثة طهرًا ويومًا دمًا وثلاثة طهرًا ويومًا دمًا فالسنة الأولى حيض بلا خلاف لاستواء الدم والطهر فيها، والأربعة بعدها حيض عند أبي زيد الكبير لأن الأولى صارت كالدم المتوالي فصار كأنها رأت ستة دمًا وثلاثة طهرًا ويومًا دمًا، وعند أبي سهل: حيضها الستة الأولى، فأما الأربعة بعدها لا تكون حيضًا.
وجه قول أبي زيد وأبي علي الدقاق: وهو أن الطهر الأول صار مغلوبًا بالدم لما عرف، والمغلوب في حكم المعدوم فصار من حيث الحكم كأنه لم يوجد ورأت كل الستة حيضًا ولو رأت كذلك وباقي المسألة بحالها كانت العشرة حيضًا بالإجماع، وكذا هذا.
وجه قول أبي سهيل وهو أن طهر ثلاثة أيام سقط اعتباره لإحاطة الدم بطرفيه واستوائه بالدم، فيعتبر هو حيضًا في حق نفسه، ولا يصير هو حيضًا في حق غيره لأن ما صار حيضًا تبعًا لغيره لا يصير غيره حيضًا تبعًا له.
قال مشايخنا رحمهم الله؛ والأول هو الأصح لأنهم أجمعوا أن المرأة إذا رأت يومًا دمًا ويومين طهرًا أو يومًا دمًا وخمسة طهرًا ويومًا دمًا كانت العشرة حيضًا، ولم يقل أحد إن طهر يومين لما صيّر حيضًا تبعًا لغيره لا يصير غيره حيضًا تبعًا له، وكذلك لو رأت يومًا دمًا وثلاثة طهرًا ويومين دمًا وثلاثة طهرًا ويومًا دمًا فالستة الأولى حيض بالإجماع، وفي الأربعة الأخيرة خلاف.
فإن رأت يومًا دمًا وثلاثة طهرًا ويومًا دمًا وثلاثة طهرًا ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق يجر يومان من أول الاستمرار إلى ما سبق، فتكون العشرة كلها حيضًا عند محمد رحمه الله، وعلى قول أبي سهيل حيضها عشرة بعد اليوم والثلاثة الأولى، فيكون ستة من أول الاستمرار حيضًا عنده.
ولو رأت يومين دمًا وثلاثة طهرًا ويومًا دمًا وثلاثة طهرًا ثم استمر بها الدم، فعند أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق حيضها عشرة من أول ما رأت فيكون أول يوم من الاستمرار من جملة حيضها تتم به العشرة لأن الستة الأولى صارت كدم الاستمرار لاستواء الدم والطهر فيها فيتعدى حكمها إلى الطهر الآخر، وعند أبي سهيل: حيضها ستة من أول ما رأت ولا يكون شيء من أول الاستمرار حيضًا لها فتصلي إلى موضع حيضها الثاني لأنه لا يتعدى عنده حكم الستة إلى الطهر الآخر إن صارت هي كالدم المتوالي.
في الأوقات الساعات وآخر النهار.

.نوع آخر:

هذا النوع لا يتأتى على قول أبي يوسف رحمه الله، وإنما يتأتى على قول محمد رحمه الله فنقول: يجب أن يعلم بأن الوقت الواحد لا يتكرر وجوده في يوم واحد: كطلوع الفجر وطلوع الشمس، فإذا كان ابتداء الوقت من عند طلوع الشمس فتمام اليوم والليلة يكون قبيل طلوع الشمس من الغد لأن قبل اسم الوقت يتصل به الوقت المذكور بخلاف قبيل. وبيانه فيمن قال لامرأته وقت الضحوة: أنت طالق قبل غروب الشمس طلقت قبل غروب الشمس، طلقت في الحال. ولو قال: قبيل غروب الشمس لا تطلق حتى تغرب الشمس. فإذا عرفت هذا وسئلت عن امرأة رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع دمها ثم رأت الدم قبل طلوع الشمس من اليوم الرابع فقل: إن الثلاثة كلها حيض لأن الكل ثلاثة أيام، وقد رأت الدم فيها في جزأين فنقص الطهر عن ثلاثة أيام فلم يفصل وجعل الكل كالدم المتوالي.
وكذلك لو رأت الدم في اليوم الرابع عند طلوع الشمس فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام غير ساعة فيجعل كالدم المتوالي. وإن رأت الدم في اليوم الرابع عند طلوع الشمس لم يكن شيء من ذلك حيضًا لأنه ختم المدة بقبيل طلوع الشمس من اليوم الرابع، فإذا ضمت إلى ذلك وقت الطلوع وبعد الطلوع صار ثلاثة أيام وساعتين، والدم وجد في ساعتين فيبقى الطهر المتخلل ثلاثة أيام فصار فاصلًا، فلهذا لم يجعل شيء من ذلك حيضًا.
فإن رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأته من اليوم الرابع عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأته من الغد من اليوم السابع بعد طلوع الشمس فالكل حيض لأن الطهر الأول لما قصر عن الثلاث صار كالدم المتوالي فصار الدم غالبًا حكمًا. وإن رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأت في اليوم الرابع قبل طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأت الدم في اليوم السابع بعد طلوع الشمس ثم رأت الدم في العاشر بعد طلوع الشمس. فعند أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق: الكل حيض على قول محمد رحمه الله لأن الطهر الأول لقصوره عن الثلاث فصار كالدم المتوالي، وصار الطهر الباقي مغلوبًا به فيتعدى أثره إلى الطهر الثالث.
وعلى قول أبي سهل: الأحوال الستة الأولى حيض وما بعدها ليس بحيض لأن الطهر الثاني ثلاثة أيام، وهو وإن صار مغلوبًا بالدم إلا أنه لا يتعدى أثره إلى الطهر الثالث على ما مرّ قبل هذا.
جئنا إلى بيان الساعة فنقول: الساعة اسم الوقت ممتد على ما يقوله المنجمون فيحتمل اليوم والليلة عندهم على أربعة وعشرين ساعة، فتارة ينتقص الليل حتى يكون تسع ساعات ويزداد النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة، وتارة ينتقص النهار حتى يكون تسع ساعات ويزداد الليل حتى يكون خمس عشرة ساعة. وهذا أمر حقيقي إلا أنها إذا أطلقت يراد بها في عرف لسان الفقهاء جزءًا من النهار.
فإذا عرفت هذا وسئلت عن مبتدأة رأت ساعة دمًا وثلاثة أيام غير ساعتين طهرًا وساعة دمًا (فقل) إن الكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام فكان الطهر دون الثلاث فصار كالدم المتوالي.
وإن رأت ساعة دمًا وثلاثة أيام غير ثلاث ساعات طهرًا وساعة دمًا لم يكن شيء من ذلك حيضًا لأن الكل دون ثلاثة أيام إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه يقيم الأكثر من اليوم الثالث في رؤية الدم مقام كله، إن رأت ساعة دمًا وثلاثة أيام غير ساعة طهرًا وساعة دمًا فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام وساعة وقد رأت الدم في ساعتين فيقصر الطهر عن ثلاثة أيام فكان كالدم المتوالي.
وإن رأت ساعة دمًا وثلاثة أيام طهرًا وساعة دمًا لم يكن شيء من ذلك حيضًا عند محمد رحمه الله لأن الطهر ثلاثة أيام.
تفصيل: وإن رأت ساعة دمًا وثلاثة أيام غير ساعة طهرًا وساعة دمًا وثلاثة أيام طهرًا وساعة دمًا وثلاثة أيام طهرًا وساعة دمًا، فعلى قول أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق رحمهما الله: الكل حيض لأن الطهر الأول لقصوره عن الثالث صار كالدم المتوالي فصار الطهر الثاني مغلوبًا بالدم فيتعدى أثره إلى الطهر الثالث وعلى قول أبي سهل: حيضها ستة أيام وساعة من أول ما رأت لأن الطهر الثاني كامل، وهو وإن صار مغلوبًا إلا أنه لا يتعدى أثره إلى الطهر الثالث وأما آخر النهار فيحسب ما تذكر من ربع أو وثلث أو غيره.
فإذا سئلت عن مبتدأة رأت ربع يوم دمًا ثم يومين وثلث يوم طهرًا ثم ربع يوم دمًا فقل: لا يكون شيء منه حيضًا لأن الكل دون الثلاث فيقدر بسدس يوم وإن رأت ربع يوم دمًا ثم يومين ونصف يوم طهرًا ثم ربع يوم دمًا فالكل حيض، لأن الكل ثلاثة أيام والطهر فيه قاصر، وإن رأت ربع يوم دمًا وثلاثة أيام طهرًا وربع يوم دمًا لم يكن شيء من ذلك حيضًا لأن الطهر ثلاثة أيام، فيصير فاصلًا عند محمد رحمه الله.
وهذا النوع من المسائل لا يقع غالبًا ولكن وضعت لتشحذ الخاطر.

.فرع:

هو قريب مما تقدم من المسائل مبتدأة رأت يومًا دمًا ويومًا طهرًا واستمر كذلك أشهر، فعلى قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة أخرًا الجواب في جنس هذه المسائل واضح، فإنه يرى بداية الحيض بالطهر وختمه بالطهر فيكون العشرة في أول ما رأت حيضَها، وطهرُها عشرون وذلك دأبها في كل شهر وعليه الفتوى. وأما على قول محمد رحمه الله: حيضها من أول ما رأت تسعة وطهرها أحد وعشرون لأن اليوم العاشر طهر كله، وهو لا يرى ختم الحيض بالطهر.
ويحتاج على قول محمد إلى معرفة ختم العشرة وإلى معرفة ختم الشهر ليتبين به حكم بداية الحيض في الشهر الثاني، ولذلك طريقان. أحدهما: أن الأوتار من أيامها دم والشفوع طهر، واليوم العاشر من الشفوع فعلم أنه كان طهرًا واستقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان في الشهر الأول والثاني، وهو طريق الحساب وعليه تخرج هذه المسائل فنقول في معرفة ختم العشرة اعدد دمًا وطهرًا، وذلك اثنان ونضربه فيما يوافق العشرة وذلك خمسة، واثنان في خمسة فكان آخره طهرًا، وفي معرفة ختم الشهر نأخذ دمًا وطهرًا ونضربه فيما يوافق الشهر، وذلك خمسة عشر فيكون ثلاثين، فيكون آخره طهرًا وكذلك في الشهر الثاني حيضها عند محمد رحمه الله تسعة من أول ما رأت وطهرها أحد وعشرون، فإن رأت يومين دمًا ويومًا طهرًا واستمر كذلك فالعشرة من أولها حيض عند محمد أيضًا لأن ختم العشرة بالدم.
وإذا أردت معرفة في حق العشرة فخذ دمًا وطهرًا وذلك ثلاثة واضربها فيما يقارب العشرة وذلك ثلاثة لأنك لا تجد ما يوافقها وثلاثة في ثلاثة يكون تسعة فآخر المضروب طهر ثم بعده يوم دم فيكون ختم العشرة بالدم.
وإن أردت معرفة ختم الشهر فخذ دمًا (و) طهرًا وذلك ثلاثة واضربه فيما يقارب الشهر وذلك عشرة فيكون ثلاثون وآخر المضروب طهر،أو استقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان لها في الشهر الأول، ويكون دورها في كل شهر عشرة حيضها وعشرون طهرًا.
وكذلك إن رأت يومًا دمًا ويومين طهرًا فهو على هذا التخريج وإن رأت يومين دمًا ويومين طهرًا واستمر كذلك فحيضها عشرة من أول ما رأت عند محمد رحمه الله لأن ختم العشرة بالدم.
وطريق معرفته: أن نأخذ دمًا وطهرًا وذلك أربعة، ونضربه فيما يقارب العشرة، وذلك اثنان فيكون ثمانية، وأحد المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام العشرة، فعلم أن ختم العشرة بالدم فكانت العشرة من أول ما رأت حيضًا.
وإن أردت أن تعرف ختم الشهر فخذ دمًا وطهرًا وذلك أربعة واضربها فيما يقارب الشهر وذلك سبعة فيكون ثمانية وعشرين، وأحد المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام الشهر، واستقبلها في الشهر الثاني يومان طهرًا وبداية الحيض بالطهر لا يكون عند محمد رحمه الله فتصلي في هذين اليومين ثم بعدها يومان دم ويومان طهرًا ويومان دم. فهذه السبعة تكون حيضًا لها في الشهر الثاني لأن ختم العشرة في الشهر الثاني بيومين طهر وهو ما يختتم الحيض بالطهر ثم ينظر إن ختم الشهر الثاني فماذا يكون فتأخذ دمًا وطهرًا وذلك أربعة، ونضربه فيما يوافق الشهرين وذلك خمسة عشرة فيكون ستين وآخر المضروب طهر فتصلي إلى هذا الموضع، واستقبلها في الشهر الثالث يومان دم فكان دورها في كل شهرين في الشهر الأول عشرة حيض واثنان وعشرون طهر وفي الشهر الثاني ستة حيض بعد يومين فصار اثنان وعشرون طهر، وعلى قياس ما قلنا نخرج ما يسأل عن هذا الجنس من المسائل.

.نوع آخر في نصيب عادة المبتدأة:

يجب أن يعلم بأن المبتدأة على وجهين: أما إن ابتدأت وبلغت بالحيض إذا ابتدأت فبلغت بالحبل فنبدأ بما إذا بلغت بالحيض وإنه على وجوه.
أما إن رأت دمًا صحيحًا وطهرًا صحيحًا ثم ابتليت بالاستمرار، وفي (هذا) الوجه يعتبر المرئي عادة لها في زمان الاستمرار لأنه لو لم يعتبر ذلك عادة لها ودت هي إلى العشرة والعشرين ولم تر هي ذلك قط فكان ردها إلى ما كانت رأته مرة أولى، بخلاف صاحبة العادة إذا رأت بخلاف عادتها مرة ثم استمر بها الدم لا تنتقل عادتها إلى المخالف عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن هناك لو لم يعتبر المخالف عادة لها ردت هي إلى أول العادة الأصلية، وذكر مزية مؤكدة بالتكرار أما هاهنا بخلافه، توضيحه أن الحاجة في حق صاحبة العادة إلى فسخ العادة الأولى ونصب العادة الثانية، والشيء إنما ينفسخ بما هو مثله أو فوقه لا ما هو دونه، والثانية ردت الأولى لأن الأولى تأكدت بالتكرار والثانية لم تتأكد أما في حق المبتدأة الحاجة إلى نصب العادة، فلو لم يجعل المرئي مرة واحدة عادة لها يحتاج إلى ردها إلى غير المرئي، ولا شك أن اعتبار المرئي أولى من اعتبار غير المرئي.
ثم تفسير الدم الصحيح أن لا ينتقص عن ثلاثة أيام ولا يزيد على عشرة أيام، ولا يصير مغلوبًا بالطهر.
وتفسير الطهر الصحيح أن لا يكون أقل من خمسة عشر، ولا يصل المرأة فيه شيء من الدم من أوله أو أوسطه أو آخره، وأن يكون بين الحيضتين.
فإذا رأت دمًا صحيحًا وطهرًا صحيحًا مرة واحدة على التفسير الذي قلنا، ثم ابتليت بالاستمرار تجمل أيام حيضها في زمان الاستمرار (ما رأت) من الدم قبل الاستمرار، وأيام طهرها ما رأت من الطهر قبل الاستمرار.
بيان ذلك: مبتدأة رأت خمسة دمًا وعشرين يومًا طهرًا ثم استمر بها الدم أشهرًا فإنها تترك الصلاة من أول الاستمرار خمسة وتصلي عشرين، وذلك دأبها في جميع زمان الاستمرار.
الوجه الثاني: إذا رأت دمًا فاسدًا ثم ابتليت بالاستمرار، وبيان ذلك: مبتدأة رأت أربعة عشر يومًا دمًا وأربعة عشر يومًا طهرًا واستمر بها الدم، فهاهنا الدم والطهر كلاهما فاسدان، الدم للزيادة على العشرة والطهر للنقصان عن خمسة عشر، فيجعل كأنها ابتليت بالاستمرار من الابتداء، فيجعل حيضها عشرة من أول ما رأت: أربعة عشر يومًا دمًا وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها، ومعناه ثمانية عشر إلى زمان الاستمرار فيجعل من أول الاستمرار يومين من طهرها فتصلي في هذين اليومين، ثم تقعد عشرة وتصلي عشرين وذلك دأبها.
وكذلك إذا كان الدم خمسة عشر والطهر أربعة عشر يجعل حيضها عشرة من أول ما رأت خمسة عشر دمًا وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها. ومعناه بتسعة عشر فيجعل من أول الاستمرار يومًا من طهرها فتصلي فيه ثم تقعد عشرة وتصلي عشرين.
وكذلك إذا كان الدم ستة عشر والطهر أربعة عشر يجعل حيضها عشرة من أول ما رأت الدم ستة عشر وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها، ومعناه عشرين فأول الاستمرار في هذه الصورة يوافق ابتداء حيضها، فتدع الصلاة عشرة أيام من أول الاستمرار وتصلي عشرين وذلك دأبها، ثم تسوق المسألة هكذا إلى أن اتفق الدم ثلاثة وعشرون والطهر أربعة عشر ثم استمر بها الدم فإن العشرة من أول ما رأت حيض، وما بعد ذلك ابتداء طهرها سبعة أيام، فمن الأربعة العشر التي هي طهرها تسعة أيام تمام طهرها وسبعة من موضع حيضها الثاني ولم تر فيه شيئًا جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها الثاني ثلاثة أيام والثلاثة حيض كامل، فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين وذلك دأبها.
وإن (رأت) الدم أربعة وعشرون والمسألة بحالها يعني: والطهر أربعة عشر ثم استمر بها الدم فستة من طهر أربعة عشر بقية طهرها.
بقي ثمانية أيام من موضع حيضها الثاني ولم تر فيها دمًا ثم جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها يومان فلا يكون حيضًا، فهذه امرأة لم تر مرة فيصار إلى موضع حيضها الثاني وذلك اثنان وعشرون يومًا من أول الاستمرار ثم تدع الصلاة عشرة وتصلي عشرين، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، ومحمد رحمه الله يقول بالإبدال على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وأبو يوسف رحمه الله يقول بنقل العادة لعدم الرؤية، حتى إن على قوله من هذه الصورة أن المرأة تستأنف الحساب من أول الاستمرار فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة، وتصلي عشرين فتنتقل عادتها من حيث المكان والعدد على حاله وهذا دأب لكل امرأة لم تر (دمًا) في موضع حيضها مرة ثم استمر بها الدم إنها تسأنف الحساب من أول الاستمرار، فيجعل حيضها من أول الاستمرار فينتقل المكان والعدد على حاله.
الوجه الثالث: إذا رأت دمًا فاسدًا وطهرًا صحيحًا من حيث الظاهر، وبيان ذلك: مبتدأة رأت أحد عشر يومًا دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ثم استمر بها الدم، فالدم هاهنا فاسد لكونه زائدًا على العشرة، والطهر الصحيح طاهر لأنه يستكمل خمسة عشر يومًا إلا أنه فسد معنىً بفساد الحيض لأنها صلت في أول يوم منه بالدم، فعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يكون حيضها عشرة من أول ما رأت وطهرها عشرون، كما لو بلغت واستمر بها الدم تيقنًا من طهرها ستة عشر اليوم الحادي عشر من الدم، خمسة عشر بعد ذلك لم تر فيها الدم، جاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أربعة فتصلي أربعة من أول الاستمرار، ثم تدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين، وعلى قول أبي علي الدقاق حيضها عشرة وطهرها ستة عشر وقد مضت ستة عشر يومًا فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة، وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.
فوجه أبي علي الدقاق: أن فساد الدم في اليوم الحادي عشر لم يؤثر في الدم حتى جعلت العشرة عادة لها في الحيض في زمان الاستمرار فكذا لا يؤثر في الطهر لأن المفسد واحد، فإذا لم يؤثر في جنسه لا يؤثر في خلاف جنسه من طريق الأولى. وجه قول محمد بن إبراهيم أن اليوم الحادي عشر من الطهر لا من الحيض، ورؤية الدم العاشر مؤثر في الطهر.
الوجه الرابع: إذا رأت دمًا صحيحًا وطهرًا فاسدًا واستمر بها الدم. بيان ذلك: مبتدأة رأت خمسة أيام دمًا وأربعة عشر يومًا طهرًا ثم استمر بها الدم، فحيضها خمسة وطهرها بقية الشهر خمسة وعشرون. جاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أحد عشر يومًا فتصلي أحد عشر يومًا من أول الاستمرار، ثم تدع الصلاة خمسة وتصلي خمسة وعشرون وذلك دأبها.
الوجه الخامس: إذا رأت دمًا وطهرًا كل واحد منهما صحيح من حيث الظاهر ولكنها يفسدان بطريق الضرورة فلا يصح لنصب العادة.
وبيان ذلك: مبتدأة رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا، ثم يومًا دمًا ثم يومين طهرًا واستمر بها الدم فهاهنا وجد دم صحيح في الظاهر وهي ثلاثة أيام وطهر صحيح في الظاهر وهو خمسة عشر يومًا، ولكنها لما رأت يومًا دمًا بعدها ويومين طهر لا يمكن اعتبار هذه الثلاثة حيض لأن ختمها بالطهر. ومحمد رحمه الله لا يرى ذلك ولا وجه فيه إلى الإبدال لأنه لا يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر يومًا.
ولا يجوز الإبدال في المسألة على ما يأتي بيانه بعد هذا فتصلي في هذه الأيام ضرورة فيفسد به ذلك الطهر لأنها صلت فيه بالدم، ويخرج من أن يكون صالحًا لنصب العادة، فيكون حيضها ثلاثة أيام وطهرها بقية الشهر تسعة وعشرون، وقد مضى منه ثمانية عشر يومًا، فتصلي من أول الاستمرار تسعة أيام ثم تدع الصلاة ثلاثة وتصلي سبعة وعشرين، وهذا الذي ذكرنا قول محمد رحمه الله. فأما على قول أبي يوسف رحمه الله لما رأت بعد طهر خمسة عشر يومًا دمًا ويومين طهرًا، واستمر بها الدم أمكن اعتبار هذه الثلاثة حيضًا لأنه يرى ختم الحيض بالطهر إذا كان بعده دم، فجعلنا تلك الثلاثة حيضًا فلم يفسد بالطهر بل يبقى صحيحًا، فيجعل الطهر عادتها في الدم. فالطهر ما رأت، وقد وافق ابتداء الطهر ابتداء الاستمرار، فتصلي من أول الاستمرار خمسة عشر وتدع الصلاة ثلاثة وذلك دأبها.
ولو رأت في الابتداء أربعة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ثم يومًا دمًا ويومين طهرًا ثم استمر بها الدم، وهاهنا الطهر صحيح صالح لنصب العادة لأن بعده دم يوم وطهر يومين ويوم من أول الاستمرار تمام الأربعة، فابتداء الحيض الثاني وختمه بالدم. فيمكن أن يجعل ذلك حيضًا، فبقي الطهر على الصحة فيصلح لنصب العادة فتدع الصلاة من أول الاستمرار يومًا ثم تصلي خمسة عشر ثم تدع الصلاة أربعة وتصلي خمسة عشر، وذلك دأبها في زمان الاستمرار. وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
فإن رأت الدم عشرة والطهر خمسة عشر ثم استمر بها الدم يومًا، ثم الطهر ثلاثة ثم الدم يومًا، ثم الطهر ثلاثة، ثم استمر بها الدم، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: هذا بمنزلة ما لو رأت الدم عشرة والطهر خمسة عشر، ثم استمر بها الدم فيجعل حيضها من أول الاستمرار عشرة وطهرها خمسة عشر. فأما على قول محمد رحمه الله فقد اختلف أبو زيد الكبير وأبو علي الدقاق وأبو سهل الغزالي رحمهم الله.
قال أبو زيد وأبو علي يجر من أول الاستمرار يومان ويصير إلى ما رأت بعد الخمسة عشر فتصير العشرة بعد الخمسة عشر حيضًا فيصلح البناء عليه فتدع الصلاة من أول الاستمرار يومين ثم تصلي خمسة عشر ثم تقعد عشرة ثم تصلي خمسة عشر، وذلك دأبها، وعلى قول أبي سهيل تقعد من أول الاستمرار سبعة ثم تصلي خمسة عشر ثم تقعد عشرة ثم تصلي عشرين وذلك دأبها.
فإن رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر طهرًا ويومًا دمًا وخمسة عشر طهرًا ثم استمر بها الدم فهذه امرأة رأت دمًا صحيحًا وطهرًا فاسدًا لأن الدم المتخلل بين الطهرين لا يصلح حيضًا لأنه قصر عن ثلاثة أيام فيفسد الطهر لأنه صار مستويًا بدم أمرت بالصلاة فيه فيكون أيام حيضها ما رأت ابتداء وذلك ثلاثة وأيام طهرها بقية الشهر سبعة وعشرون فنقول: موضع حيضها الثاني من ثلاثين إلى ثلاثة وثلاثين، ومن ابتداء ما رأت إلى يوم الاستمرار أربعة وثلاثين فقد مضى أيام حيضها الثاني بكماله ولو لم تر فيها شيئًا، فتنتقل عادتها من حيث المكان، والعدد على حاله عند أبي يوسف رحمه الله فتستأنف الحساب من أول الاستمرار فتقعد ثلاثة وتصلي سبعة وعشرون وذلك دأبها في زمان الاستمرار.
وإن رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ويومًا دمًا وأربعة عشر يومًا طهرًا، ثم استمر بها الدم فهذه امرأة رأت دمًا صحيحًا وطهرًا صحيحًا، لأن الطهر الثاني لما كان أقل من خمسة عشر لم يعتبر، وصار كأنها رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ثم استمر بها الدم فيجعل ذلك عادة لها في زمان الاستمرار. ويجعل بعد طهر خمسة عشر ثلاثة أيام من حيضها، وخمسة عشر من طهرها ومن بعد طهر خمسة عشر إلى يوم الاستمرار خمسة عشر، فجاء الاستمرار وقد بقي من طهرها الثاني ثلاثة: فتصلي من أول الاستمرار ثلاثة أيام بقية طهرها الثاني وتقعد عشرة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، بخلاف ما إذا رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ويومًا دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا، فإن هناك جعلنا حيضها ثلاثة أيام وطهرها بقية الشهرين سبعة وعشرون؛ لأن هناك الطهر الثاني لم يصر كالدم المتوالي لأنه بلغ خمسة عشر وصار فاصلًا بين الدم يوم وبين دم الاستمرار، ودم يوم لا يمكن أن يجعل حيضًا فتصلي فيه، فيفسد الطهر الأول لمكان هذا اليوم لأنه شابه دم أمرت بالصلاة فيه.
أما أن يصير الطهر الثاني كالدم المتوالي فلا. أما هاهنا: الطهر الثاني قصر عن خمسة عشر فصار كالدم المتوالي فلهذا افترقا. والله أعلم.
هذا إذا رأت دمًا وطهرًا، فأما إذا رأت دمًا صحيحًا وأطهارًا ثم استمر بها الدم فإنه على وجوه:
الأول: أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين.
نحو أن ترى ثلاثة دمًا وخمسة عشر طهرًا وثلاثة دمًا وخمسة عشر طهرًا ثم استمر بها الدم. وفي هذا الوجه تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر لأن ما رأت صارت عادة قديمة لها بالتكرار، ولو كانت رأته مرّة واحدة تعتبر عادة لها في زمان الاستمرار، وأراد به مرتين أولى.
الوجه الثاني: إذا رأت يومين دمين مختلفين وطهرين مختلفين، فإن رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا وأربعة دمًا وستة عشر يومًا طهرًا ثم استمر بها الدم فلا رواية في هذا الفصل. وقد اختلف المشايخ فيه، وقال الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تبني ما رأته في المرة الثانية على ما رأته في المرة الأولى. وتفسير ذلك أنها لما رأت أربعة دمًا فثلاثة من ذلك مدة حيضها واليوم الرابع من حساب طهرها إلا أنها تترك الصلاة فيه لرؤية الدم، فلما طهرت ستة عشر فأربعة عشر منها تمام طهرها ويومان مدة حيضها، فلا تترك الصلاة فيه لأن ابتداء الحيض بالطهر لا يكون، فجاء الاستمرار وقد بقي من مدة حيضها يوم، واليوم الواحد لا يكون حيضًا فتصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر ثم تقعد ثلاثة وتصلي خمسة عشر أبدًا.
وجه قوله: أن المرة الواحدة في حق المبتدأة لنصب العادة كالمرتين في المعتادة، فصار ما رأته أول مرة عادة لها، وصاحبة العادة تبني عند الاستمرار ما لم يُوجد ما ينقصها، كما إذا كانت رأت ذلك مرتين ولم يوجد ما ينقصها لأنها لم تر ما يخالف عادتها مرتين، وقال الفقيه أبو عثمان سعد بن مزاحم السمرقندي رحمه الله: لا تبني ما رأته في المرة الثانية على ما رأته في المرة الأولى ولكن تستأنف الحساب وتبني في زمان الاستمرار على أول المرئي.
ووجه قوله: أن ما رأته أول مرة لم يصر عادة لها لأن العادة مشتقة من العود، ولا عود في حق المرئي أولًا لترد إليه فلا ترد إليه بخلاف ما إذا رأت الأول مرتين، والثاني مرة واحدة، ثم جاء الاستمرار حيث تبني الثاني على الأول لأن هناك ما رأته أول مرة صار عادة لها بالتكرار فجاز أن تبني الثاني على الأول، أما هاهنا بخلافه ولكن تستأنف الحساب من أول الاستمرار وتبني على أول المرتين لوجود الأقل في الأكثر فتقعد في أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، وهذا الاختلاف إنما يتأتي على قول محمد رحمه الله.
أما على قول أبي يوسف رحمه الله تبني الأمر في زمان الاستمرار على ما رأته آخر مرة لأن عنده العادة تنتقل برؤية المخالف، مرة فأكثر ما فيه أن ما رأته أول مرة صار عادة لها إلا أنها انتقلت إلى ما رأته الأمر فتبني الأمر في زمان الاستمرار على ما رأته آخرًا.
الوجه الثالث: أن ترى ثلاثة دماء مختلفة وثلاثة أطهار مختلفة كلها صحاح بأن رأت الدم ثلاثة والطهر خمسة عشر ثم رأت الدم أربعة والطهر ستة عشر، ثم رأت الدم خمسة والطهر سبعة عشر، وفي هذا الوجه لا تبني البعض على البعض بلا خلاف، فرّق الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني على قول محمد رحمه الله بين هذا الوجه وبين الوجه الثاني من حيث إن هاهنا رأت خلاف ما رأته أولًا مرتين والعادة تنتقل برؤية المخالف مرتين بخلاف الوجه الثاني لأن هناك رأت المخالف مرة واحدة.
ثم إذا لم تبني البعض على البعض في هذا الوجه. ماذا تصنع قال الفقيه محمد بن إبراهيم رحمه الله: تبني أمرها هي على أوسط الأعداد، وهو قول أبي نصر أحمد بن سهل وأبي عثمان سعد بن معاذ المروزي وأبي بكر الأعمش رحمهم الله، وعلى قول أبي عثمان سعد بن مزاحم السمرقندي رحمه الله أمرُها على أول المرتين الأخيرتين، وهو قول أبي يعقوب الغزالي وأبي سهل الغزالي وأبيه أبي نصر رحمهم الله.
وثمرة الخلاف لا تظهر في هذه الصورة التي ذكرها، فإن أوسط الأعداد في هذه الصورة أربعة وستة عشر. وأقل المرتين الأخيرتين أيضًا أربعة وستة عشر، وإنما تظهر ثمرة الخلاف عند قلب هذه الصورة بأن كانت رأت خمسة دمًا وتسعة عشر يومًا طهرًا ثم رأت أربعة دمًا وستة عشر يومًا طهرًا ثم رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا، فعلى قول من يقول بأوسط الأعداد تقعد من ابتداء الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها، وعلى قول من يقول بأقل المرتين الأخيرتين تقعد من ابتداء الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر.
وجه قول من قال بأوسط الأعداد: أن الوسط هو العدل لأن له حظًا من الجانبين وتأكد ذلك بالأثر قال عليه السلام: «خير الأمور أوساطها» فكان اعتباره أولى، وجه قول من قال بأقل المرتين الأخيرتين تأكد التكرار لوجود الأقل من الأكثر، فكان اعتباره عادة لها من زمان الاستمرار أولى، والفتوى على هذا لأنه أيسر على النساء، وعلى المفتين، فإن على قول من يقول بأقل المرتين الأخيرتين يحتاج إلى حفظ عددين ولا شك أن حفظ عددين أيسر من حفظ ثلاثة أعداد، ويجب أن يكون مبنى الحيض على السعة واليسر لأنه يتعلق بالنساء، وفي عقلهن نوع نقصان، ألا ترى أن مشايخنا أفتوا وأجازوا قول أبي يوسف رحمه الله في انتقال العادة برؤية المخالف لأنه أيسر عليهن.
وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا الاختلاف صاحبة العادة إذا اختلفت أيامها في الحيض والطهر ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم ينظر إلى أوسط الأعداد الثلاثة في آخر الطهر والحيض، وعلى قول أبي عثمان ينظر إلى أقل المرتين الأخيرتين، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى وكان الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام على البزدوي رحمه الله يفتي بأوسط الأعداد إذا كانت المرأة تذكرها وإن لم تذكرها فبأقل المرتين الأخيرتين إذا ذكرتهما، وإن لم تذكرهما فبالأخيرة أخذًا بقول أبي يوسف رحمه الله في انتقاض العادة بمرّة على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: إذا رأت دمين متفقين وطهرين متفقين، ثم إذا رأت بعد ذلك مخالف لهما بأن رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ثم رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ثم رأت أربعة دمًا وستة عشر يومًا طهرًا ثم استمر بها الدم، وفي هذا الوجه على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تصلي من أول الاستمرار بستة عشر لأن عندهما العادة لا تنتقل برؤية المخالف فيجب البناء على تلك العادة فإذا رأت أربعة دمًا فثلاثة من ذلك من حساب حيضها واليوم الرابع من حساب طهرها، فإذا رأت بعد ذلك ستة عشر يومًا طهرًا وأربعة عشر من ذلك تمام طهرها ويومان من حساب حيضها ولم تر هي فيهما دمًا فلا يمكن اعتباره حيضًا فجاء الاستمرار وقد بقي من حيضها يوم، ولا يمكن اعتبار يوم واحد حيضًا فتصلي هي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر يومًا ثم تقعد ثلاثة وتصلي خمسة عشر، وذلك دأبها.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: العادة تنتقل برؤية المخالف مرة وهو المختار للفتوى فتقعد من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.
الوجه الخامس: أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين وبينهما ما يخالفهما بأن رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا. ثم رأت أربعة دمًا وستة عشر يومًا طهرًا ثم رأت ثلاثة دمًا وخمسة عشر يومًا طهرًا ثم استمر بها الدم، وفي هذا الوجه تقعد من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر، ويكون ذلك عادة جميلة لها، وإنما سميت هذا عادة جميلة لأنه تكرر على الاتفاق لكنها صحت لتخلل المخالف فسميت جميلة لهذا. أو قيل: إنما سميت هذا عادة جميلة لأنها لو رأت المتفقين على الولاء كان ذلك عادة أصلية لها. وإذا كان بينها ما يخالفهما يجعل ذلك عادة لها على معنى أن يعتبر ما رأته آخرًا كالمضمومة إلى ما رأته أولًا لما بينهما من الموافقة فتتأكد هي بالتكرار ويصير عادة لها في زمان الاستمرار، وتغيير العادة الجعلية وأحكامها يأتي بعد هذا على سبيل الاستقصاء إن شاء الله.
وهذا التكلف إنما يحتاج إليه لتخريج المسألة على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا على قول أبي يوسف رحمه الله لأن على قوله: العادة تنتقل برؤية المخالف مرة، فحين رأت أول مرة ثلاثة وخمسة عشر صار ذلك عادة أصلية لها. فإذا رأت بعد ذلك أربعة وستة عشر صار ذلك عادة أصلية لها، فإذا رأت بعد ذلك ثلاثة وخمسة عشر صار ذلك عادة أصلية يبنى عليها في زمان الاستمرار.
هذا الذي ذكرنا إذا ابتدأت وبلغت بالحيض، فأما إذا ابتدأت وبلغت بالحبل وقد يكون ذلك بأن حبلت من زوجها قبل أن تحيض فيكون بلوغها بالحبل فولدت (واستمر) بها الدم فنفاسها أربعون يومًا عندنا، وعند الشافعي ساعة وهو يعتبر أقل النفاس لكونه منتفعًا به.
ونحن نعتبر أكثرها للإمكان لأنها مبتدأة في حق النفاس، ألا ترى أن في المبتدأة بالحيض اعتبرنا أكثر الحيض وهي عشرة إذا استمر بها الدم لوجود الإمكان، فكذا في حق النفاس ولأن الصلاة قد تسقط عنها برؤية دم النفاس بيقين فلا يرتفع السقوط إلا بيقين مثله قبل الأربعين وبعد الأربعين يجعل عشرون يومًا طهرًا لأنه لا يتوالى نفاس وحيض لا طهر بينهما كما لا يتوالى حيضان لا طهر بينهما، وإنما قدرنا الطهر بالعشرين في حقها لأن العشرة الأخيرة من النفاس استحق العشرة الأولى من الشهر الثاني. ولو صارت العشرة من الشهر مستحقة بالحيض كما في المبتدأة بالحيض إذا استمر بها الدم كان الباقي من الشهر وذلك عشرون طهرًا فلذا إذا استحقت بالنفاس لأن النفاس نظير الحيض ثم بعد ذلك حيضها عشرة لأنها مبتدأة في حقّ الحيض وطهرها عشرون وذلك دأبها.
وكذلك لو طهرت بعد الأربعين أقل من خمسة عشر ثم استمر بها الدم كان الجواب كما قلنا لأن هذا طهر قاصر لا يصلح للفصل بين الحيض والنفاس فكان كالدم المتوالي. فإن طهرت بعد الأربعين خمسة عشر يومًا ثم استمر بها الدم فإنها تدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة أيام لأن طهر خمسة عشر طهر صحيح فتصير عادة لها بالمرة الواحدة. ولا عادة لها في الحيض فيكون حيضها عشرة فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي خمسة عشر ويكون دورها في كل خمسة وعشرين ثم نسوق المسألة إلى أن تقول طهرت بعد الأربعين أحد وعشرين ثم استمر بها الدم ولا رواية في هذه الصورة، وقد اختلف المشايخ فيه، قال محمد بن إبراهيم رحمه الله: تدع الصلاة من أول الاستمرار تسعة وتصلّي أحد وعشرون وذلك دأبها قال: لأن طهر أحد وعشرين طهر صحيح وعادتها في الطهر والحيض على ما عليه الغالب توجد في كل شهر فإذا صار أحد وعشرون طهرًا لا يبقى الحيض إلا تسعة.
قال أبو عثمان سعد بن إبراهيم: تدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي أحد وعشرون ويكون دورها في كل أحد وثلاثين يومًا.
قال: لأن أكثر الحيض وهو عشرة معلوم في نفسه فلا ضرورة إلى تقديره....... الشهر بخلاف الطهر إذ ليس لأكثر الطهر غاية معلومة فإذا تعين بعض الشهر للحيض تعين الباقي للطهر قال الصدر الشهيد رحمه الله: هذا القول أليق مذهب أبي يوسف رحمه الله ظاهرًا فيفتى به.
ثم يسوق المسألة إلى أن تقول: طهرت بعد الأربعين تسعة وعشرين ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله حيضها من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي لأنه هو الباقي من الشهر، ويمكن أن يجعل حيضها فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي سبعة وعشرون وذلك دأبها، وعلى قول أبي عثمان: حيضها من أول الاستمرار عشرة فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي سبعة وعشرين وذلك دأبها ويكون دورها على قول أبي عثمان في كل سبعة وثلاثين.
وإن طهرت بعد الأربعين ثمانية وعشرين يومًا ثم استمر بها الدم فهاهنا حيضها من أول الاستمرار عشرة ودورها في كل ثمانية وثلاثين بالاتفاق لأنه لم يبق من الشهر هاهنا ما يمكن أن يجعل حيضًا، فرجعنا إلى أكثر الحيض وتركنا معنى اجتماع الحيض والطهر في شهر واحد على قول من قال بذلك في الفصل المتقدم.
فإن رأت بعدما ولدت أحدًا وأربعين يومًا دمًا ثم خمسة عشر طهرًا ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله: نفاسها أربعون وطهرها عشرون لأنها صلت في اليوم الحادي والأربعين بالدم فيفسد طهر خمسة عشر ولا يصلح لنصب العادة فصار كما لو ولدت واستمر بها الدم، وهناك يجعل نفاسها أربعون، وبعد الأربعين يجعل عشرين لطهرها، وبعد ذلك عشرة لحيضها، ومن بعد الأربعين إلى وقت الاستمرار ستة عشر، بقي إلى تمام طهرها أربعة، فمن ابتداء الاستمرار تصلي أربعة وتدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة، وذلك دأبها.
على قول أبي علي الدقاق رحمه الله طهرها ستة عشر وحيضها عشرة، فمن أول الاستمرار تدع الصلاة عشرة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.

.نوع آخر في الانتقال:

يجب أن يعلم بأن الانتقال نوعان: انتقال الحيض عن موضعه وانتقاله عن عدده، فصورة انتقال الموضع أن يكون لها أيام حيض معروفة، فلا ترى هي في موضع حيضها مرتين على الولاء، فينتقل حيضها عن موضعه والعدد على حاله، وتستأنف الحساب من أسرع ما يمكن وذلك من أول الاستمرار فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام ثم تصلي خمسة عشر، ثم تدع ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، وكما تنتقل العادة في الحيض بعدم الرؤية في موضعه مرتين تنتقل بعدم الرؤية في موضعه مرة واحدة والعدد على حاله عند أبي يوسف رحمه الله وعليه الفتوى.
وعلى قوله لا تتفرع مسائل الإبدال لأن مسائل الإبدال، إنما يتفرع على قول من لا يرى الانتقال بعدم الرؤية مرة.
صورة انتقال العدد أن يكون لها أيام معروفة في الحيض والطهر، فرأت خلاف عادتها مرتين متفقتين على الولاء، فإنه تنتقل عادتها في الحيض والطهر عن موضعها وعددها، وتصير عادتها ما رأت مرتين في الحيض والطهر بلا خلاف لأن العدد الأول إنما صار عادة لها لرؤيتها ذلك مرتين متفقتين على الولاء فإذا رأت خلاف ذلك مرتين فقد زال ما ثبت لها به العادة الأولى، ووجد مثل ذلك في حق الثانية عادة لها. وتبطله الأولى حتى ترد عند الاستمرار إلى ما رأته آخرًا.
وإن رأت خلاف عادتها الأصلية مرة ثم استمر بها الدم لم تنتقل عادتها إلى ما رأته آخرًا في الروايات الظاهرة عن أصحابنا، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله أنها تنتقل.
وجه (ظاهر الرواية): أن الأولى صارت عادة لها لتأكدها بالتكرار على الولاء ولم يوجد التكرار في الثانية فلم تكن الثانية مثل الأولى بل كانت دونها فلا تبطل بها الأولى.
ووجه رواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله: أن القياس ما قال. إلا أني استحسنت هذا لتيسير الأمر على النسوان لأن العادة الأصلية إذا لم تنتقض برؤيتها خلافها مرة احتاجت هي إلى حفظ ثلاثة دمًا وثلاثة أطهارًا إن كانت رأت دمًا وأطهارًا مختلفة على قول من يقول بأوسط الأعداد وإلى حفظ دمين وطهرين على قول من يقول بأقل المرتين الأخريين.
وإذا انتقلت عادتها الأصلية برؤية المخالف مرة تحتاج هي إلى حفظ دم واحد وطهر واحد، ولا شك أن حفظ الشيء الواحد أيسر من حفظ المثنى والثلاث. وكثير من المشايخ أفتوا برواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله، ونحن نفتي به أيضًا والله أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع: معرفة أنواع العادة فنقول:
العادة نوعان: أصلية وجعلية فالأصلية أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين على الولاء أو دماء متفقة وأطهارًا متفقة على الولاء.
والجعلية أنواع:
جعلية في حق الطهر والدم جميعًا: وذلك بأن ترى أطهارًا مختلفة ودماء مختلفة أو ترى دمين متفقين وطهرين متفقين وبينهما مخالف ثم استمر بها الدم، فيجب البناء، إما على أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة أو على أقل المرتين الأخريين على حسب ما اختلفوا فنسمي ذلك عادة جعلية في الدم والطهر جميعًا.
وجعلية في الطهر دون الدم بأن ترى هي أطهارًا مختلفة، أو ترى طهرين متفقين وبينهما طهر يخالفهما ثم يستمر بها الدم فيجب البناء في حق الطهر على أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة أو على أعلى المرتين الأخيرتين تصير عادتها في الطهر جعلية.
وجعلية في حق الدم دون الطهر بأن ترى دماء مختلفة أو دمين متفقين وبينهما دم يخالفهما ثم يستمر بها الدم، فيجب البناء في حق الدم على أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة أو على أقل المرتين الأخيرتين فتصير عادتها في الدم جعلية، وهذا لأن العادة مشتقة من العود، ومطلق العود إنما ينطلق على العود على الولاء اسمًا ومعنىً.
فإذا اختلفت الدماء والأطهار والعود في أوسط الأعداد أو أقل المرتين الأخيرتين على حسب ما اختلفوا، وجد من حيث المعنى دون الاسم، وكذلك في حق الطهرين والدمين وبينهما مخالف، والعود في حق المعنى: أن يوجد اسمًا لم يوجد التوالي، فلوجود بعْض ما اشتق منه العادة اعتبرناها عادة لها عند الضرورة، ولعدم بعض ما اشتق منه لم يسمها عادة أصلية، بل سميناها عادة جعلية.
وهذه العادة الجعلية إذا اعترضت على العادة الأصلية ثم جاء الاستمرار هل تنتقض العادة الأصلية؟ قال مشايخ بلخ: لا تنتقض الأصلية، وقال مشايخ بخارى: تنتقض، وبيان ذلك: أن المرأة إذا كانت لها عادة أصلية في الحيض والطهر فرأت دماء مختلفة وأطهارًا مختلفة ونصبت بأوسط الأعداد. وأقل المرتين الأخيرتين عادة لها، ثم جاء الاستمرار فإنها تبني الأمر في بيان الاستمرار على ما جعل عادة لها عند مشايخ بخارى، وعند مشايخ بلخ: تبني الأمر في زمان الاستمرار على ما كانت عادة لها في الأصل.
وجه قول مشايخ بلخ أن العادة الجعلية دون العادة الأصلية على ما مرّ، فلا تنتقض العادة الأصلية ولأن الجعلية اعتبرت عادة لها بطريق الضرورة ليمكن اعتبار حكم الحيض والطهر في حقها مع وجود المنافي لكونه عادة لها، وهو كونها فردًا والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، ولا ضرورة إلى نقض العادة الأصلية، فلا ينتقض بها.
وجه قول مشايخ بخارى: أن العادة الجعلية لا تنفك عن تكرار المخالف للعادة الأصلية إلا أنه مختلف في نفسه ولكن مع اختلافه على مخالفة الأصل، فكان هذا بعض المكرر بالمكرر وإنه جائز، وهذه العادة الجعلية تنتقض برؤية المخالف مرة بالإجماع لأن العادة الجعلية فرد في نفسه لأنه أوسط الأعداد الثلاثة أو أقل المرتين الأخريين، والفرد ينتقض بالعدد.
والحاصل: أن العادة الجعلية لا تنفك عن تكرار المخالف للعادة الأصلية لكن وجب، فيعتبر واحد من هذه الأعداد بضرب اجتهاد ضرورة نصب العادة لها، وذلك الواحد فرد في نفسه فنقض بالعدد لكونه مثلًا له، ولكن الجملة المخالفة لأصل عدد في نفسها فانتصبت بها العادة الأصلية، وهذا الكلام في غاية الظهور ونهاية الوضوح والله أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع من المسائل:
إذا كان للمرأة عادة أصلية في الحيض والطهر، فوقعت الحاجة إلى نصب العادة لها برؤية أطهار مختلفة ودماء مختلفة، ونصب العادة أوسط الأعداد عادة لها على قول من يقول به، فوافق ذلك العادة الأصلية، فإنه يطرح المأخوذ ثم ينظر إلى أوسط الأعداد من الباقي أو إلى أقل المرتين الأخيرتين، فإن وافق ذلك العادة الأصلية علم أن العادة الأصلية باقية فتبني عليها، فإن لم توافق هذه العادة الأصلية علم أن العادة الأصلية قد بطلت فيصير المطروح عادة جعلية لها.
بيان هذا: المرأة عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون، طهرت ثلاثين يومًا ثم رأت الدم عشرة ثم طهرت أربعين يومًا، ثم رأت الدم عشرة ثم طهرت خمسة عشر يومًا ثم رأت الدم عشرة أيام، ثم طهرت عشرون ثم استمر بها الدم. فنقول: أوسط الأعداد في الطهر عشرون لأنها طهرت مرة ثلاثين ومرة أربعين ومرة خمسة عشر ومرة عشرون، فعشرون أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة.
وإنما يعتبر أوسط الأعداد من الثلاثة التي قبل الاستمرار فإنه موافق للعادة الأصلية فيطرح ذلك، فيبقى بعده خمسة عشر وثلاثون وأربعون. وأوسط الأعداد منها ثلاثون فإنه ليس بموافق للعادة الأصلية، فعلم أن العادة الأصلية قد انتقضت لأنها رأت بخلافها مرتين فتبني على المطروح، وهو دم عشرة وطهر عشرين ويصير ذلك عادة جعلية لها.
ولو رأت الدم عشرة والطهر ثلاثين والدم عشرة والطهر خمسة عشر والدم عشرة والطهر عشرين ثم استمر بها الدم، فأوسط الأعداد عشرون وإنه يوافق العادة الأصلية فيطرح ذلك، فتبني بعده خمسة عشر وثلاثون، وما كان في الأصل عادة لها وذلك عشرون فالأوسط عشرون، فعلمنا أن العادة الأصلية لم تنتقض لأنه لم ير بخلافها إلا مرة فيبنى عليها ما بعدها.
فإذا طهرت ثلاثين يومًا فعشرون منها زمان طهرها وعشرة من حساب حيضها، ثم رأت الدم عشرة وهو ابتداء طهرها فإن رأت الطهر خمسة عشر فعشرة من ذلك من حساب طهرها وخمسة من حساب حيضها، ثم رأت الدم بعده عشرة فخمسة من ذلك بقية حيضها وخمسة من حساب طهرها ثم رأت الدم بعده عشرين يومًا فخمسة عشر يومًا من ذلك بقية طهرها وخمسة من حساب حيضها ثم استمر بها الدم، وقد بقي من مدة حيضها فتدع الصلاة خمسة أيام من أول الاستمرار ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة وذلك دأبها والله أعلم بالصواب.

.نوع آخر في الإبدال على قول من يرى ذلك:

إذا كان للمرأة أيام حيض وأيام طهر معروفة فلم تر هي في موضع حيضها بمرة فإنها تصلي إلى موضع حيضها بمرة الثاني ولا يبدل لها في وقت طهرها وإن رأت الدم فيه عند أبي حنيفة رحمه الله لما فيه من نقل العادة بمرة وقال محمد رحمه الله: يبدل لها بقدر أيامها إذا أمكن الإبدال.
وإنما يثبت الإمكان بأن كان يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر يومًا، فإن كان لا يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر إلا أنه يمكن أن يجر من موضع حيضها الثاني إلى بقية طهرها ما يتمه خمسة عشر يومًا ويبقى بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يكون حيضًا فإنه يجر لأن مبنى الحيض على الإمكان وإنه موجود إذا بقي بعد الإبدال مدة طهر تام أو أمكن تتميمه بالجر، وهذا لأن المرأة لا تبقى عادتها في الحيض على صفة واحدة ولكنها تتقدم تارة وتتأخر أخرى، فيعتبر المرئي فيها حيضًا ما أمكن اعتباره حيضًا من الوجه الذي بيّنا.
وكان أبو زيد الكبير وأبو يعقوب الغزالي يأخذان بقول محمد رحمه الله بالبدل ما لم يحتج إلى الجر، فإذا احتيج إليه لا يأخذان بقوله، وكان الشيخ الإمام الزاهد وأبو حفص الكبير البخاري رحمه الله والفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقولان يبدل لها بقدر ما يفني فيه عن الجر وكثير من المشايخ المتأخرين أخذوا بقول محمد رحمه الله واختاروا قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص والفقيه محمد بن مقاتل رحمهما الله.
حجة أبي حنيفة رحمه الله في نفي البدل أصلًا، ما ذكرنا في البدل اتهام بنقل العادة برؤية المخالف مرة واحدة.
وجه قول محمد رحمه الله في إثبات أصل البدل أن هذا دم خارج من قبل المرأة في وقته لخروجه عقيب طهر صحيح فيجعل هو حيضًا كالأصل وهو الدم المرئي في وقته، وهذا لأن الغالب من عادات النساء أنها لا تدوم على وقت واحد وعلى عدد واحد، بل تتقدم مرة وتتأخر مرة وتزداد مرة وتنقص مرة أخرى، ثم يجوز أن يسقط اعتبار العدد برؤية المخالف مرة، فإن المرأة إذا كان أيام حيضها خمسة، رأت خمسها واستمر بها الدم إلى العشرة كانت العشرة كلها حيضًا بالإجماع، فكذا يجوز أن يسقط اعتبار الوقت مرة لم تر في وقتها المعروف مرة، وما قال أبو حنيفة رحمه الله من إيهام النقل برؤية المخالف مرة فكذلك من حيث الصورة لا من حيث الحكم لأن البدل يلتحق بموضع الأصل، ألا ترى أن الإمام إذا لم يقرأ في الأوليين من الظهر وقرأ في الأخريين فإنه تنتقل قراءته إلى الأوليين، حتى لو اقتدى به رجل في الأخريين ولم يقرأ فيما، يقضي في ركعة واحدة أو في ركعتين تفسد صلاته؛ لحصولها بغير قراءة، لانتقال قراءة الإمام إلى الأوليين كذا هاهنا، وإذا ثبت الإبدال على قول محمد رحمه الله يبدل لها ما أمكن، والإمكان بالطريق الذي قلنا.
وإذا لم يبق بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يصلح أن يكون حيضًا لا يبدل لها؛ لأن إثبات البدل في هذه الحالة يؤدي إلى إسقاطه ثابتًا؛ لأنما يثبت البدل لها عن عادتها الأولى، فإذا لم تبق بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يمكن اعتباره حيضًا لم يرَ الحيض في موضعها مرتين على الولاء، فيجب الانتقال، وإبطال العادة الأولى واستئناف الحساب في موضع البدل، فيفسد البدل؛ لأنه كان بدلًا عن العادة الأولى، وقد بطلت العادة الأولى، فلم يجز القول بالبدل في هذه الحالة فتصلي إلى موضع حيضها الثاني، كما قاله أبو حنيفة رحمه الله.
وجه قول أبي زيد وأبي يعقوب الغزال: أن القول بالجر يؤدي إلى محال وهو إيجاب الصلاة عليها في حالة الحيض، وإيجاب ترك الصلاة في حالة الطهر.
بيانه: أن المجرور حيض حقيقة، وإذا صح الجر يصير طهرًا فتصلي فيه، والبدل حيض حقيقة إن كان دمًا فهو في حالة الطهر؛ إذ العادة لم تنتقل برؤيتها خلافها مرة لا من حيث الموضع، ولا من حيث العدد، فتعينت هذه الحالة طهرًا حكمًا، فلو صح البدل تركت من الصلاة فيه فهو معنى قولنا: إن الجر يؤدي إلى المحال وما يؤدي إلى المحال فهو محال، ومحمد رحمه الله يقول: في الجر وقوع الخلل في بعض الحيض، وهو الصلاة في المقدار الذي يُجره وفي نفي الجر وقوع الخلل في دم البدل، فإنه دم خارج عن القبل في أوانه، فكان حيضًا كالأصل، فيجب ترك الصلاة فيه.
وإذا لم تجز صلّت هي في جميعه، ولا شك أن وقوع الخلل في البعض أهون من وقوع الخلل في الكل ثم يجوز أن يبدل لها أكثر من أيامها وأقل من أيامها، ولا يجوز أن يبدل لها أكثر من أيامها إلا أن يكون قبله أو بعده طهر تام؛ وهذا لأن البدل في أصول الشرع قد يكون مثل الأصل كضمان المتلفات وأروش الجنايات، وقد يكون هو دون الأصل كالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء، فللبدل مثل أيامها وأقل من أيامها نظير في الشرع فيجوز البدل به أما لا يوجد في أصول الشرع بدل هو أكثر من المبدل، فإن البدل لا يربو حاله قط على حال المبدل، فلا يمكن اعتباره بدلًا على الإطلاق، فقيل: إذا كان قبله وجد طهر ناقص لم يكن اعتباره أصلًا، فجعل قدر أيامها بدلًا لا غير؛ لأنه دم فاسد؛ لأنه دم استحاضة، ولا يراد حيض المستحاضة على أيامها، وقيل: إنه إذا كان هو تامًا بين طهرين تامين بأن كان حيضها ثلاثة فرأت في عشرة دمًا، ولم يجاوز كان كله حيضًا؛ لأنه دم خال عن الاستحاضة، فكان هو أصلًا لا بدلًا، ثم يجوز البدل بعد أيامها كيف ما كان، ولا يجوز البدل قبل أيامها إلا أن تكون على أثر طهر تام؛ لأن الطهر الصحيح متى وجد إنما وجد بتوقع بعدها وجود دم حيض عند محمد رحمه الله، فإن من مذهبه أن المرأة إذا رأت عشرة أيام دمًا خمسة قبل أيامها، وخمسة في أيامها إن كل ذلك حيض إذا كان الطهر قبله وبعده تامًا، فإذا انقضت أيامها ولم ترَ فيه ما يكون حيضًا بتوقع منها بعده وجود دم الحيض، فإذا وجد كيف ما كان حكم بالبدل منه.
وكذا الذي قبل أيامها إذا كان على إثر طهر تام، فإنه مرئي في وقت كان دم الحيض متوقعًا منها، فجعل هو حيضًا وحكم بالبدل منه تامًّا إذا لم يكن هو على إثر طهر تام، فهو غير مرئي في وقت كان دم الحيض متوقعًا منها؛ لأن المرئي بعد الطهر الناقص لا يكون حيضًا ولم تجئ عادتها بعد، فإذا رأت الدم فقد رأتْهُ في وقت لم تتوقع منها دم الحيض، فأُمرت بالصلاة فيه.
ثم اختلف المشايخ في مراد محمد رحمه الله في قوله: لا يبدل لها قبل أيامها إلا أن يكون على إثر طهر تام، قال الحاكم أبو نصر أحمد بن مهرويه: أراد التصحيح الخالص الذي لا يشوبه دم تؤمر المرأة بالصلاة فيه لا التام مع الفساد، وقال بعض المشايخ: أراد بالتام أن يكون خمسة عشر يومًا، لا أن يكون صحيحًا خالصًا؛ لأن الصحة والخلوص في الطهر إنما يشرط لتنقل العادة؛ لأن الأصل صار عادة لها لرؤيتها الدم الخالص من طهرين خالصين، فلا تنتقل هي إلا برؤيتها، خلافًا على هذه الصفة، فأمّا الخلوص لغير شرط لضرورة الدم بعده حيضًا، وإذا أمكن البدل من موضعين يبدل من أسرعهما، وهو معنى قول محمد رحمه الله في (الكتاب): إذا أمكن البدل قبل أيامها، وبعد أيامها يبدل لها قبل أيامها، وهذا لأن البدل يعتبر بالأصل وفي الأصل، وهي المبتدأة متى أمكن اعتبار الحيض في الموضعين جعل هو من أسرعهما إمكانًا، فكذا في البدل.
ثم علامة مسائل البدل على قول محمد رحمه الله: أن كل امرأة وجب عليها أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر أو أقل من ذلك، فلا يبدل لها عند محمد رحمه الله، وكل امرأة وجب عليها أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني ثمانية عشر أو أكثر من ذلك يبدل لها عنده.
جئنا إلى تخريج المسائل على الأصول فنقول: المرأة إذا كانت عادتها في الدم خمسة، وفي الطهر عشرون وطهرت من اثنين وعشرين ثم استمر بها الدم يجعل حيضها من أول الاستمرار ثلاثة؛ لأنها رأت في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضًا، ولو طهرت ثلاثة وعشرون ثم استمر بها الدم، فعند أبي حنيفة رحمه الله: أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني، ذلك اثنان وعشرون يومًا، وعند محمد رحمه الله يبدل لها خمسة أيام من أول الاستمرار؛ لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر يومًا، وكذلك إن طهرت أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين يومًا ثم استمر بها الدم، فإنه يبدل لها خمسة أيام عند محمد رحمه الله؛ لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني ستة عشر أو خمسة عشر، فتدع الصلاة من أول الاستمرار خمسة، ثم تصلي خمسة عشرة ثم تدع خمسة وتصلي عشرين.
ولو طهرت بستة وعشرين يومًا ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي يعقوب، وأبي زيد الكبير لا يبدل لها، لأن الباقي بعد البدل أربعة عشر، فلا يمكن القول بالبدل إلا بطريق الجر، وهما لا يريان الجر، ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني، كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، فتصلي من أول الاستمرار تسعة عشر يومًا ثم تدع الصلاة خمسة، وتصلي عشرين، قول محمد رحمه الله يبدل لها خمسة أيام؛ لأن البدل بطريق الجر ممكن، فيجر من موضع حيضها الثاني يومًا إلى بقية طهرها حتى يتم خمسة عشر يومًا، وتدع الصلاة من أول الاستمرار أربعة وتصلي عشرين، ثم تدع خمسة وتصلي عشرين، وعلى قول الشيخ الإمام أبي حفص، والفقيه محمد بن مقاتل رحمهما الله: تبدل لها أربعة حتى يستغنى عن الجر فتدع الصلاة من أول الاستمرار أربعة وتصلي خمسة عشر، ثم تدع خمسة وتصلي عشرين وكذلك إن طهرت تسعة وعشرين ثم استمر بها الدم، فالتخريج على هذا.
وإن طهرت في ثمانية وعشرين يومًا، فلا يبدل لها ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني؛ لأنه يبقى بعد الإبدال من طهرها اثنا عشر يومًا، فلو جررنا إليها ثلاثة من موضع حيضها الثاني ما أمكن اعتباره حيضًا، فلا يبدل لها ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني، وذلك سبعة (عشر) يومًا، ثم تدع الصلاة خمسة وتصلي عشرين إذا كان أيام حيضها خمسة وأيام طهرها عشرون، وطهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت خمسة دمًا وطهرت أيامها فعند محمد رحمه الله يبدل لها الخمسة المتقدمة.
ولو طهرت أربعة عشر يومًا ثم رأت ستة دمًا طهرت أيامها فلا يبدل لها من المتقدم لفساده؛ لأنها صلّت في يوم منه، وهو اليوم الخامس عشر، وإنه يريد قول الحاكم أبي نصر، ولو كانت عادتها في الحيض ثلاثة وفي الطهر سبعة وعشرون، فطهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت الدم ثلاثة ثم طهرت في اثني عشر يومًا ثم رأت الدم؛ فإنها لم ترَ في أيامها شيئًا، فيبدل لها الثلاثة التي رأتها بعد طهر خمسة عشر؛ لأنها مرئية عقيب طهر صحيح، فيبدل لها تلك الثلاثة إلا ما رأته بعد أيامها؛ لأن تلك الثلاثة أسرعهما إمكانًا.

.نوع آخر في الزيادة والنقصان في أيام الحيض:

صاحبة العادة المعروفة في الحيض إذا رأت الدم زيادة على معروفها يجعل ذلك كلّه (حيضًا) ما لم يجاوز المرئي عشرة، فإن جاوز المرئي العشرة ردت إلى معروفها، والثاني يكون استحاضة؛ وهذا لأن طبعها لا يكون على صفة واحدة بل قد يقوى ويزداد حيضها وقد يضعف فيتعين حيضها ومبنى الحيض الإمكان، فإذا اقتصر على العشرة أمكن أن يجعل ما زاد على معروفها حيضًا.
وإذا جاوز العشرة لا يمكن أن يجعل ما زاد على معروفها حيضًا؛ لأنه تجاذبه جانبان فاعتباره بمعروفها يجعله حيضًا واعتباره بما زاد على العشرة يجعله استحاضة، والترجيح بجانب ما زادت على العشرة؛ لأن الزيادة على معروفها لم تظهر إلا مع مدة الاستحاضة، فالظاهر أنه عن علة.
ولو كانت عادتها في الحيض خمسة فرأت الدم في اليوم السادس، فعلى قول مشايخ بلخ رحمهم الله: تؤمر هي بالاغتسال والصلاة؛ لأن الدم في اليوم السادس متردد أن يكون حيضًا بأن اقتصر على العشرة، وبين أن يكون استحاضة بأن تزيد هي على العشرة، فلا تترك هي الصلاة مع التردد؛ لأن الدم في موضع الدم في اليوم السادس لا يكون حيضًا إلا بشرط الانقطاع على رأس العشرة، وإنه موهوم، فلا تترك الصلاة باعتبار أمر موهوم.
وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: لا تؤمر بالصلاة ولا بالاغتسال لأنا عرفناها حائضًا بيقين لرؤيتها ما يكون حيضًا في حقها ودليل بقائها حائضًا ظاهر، وهو سيلان الدم وهذه الزيادة لا تكون استحاضة إثباتًا للاستمرار حتى تجاوز العشرة، وإنه غير ثابت للحال، فتبقى حائضًا حتى يستبين أمرها، فإن جاوز الدم العشرة حينئذٍ تؤمر بقضاء ما تركت من الصلاة بعد أيامها واعتبر هذه بالمبتدأة فإن المبتدأة لا تؤمر بالصلاة والاغتسال مع رؤية الدم ما لم تجاوز العشرة، وكان الصدر الشهيد حسام الدين يفتي في هذه الصورة: بأنها تؤمر بالاغتسال ولا تؤمر بالصلاة؛ لأن هذا أقرب إلى الاحتياط.
ولو كانت عادتها في الحيض خمسة، فطهرت في اليوم الرابع، فإنها تؤمر بالاغتسال إذا خافت فوت الوقت، وتؤمر بالصلاة هاهنا؛ لأن هذه طهرٌ ظاهر وفي المسألة المتقدمة: هو دم ظاهر فأخذنا في كل ذلك بالاحتياط.
ولو كانت عادتها في الحيض خمسة في أول كل شهر، فرأت ثلاثة ومًا في أول شهر، ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة أيام ثم رأت يومًا فخمسة من أول الشهر حيض عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه يجوز ختم الحيض بالطهر، وعند محمد رحمه الله الثلاثة الأول هي الحيض؛ لأنه لا يرى ختم الحيض بالطهر، هكذا ذكر محمد رحمه الله المسألة في (الأصل) والمسألة في الستة مشكلة؛ ثلاثة قبل الستة دم ويومًا بعدها دم فالجملة عشرة، فيمكن جعل الكل حيضًا عند أبي يوسف رحمه الله، وقد أجاب أن حيضها خمسة عند أبي يوسف.
والصحيح أن يزاد على طهر ستة ساعة أو ما أشبهها أو على يوم الحيض بعدها، ويصير تقدير المسألة: فرأت ثلاثة دمًا في أول شهر، ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة وساعة ثم رأت يومًا دمًا، أو يصير تقدير المسألة: رأت ثلاثة دمًا في أول الشهر ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة ثم رأت يومًا دمًا أو أكثر أو زيد على العشرة فيردّ إلى معروفها عند أبي يوسف رحمه الله.
ولو رأت يومين دمًا في أول العشرة ويومين دمًا في آخر العشرة، فخمستها المعروفة هي الحيض عند أبي يوسف رحمه الله: إذا كان اليومان الآخران هي اليوم العاشر واليوم الحادي عشر، فأما إذا كان اليومان الآخران هي اليوم التاسع فالعاشر، والكل حيض عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله شيء من ذلك لا يكون حيضًا؛ لأن الطهر غالب على الدمين، فصار فاصلًا بينهما، وكل واحد من الدمين بانفراده لا يصلح حيضًا فلا يجعل شيء من ذلك حيضًا.
ولو رأت في العشرة يومين دمًا فرأت اليوم العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر دمًا فحيضها خمستها عند أبي يوسف؛ لأن الطهر فيه قاصر، فصار كالدم المتوالي، وعند محمد الثلاثة الأخيرة حيض؛ لأن الإبدال ممكن فيه؛ لأنه يبقى إلى موضع حيضها الثاني مُدّة طهر كامل.
ولو رأت في أول خمستها يومًا دمًا ويومًا طهرًا، حتى جاوز العشرة فخمستها هي الحيض عندهم جميعًا؛ لأن ابتداء الخمسة وختمها كان بالدم والطهر قاصر، فإن طهرت يومًا من أول الشهر، ثم رأت يومًا دمًا ويومًا طهرًا حتى جاوز العشرة، فاليوم الأول ليس بحيض عندهم؛ لأنه لم يتقدَّمه دم وهو طهر في نفسه، وأبو يوسف رحمه الله إنما يجوز ابتداء الحيض بالطهر إذا تقدمّه دم الاستحاضة، والأربعة الباقية من أيامها حيض عند أبي يوسف؛ لأنه يختم الحيض بالطهر إذا تعقبه دم، وعند محمد رحمه الله حيضها اليوم الثاني، والثالث والرابع؛ لأن اليوم الأول والخامس كانا طهرين وإن وقف الدم على العشرة؛ لأن ما بعد اليوم الأول حيض كلّه، ولو رأت يومًا دمًا قبل رأس الشهر ومن أول الشهر يومًا طهرًا ثم يومًا دمًا إلى العشرة، فجميع ذلك حيض عند أبي يوسف إلا اليوم العاشر؛ لأنه لم يُرَ فيه، ولا بعده وما سواه وجد فيه شرط إمكان الحيض، فيعتبر حيضًا، فإن جاوز الدم العشرة، فحيضها خمستها المعروفة عند أبي يوسف وعند محمد رحمه الله حيضها ثلاثة أيام من معروفها، وهو اليوم الثاني والثالث والرابع لطهرها في اليوم الأول والخامس، والله أعلم.

.نوع منه في تقدم الحيض وتأخره:

هذا النوع يشتمل على ثلاثة أقسام: قسم في المتقدم، وقسم في المتأخر، وقسم في الجمع بينهما.
أما القسم الأول: فهو على وجوه:
الأول: إذا رأت في أيامها ما يكون حيضًا، فرأت قبل أيامها ما لا يكون حيضًا، بأن كان المرئي في أيامها ثلاثة، والمرئي قبل أيامها أقلّ من ثلاثة، وفي هذا الوجه روايتان عن أبي حنيفة، روى محمد عنه: أن المتقدم لا يكون حيضًا، وروى الحسن عنه: أن الكل حيض.
وجه رواية محمد رحمه الله: أن المتقدم لو جعل حيضًا، جعل تبعًا لأيامها، ولا وجه إليه؛ لأن السابق لا يعتبر تبعًا إلا في وجه رواية الحسن أن المتقدم إذا كان أقلّ من ثلاثة أيام إن لم يمكن أن يعتبر هو حيضًا تبعًا لأيامها من حيث اللحوق، لكونه سابقًا على أيامها أمكن أنه يعتبر حيضًا تبعًا لأيامها من حيث إنه يستقل بنفسه، والمرئي في أيامها يستقل بنفسه. وذكر بعض مشايخنا في (شرح كتاب الحيض) في الوجه: أنّ الكل حيض من غير ذكر خلاف، وذكر بعضهم: أن الكل حيض بالاتفاق.
الوجه الثاني: إذا رأت قبل أيامها ما يصلح حيضًا، ولم ترَ في أيامها شيئًا، وفي هذا الوجه حكمها موقوف عند أبي حنيفة رحمه الله فإن طهرت أيامها مرّة أخرى في الشهر الثاني صار حيضها ما رأته، وانتقلت عادتها في الحيض عن موضعها، وإلا فالمرئي استحاضة، وعند أبي يوسف رحمه الله المتقدم حيض، ويصير ذلك عادة لها؛ لأنه يرى انتقال العادة برؤية المخالف مرّة وعليه الفتوى، وهو قول محمد، وعلى قول محمد رحمه الله يكون المتقدم حيضًا بدلًا عن أيامها ولكن لا يصير عادة لها؛ لأنه لا يرى انتقال العادة برؤية المخالف مرّة.
الوجه الثالث: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضًا، ورأت قبل أيامها ما يصلح حيضًا، الجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الثاني؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضًا كان المرئي في أيامها في حكم العدم.
الوجه الرابع: إذا رأت في أيامها ما يصلح أن يكون حيضًا ولم يجاوز الكل العشرة وفي هذا الوجه عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، روى محمد والحسن بن زياد عنه أن المتقدم على أيامها لا يكون حيضًا، وروى بشر بن الوليد والمعلّى وغيرهما عن أبي يوسف رحمهم الله عنه: أن المتقدم حيض، غير أن في بعض روايات أبي يوسف أنه على قول أبي حنيفة، وفي بعض رواياته أنه قاس قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن المتقدم حيض إذا لم تجاوز به العشرة.
وجه الرواية الأولى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المتقدم على أيامها لا يمكن اعتباره حيضًا تبعًا لأيامها، والسابق لا يعتبر تبعًا للاحق، فلو اعتبر حيضًا اعتبر بطريق الاتصال، ولا وجه إليه أيضًا لما فيه من نقل عادتها من حيث الموضع برؤية المخالف مرّة، وأبو حنيفة رحمه الله لا يقول به.
وجه رواية الأخرى وهو قولهما: إن هذا دم رأته المرأة بين طهرين تامين ولم تجاوز العشرة فيكون حيضًا كالمتأخر؛ هذا لأن حيض المرأة قد يتقدّم وقد يتأخر، فإذا اعْتُدَّ بأحد الأمرين فكذا بالأمْر الآخر، ثم عند أبي يوسف يصير ذلك عادة لها، وعند محمد لا تصير عادة لها.
الوجه الخامس: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضًا، ورأت قبل أيامها ما لا يصلح حيضًا وإذا جمعا صلحا حيضًا، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنه نظير الوجه الثاني والثالث؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضًا كان المرئي في أيامها كالعدم، وقال بعضهم: الجواب فيه كالجواب في الوجه الرابع؛ لأنها إذا لم ترَ في أيامها ما يكون حيضًا بنفسه، وإنما يصير حيضًا بوجود ما قبله صار كأنها رأت في أيامها ما يكون حيضًا، ورأت قبل أيامها ما يكون حيضًا، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في (شرح كتاب الحيض): أن شيئًا من ذلك لا يكون حيضًا إلا أن ترى في بعض موضعها الثاني مثل ذلك، فتنتقل العادة إليها في الابتداء والله أعلم.
ومما يتصل بهذا القسم:
امرأة تستفتي أنها ترى الدم قبل أيامها ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (مختصر كتاب الحيض): أنها تؤمر بترك الصلاة إذا كان الباقي من أيام طهرها ما لو ختم إلى أيام حيضها لا يجاوز العشرة؛ لأنها رأت الدم عقيب طهر صحيح، فكان حيضًا لكن بهذا الشرط؛ لأن الظاهر أنها ترى الدم في أيامها المعروفة، وإذا عُدم هذا الشرط يكون استحاضة، وذكر الشيخ الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله في كتاب (الخصائل): أن على قولهما تؤمر بترك الصلاة إذا كان المتقدم مع أيامها لا يجاوز العشرة، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: إذا كان المتقدم ثلاثة أيام لا تترك الصلاة، وإن كان أقل، فكذلك على قوله على ما اختاره مشايخ بخارى، وعلى ما اختاره مشايخ بلخ: تترك.
وأما القسم الثاني فهو على وجوه أيضًا:
الأول: إذا رأت في أيامها ما يصلح حيضًا، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضًا وفي هذا الوجه الكل حيض، وأيامها تستتبع ما بعدها وانتقلت العادة؛ لأن ما بعدها لا يستقل بنفسها وقد تتبعت أيامها مشاهدة فتتبعها حكمًا.
الوجه الثاني: إذا رأت في أيامها، ورأت في آخر أيامها ما يصلح حيضًا، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضًا أيضًا، وفي هذا الوجه إن لم تجاوز الكل العشرة فالكل حيض، وإن جاوز فالمعروفة حيض، وما زاد على ذلك استحاضة؛ لأن المتأخر عن أيامها يمكن اعتباره حيضًا تبعًا لأيامها؛ لأنه لاحق بأيامها واللاحق يتبع السابق.
ألا ترى أنه جميع أيامها مشاهدة فتتبع أيامها حكمًا، وإذا أمكن اعتباره حيضًا تبعًا لأيامها تعتبر ولم تنتقل عادته كما كانت عليه من حيث الحقيقة، إن انتقلت من حيث الصورة؛ لأن التبع حكمه حكم الأصل فصار من حيث الحكم كأنه جعل في أيامها.
الوجه الثالث: إذا لم ترَ في أيامها شيئًا، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضًا، وفي هذا الوجه الكل حيض ذكر المسألة في (الأصل) من غير ذكر خلاف، وقد اختلف المشايخ فيه، قال أبو علي الدقاق والزعفراني في كتابيهما والقدوري في (شرحه)، وعامة مشايخ خراسان: إن ما ذكر في (الأصل) قول الكل، وقال أبو سهل الفرائضي وجماعة من البلخيين، وعامة من البخاريين: إن هذا على الاختلاف الذي بيناه في المتقدم فالكلام فيها كالكلام في المتقدم، فإن كانت المسألة على الخلاف الذي بيّناه في المتقدم فالكلام فيها كالكلام في المتقدم؛ وإن كانت هذه المسألة على الوفاق، فوجه الفرق بين المتقدم والمتأخر ظاهر إن وجود الشيء بعد وقته لا يمنع ثبوت حكمه خصوصًا في أمر الحيض، فإن المرأة ترى الدم بعد أيامها بأشهر ولا يتغير به الحكم، ولهذا قلنا: إن العجوزة الكبيرة إذا رأت الدم كان حيضًا على رواية (النوادر) فأما وجود الشيء قبل وقته فلا يعتد به في أكثر الأحكام خصوصًا في باب الحيض، ألا ترى أن الصغيرة جدًا قد ترى الدم ولا يعتدّ به أصلًا.
الوجه الرابع: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضًا، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضًا، والجواب في هذا الوجه كالجواب في الوجه الثالث؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح أن يكون حيضًا كان المرئي في أيامها ملحقًا بالعدم.
والوجه الخامس: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضًا، ورأت بعد أيامها ما لا يصلح حيضًا أيضًا، ولكن إذا جُمعا صلحا حيضًا، فالجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الثالث والرابع؛ لأنها لها رأت في أيامها ما لا يصلح حيضا كأنها لم ترَ في أيامها شيئًا والله أعلم.
ومما يتصل بهذا القسم:
امرأة جاءت تستفتي عما رأت بعد أيامها، ذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في كتاب الخصائل أنّ الأصح أنها تؤمر بترك الصلاة إلا إذا جاوز العشرة فتؤمر بالقضاء.
أما القسم الثالث: وهو ما إذا اجتمع المتقدم والمتأخر، وذلك كله دون العشرة كان المتأخر حيضًا، والمتقدم يكون هل حيضًا على ما فسّرنا، هو على وجوه:
إما أن يكون المتقدم والمتأخر كل واحد منهما نصابًا.
وصورتها: امرأة عادتها في الحيض أربعة، فرأت أيامها دمًا، ورأت قبل أيامها ثلاثة دمًا ورأت بعد أيامها ثلاثة دمًا، فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية، وفي رواية أخرى المتقدم ليس بحيض، وإذا لم يكن المتقدم حيضًا على هذه الرواية هل يجعل المتأخر استحاضة؟ فقد اختلف فالمشايخ فيه، والصحيح: أن يجعله.
وإما أن لا يكون المتقدم ولا المتأخر نصابًا.
وصورتها: امرأة أيام حيضها ستة فرأت أيامها دمًا ورأت قبل أيامها يومين دمًا وقد رأت بعد أيامها يومين دمًا، فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة في رواية.
وإما أن يكون المتقدم نصابًا والمتأخر لا يكون نصابًا.
وصورتها: امرأة أيام حيضها خمسة رأت بأيامها دمًا ورأت ثلاثة قبل أيامها دمًا ورأت يومين بعدها دمًا فعندما العشرة حيض، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية، وفي رواية أخرى: المتقدم ليس بحيض، فإذا لم يكن المتقدم حيضًا على هذه الرواية هل يجعل المتأخر استحاضة فقد اختلف المشايخ، والأظهر أن لا يجعله، هكذا ذكره نجم الدين النسفي رحمه الله.
وإما أن لا يكون المتقدم نصابًا والمتأخر يكون نصابًا:
وصورتها: امرأة أيام حيضها خمسة رأت أيامها دمًا، ورأت يومين قبل أيامها دمًا ورأت ثلاثة بعد أيامها دمًا فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية على نحو ما بينا.
وإن كان عند الجمع يزيد على العشرة، فإن كان كل واحد منهما على انفراده استحاضة بنفسه فحيضها أيامها المعروفة، والمتقدم والمتأخر يكون استحاضة ونعني بقولنا: إذا كان كل واحد منهما استحاضة بنفسه أن يكون كل واحد منهما يعني المتقدم والمتأخر بحال لو انفرد وضم إلى أيامها ازداد على العشرة.
وبيان هذا في امرأة أيام حيضها تسعة ورأت قبلها يومين دمًا، ورأت التسعة دمًا ورأت بعدها يومين دمًا فحيضها معروفها، وكذلك إذا كان أيام حيضها ستة فرأت قبلها ستة وبعدها ستة أو رأت قبلها خمسة وبعدها خمسة فحيضها معروفها.
وإن كان أحدها استحاضة:
ومعناه: أن يكون أحدها بحال لو ضم إلى أيامها يزيد على العشرة، والآخر لم يكن استحاضة على هذا التفسير فأيامها حيض والتي هي استحاضة لا يلحق بأيامها وهل يتعدى إلى الآخر حتى يجعله استحاضة فعن أبي حنيفة روايتان، ذكر في (الأصل) عنه أنه لا يتعدى؛ لأن أيامها فاصل من الدمين فبطل الجمع بين المتقدم والمتأخر.
بيان هذا في امرأة أيام حيضها تسعة فرأت قبلها يومين دمًا وبعدها يومًا دمًا فالمتقدم استحاضة؛ لأنه لو انفرد وضم إلى أيامها يزيد على العشرة، فالمتأخر ليس باستحاضة؛ لأنه لو انفرد وضم إلى أيامها لا يزيد على العشرة.
ففي هذه الصورة: أيامها حيض والمتقدم استحاضة، وهل يصير المتأخر استحاضة؟ فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان في رواية (الأصل): يعتبر استحاضة، وهو قولهما وهو الصحيح، وهذا بخلاف ما تقدم وهو ما إذا كان أيامها أربعة ورأت قبلها ثلاثة دمًا إن المتقدم استحاضة في إحدى الروايتين عنه، ولا يجعل المتأخر استحاضة؛ لأن ذلك الدم بنفسه ليس باستحاضة، وإنما جعل استحاضة ضرورة العجز عن القول بالتبعية، فلا يعتبر استحاضة في غير موضع الضرورة، فأما هذا فاستحاضة مطلقة فجاز أن يؤثر في غيره.
وإذا كان أيامها ستة فرأت قبلها أربع وبعدها خمسة فهاهنا المتأخر استحاضة والمتقدم ليس باستحاضة، وهل يؤثر المتأخر في المتقدم فيجعله استحاضة فهو على ما قلنا.
ومن جملة صورة هذه المسألة: إذا كان أيامها خمسة فرأت أيامها دمًا، ويومين قبلها وستة بعدها فهاهنا المتأخر دم استحاضة والمتقدم ليس بدم استحاضة وإن رأت أيامها دمًا وستة قبلها أو يومين بعدها فهاهنا المتقدم دم استحاضة.
ومما يتصل بالمقدم من المسائل:
امرأة أيام حيضها خمسة من رأس كل شهر فرأت هي قبل خمسها خمسة دمًا وطهرت أيامها ثم رأت بعد ذلك يومًا أو يومين أو ثلاثة دمًا فمعروفها هي الحيض في قول أبي يوسف رحمه الله.
وقال محمد رحمه الله: المتقدم هو الحيض، وكذلك إذا رأت يومين دمًا من أول أيامها أو من آخر أيامها مع ذلك، فإن المرئي في أيامها لا يمكن اعتباره حيضًا بانفراده، وإن رأت ثلاثة دمًا في أيامها مع ذلك من أولها أو آخرها فهذه الثلاثة حيض عند محمد رحمه الله؛ لأنه يمكن جعله حيضًا ثلاثة من أول الشهر فتقدم حيضها قبل ذلك أحد عشر يومًا ثم طهرت أيامها فلم تر فيها ولا فيما بعدها دمًا.
ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: هو استحاضة إلا أن يعاودها الدم في مثل ذلك الحال أحد عشر، فإن عاودها كانت ثلاثة أيام من الأيام الأولى من أولها حيضًا، وثلاثة أيام من أول هذه الأحد عشر الآخرة؛ لأنه لا يرى الإبدال فيجعل ذلك موقوفًا بأن تأكد بالتكرار تنقل العادة ومالا فلا.
وأما على قول محمد رحمه الله: فثلاثة أيام من أول أحد عشر الأولى حيض بطريق البدل برؤيتها ذلك عقيب طهر صحيح، وحكمة انتقال العادة موقوفة على ما يرى في الشهر الثاني كما قاله أبو حنيفة رحمه الله، وإن كان حيضها خمسة من أول كل شهر فحاضتها ثم استمر بها الدم أيام الشهر، فانقطع خمسها ثم استمر بها بعدها، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله حيضها خمستها لإحاطة الدمين.
وقال محمد رحمه الله: حيضها خمسة أيام بعد أيامها؛ لأن شرط الإبدال في المتقدم رؤيته عقيب طهر صحيح لا دم فيه، ولم يوجد ذلك، فيبدل لها بعد أيامها؛ لأنه يبقى بعدها الإبدال إلى موضع حيضها الثاني مدّة طهر تام.
وإن لم ترَ كذلك، ولكن رأت خمسة دمًا قبل أيامها وطهرت أيامها فتلك الخمسة هي الحيض عند محمد رحمه الله أو وجود شرط الإبدال في المتقدم، فإن رأت في المرة الثانية تلك الخمسة، وأيامها المعروفة وزيادة يوم دمًا فحيضها معروفها؛ لأن عادتها لم تنتقل؛ لأنها رأت المخالف مدّة، وإن لم ترَ في الثانية كذلك، ولكنها رأت الخمسة التي قبل أيامها، وطهرت أيامها ثم رأت في المرة الثالثة تلك الخمسة وأيامها ورأت زيادة يوم، فحيضها خمسة من أول ما رأت لانتقال العادة من حيث الموضع لعدم رؤيتها الدم في معروفها الدم مرتين.
وإن كانت هي طهرت أيامها مرة واحدة فحيضها من الخمسة المعروفة؛ لأن انتقال العادة لا يحصل بعدم الرؤية مرة إلا على قول أبي يوسف رحمه الله، وإن لم ترَ قبل أيامها لكن رأت بعدها خمسة ثم في المرة الثانية طهرت خمسها، وهذه الخمسة ثم استمر بها الدم فحيضها خمسة من حين استمر بها الدم؛ لأن عادتها قد انتقلت إلى موضع الرؤية بعدم الرؤية في أيامها مرتين.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): وما بعدها طهر إلى تمام الشهر من حين استمر بها الدم تكون حائضًا، كثير من مشايخنا قالوا هذا الجواب غلط والصحيح: أنها بعد ما تركت الصلاة من أول الاستمرار خمسة أيام تصلي ثلاثين يومًا؛ لأن عادتها في الطهر قد انتقلت إلى ثلاثين لرؤيتها ذلك مرتين على الولاء فف الشهر الأول طهرت خمسها بعدما مضى عن طهرها خمسة وعشرون، فذلك ثلاثون ثم رأت خمسة دمًا ثم طهرت عشرون مقدمة الشهر وطهرت أيامها من أول الشهر الآخر وخمسة بعدها فذلك ثلاثون أيضًا فعلم أنها طهرت ثلاثين يومًا على الولاء وانتقلت عادتها إليه في الطهر فتبقى هي على ذلك في زمان الاستمرار، ومن المشايخ من صحح ما ذكر في (الكتاب) وقال: المكان قد انتقل أما العدد لم ينتقل فبقي اعتبار العدد الأول والله أعلم.

.نوع آخر في رسم الفتوى:

المرأة إذا أخبرت أنها طهرت عشرة أيام ينبغي للمفتي أن يسألها إنك طهرت اليوم العاشر أو اليوم الحادي عشر إن قالت: اليوم العاشر أخذ تسعة، وإن قالت اليوم الحادي عشر أخذ عشرًا، واعلم بأن تمام العشرة الأيام في اليوم الحادي عشر قبل الساعة التي رأت الدم فيه في اليوم الأول بلا فصل، أما لو استقصينا في الساعات في مثل هذا تعسّر عليها الأمر فلا يستقصي في ذلك ولكن يسألها على نحو ما بيّنا.
وكذلك في هذا الأطهار، إذا أخبرت أنها طهرت عشرين ينبغي للمفتي أن يسألها أنك رأيت الدم دم العشرين أو يوم الحادي والعشرين، فإن قالت: يوم العشرين أخذنا تسعة عشر، وإن قالت: ويوم الحادي والعشرين أخذنا عشرين يفعل هكذا في جميع الصور إلا في دم ثلاثة أيام في طهر خمسة عشر، فإنا نستقصي في دم ثلاثة أيام إذا أخبرت أنها طهرت في اليوم الرابع في الساعات فخامة أن ينتقص الدم إليه عن ثلاثة أيام ولياليها، وكذلك تستقصي في طهر خمسة عشر إذا أخبرت أنها رأت الدم يوم السادس عشر، فخامة أن يقصر الطهر عن خمسة عشر.
وينبغي للمفتي أنها إذا أخبرت أنها اغتسلت من حيضها وطهرت، فلا تنقطع أن يسألها عن أيام حيضها وطهرها فإن أخبرت أن عادتها في الطهر عشرون وعادتها في الحيض عشرة أمرها بالصلاة من تمام العشرة عشرين يومًا ثم تدع الصلاة عشرة إذا رأت الدم وتصلي عشرين.
وإن أخبرت أن عادتها في الطهر عشرون، وفي الحيض ستة أيام أمرها بإعادة ما تركت من الصلاة بعد تمام الستة، وذلك أربعة وهو أول الطهر ثم يأمرها أن تصلي من ذلك الوقت إلى تمام طهرها، وذلك ستة عشر يومًا حتى يتم أيام طهرها عشرون يومًا ثم تدع الصلاة ستة أيام من موضع حيضها إن رأت الدم وهذه المرأة قد كانت أصابت كما رأت أيام حيضها ستة أيام، فتركت الصلاة إلى تمام العشرة؛ لأن هذا دم على إثر طهر تام فيكون حيضًا، وهكذا الجواب في كل دم كان على إثر طهر تام، إن المرأة تؤمر بترك الصلاة فيه من غير تقدير؛ لأن ما زاد على أيام حيضها دم على إثر الحيض فيكون تبعًا للمحيض حتى يظهر أنه ليس بحيض وذلك بأن تجاوز العشرة أو إن لم تجاوز، ولكن الطهر بعده ينتقص عن خمسة عشر.
ففي هذه الصورة كان حيضها معروفها، وما تأخر عن أيام حيضها يكون استحاضة، وتؤمر هي بإعادة الصلاة في ذلك، فأما إذا انقطع الدم على رأس العشرة أو فيما دون العشرة، والطهر بعده خمسة عشر يومًا لا يخالطه دم كان جميع ما رأته في أيامها وبعد أيامها حيضًا.
وإن أخبرت أن عادتها في الطهر كان عشرين يومًا، ولكن كان يختلف دمها إلا أنها تعلم أن الدماء كلها صحاح سألها عن دم واحد قبل هذا الدم الذي جاءت فيه وهي تستفتي، فيسألها: كم كان الدم الذي قبل الطهر الآخر، فإن قالت: عشرة لا يسألها عن شيء آخر عند أبي يوسف رحمه الله، وظهر له جواب مسألتها لأن العادة عنده تنتقل برؤية المخالف مرة، فإذا أخبرت أن الذي كان قبل الطهر الآخر عشرة والدماء كلها صحاح فقد عرف المفتي أن عادتها انتقلت إلى عشرة، فيأمرها أن تصلي إلى تمام عشرين يومًا ثم تترك الصلاة عشرة أيام إن رأت الدم، والفتوى على القول عشرة.
وإن أخبرت أن الدم الذي قبل الطهر الآخر كان سبعة أمرها بقضاء الصلاة ثلاثة أيام من هذه العشرة؛ لأنه ظهر أن عادتها في الحيض قد انتقلت إلى سبعة أيام، وقد رأت في هذه المدة فيأمرها بقضاء، وزيادة عليها فيكون حيضها عادتها، وذلك سبعة ويكون ما زاد على ذلك استحاضة، وذلك ثلاثة أيام..... ثلاثة أيام من هذه العشرة، لهذا.
فإن أخبرت أنها لا تحفظ الأطهر خمسة عشر ودم عشرة، فهذا لا يكفي الاستئناف؛ لأنها لو أخبرت عن ثلاثة أطهار، كأنها خمسة عشر وعن ثلاثة دمًا كلها عشرة، فهذا لا يكفي الاستئناف لما نبين بعد هذا، فهذا أولى.
وإذا لم يصلح ذلك الاستئناف وجب البناء، ولا تدري على ما تبني فيقول لها المفتي اذهبي، وتذكري أيامك وإلا وأنت والضالة سواء، الحكم في الضالة يذكر بعد هذا أو إن أخبرت أن ما قبل ذلك من الأطهار كان خمسة عشر، إلا أنها لا تدري هل كان بينهما استحاضة أو لو لم يكن، فهذا يكفي الاستئناف؛ لأتيقنا بخلوص طهر خمسة عشر يومًا؛ لأنه بين دمين؟ يرى، وكانت الأطهار قبل هذا أكثر من خمس عشرة، فتنقل إليها أيامها برؤية خلافها مرة وتيقنا بخلوص دم عشرة؛ لأنه بين طهرين تامين فتجددت العادة، والعادة إذا تجددت وجب الاستئناف فمن أول الاستمرار عشرة حيض وخمسة عشر طهر فيأمرها بالصلاة تمام خمسة عشر، وتترك الصلاة بعد ذلك عشرة إن رأت الدم، وإن أخبرت أن أقل ذلك من الأطهار أكثر من خمسة عشر، وإنها لم تكن مستحاضة، فهذا أعلى ثلاثة أوجه:
أما إن أخبرت أن ما قبله من الأطهار المتقدمة كانت متفقة أو كانت مختلفة أو لا تدري، وفي الوجوه الثلاثة يكفيها ذلك الاستئناف؛ لأن عادتها المتقدمة أصلية كانت أو جعلية تنتقل إلى طهر خمسة عشر برؤية المخالف مرة، والعادة إذا تجددت وجب الاستئناف.
وإن أخبرت عن طهرين قبل هذا الدم الذي جاءت، وهي فيه كلاهما خمسة عشر وبينهما دم عشرة لا يحفظ ما قبل ذلك، فهذا لا يكفيها الاستئناف؛ لأن ما قبلها لعله لا يكون أكثر من طهر خمسة عشر، فلا تنتقل العادة إلى طهر خمسة عشر ولم تجدد العادة، والعادة إذا لم تتجدد بالانتقال لا يجب الاستئناف، ويجب البناء وما تدري على ماذا تبني فتكون هي والضالة سواء.
وإن أخبرت أنها لم تكن مستحاضة إلا أنها لا تدري أن الأطهار المتقدمة كانت خمسة عشر أو أكثر من خمسة عشر، فهذا يكفي الاستئناف؛ لأنها إذا لم تكن مستحاضة قبل ذلك، فالأطهار المتقدمة إن كانت خمسة عشر تبقى كذلك، وإن كانت أكثر من خمسة عشر أو رأت طهرًا طويلًا صار الطهر الطويل عادة لها؛ لأنها خالص ثم انتقلت العادة إلى خمسة عشر، فتترك الصلاة والصوم من أول الاستمرار عشرة وتصلي خمسة عشر بخلاف المسألة الأولى؛ لأن ثمة يحتمل أن الأطهار المتقدمة خمسة عشر ورأت طهرًا طويلًا، خالطة دم لما تبين، فيجب البناء ثم لم ترَ طهرًا أكثر من خمسة عشر لتنتقل العادة إليه، فلم تنتقل إلى خمسة عشر، فيجب البناء لا تدري على ماذا تبني.
وإن أخبرت أن الأطهار التي كانت قبل هذين الطهرين كانت أكثر من خمسة عشر لكنها لا تدري أنها كانت مستحاضة أو لم تكن فهذا أيضًا يكفيها للاستئناف؛ لأن الطهر الآخر خالص بتيقين؛ لأن الطهر الخالص ما بين دمين..... وقد وجد، وقد علم أن ما قبلها من الأطهار وأكثر منهما فتنتقل إليها العادة والعادة إذا تجددت بالانتقال يجب الاستئناف، فتدع عشرة وتصلي خمسة عشر.
وإن أخبرت عن ثلاثة أطهار كلها خمسة عشر، وعن المائة دمًا كلها عشرة عشرة وليست تحفظ قبل هذا شيئًا، فهذا لا يكفي الاستئناف؛ لأنه يتوهم أن العادة كانت خمسة عشر ثم طهرت طهرًا طويلًا أو هو ثلاثة وثلاثون في خلاله دم، فيجب البناء ولا تدري على ماذا تبني.
وإن أخبرت أنها لم تكن مستحاضة ولكن لا تدري أن ما قبل هذه الأطهار، وهذه الدماء الأطهار كانت أكثر من خمسة عشر أو خمسة عشر والدماء كانت عشرة أو أقل، فإن هذا يكفيها الاستئناف؛ لأنها لم تكن مستحاضة من قبل، فإن كانت الأطهار المتقدمة أكثر من خمسة عشر انتقلت إلى خمسة عشر، وإن خمسة عشر تبقى خمسة عشر، أكثر ما في الباب أنه يتوهم طهر طويل خالص، فيصير ذلك عادة لها في الطهر؛ لأن العادة تنتقل برؤية المخالف مرة ثم تتقل العادة إلى خمسة عشر، فإن أخبرت أن الأطهار المتقدمة كانت أكثر من خمسة عشر، فهذا يكفي الاستئناف من طريق الأولى.
والحاصل: أن شرط الاستئناف من أول الاستمرار شيئان اثنان:
أحدهما: أن تخبر عن طهر صحيح، والطهر الصحيح أن يكون خمسة عشر فصاعدًا بين دمي....
والثاني: أن تخبر أنها لم تكن مستحاضة من قبل أو تخبر عن طهر صحيح آخر مخالفًا لهذا الطهر والله أعلم.
وإذا كانت للمرأة أيام حيض وطهر معروفة، فاستحاضت فلم تهتم لرؤيتها حتى أتى عليها زمان ثم ندمت على ما فرطت، فجاءت تستفتي وهي موضع حيضها ولا موضع طهرها، وتعلم عادتها في الحيض والطهر أو لا تعلم، فإنها تتحرى عندنا؛ لأن هذا اشتباه وقع في أمر من أمور الدين، فاشتبه اشتباه القبلة والسهو في أعداد الركعات، فإن استقرّ أكثر رأيها وظنها على موضع حيضها، وعددها فظنت على ذلك كما في باب القبلة، فتصلي في كل زمان هي طاهر بغالب الظن، ولكن بالوضوء لوقت كل صلاة، وتدع الصلاة في كل وقت هي خالص بغالب ظنها، وكل زمان لم يستقر رأيها فيه على شيء، وترددت بين الحيض والطهر لم تمسك عن الصلاة الفرض لاحتمال أنها طاهرة في ذلك الزمان، فعليها ذلك.
ويحتمل أنها خالص فليس عليها ذلك فاستوى فعل الصلاة وتركها في حق الحل والحرمة، والباب باب العبادات، فتحتاط فيها وتصلي؛ لأنها إن صلت وليس عليها ذلك خيرًا لها من أن تتركها، وعليها ذلك، فعند ذلك ينظر إن كان التردد بين دخول الحيض، والطهر صلت فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، وإن كان التردد بين الطهر وبين الخروج عن الحيض صلت فيه لا تغسل لوقت كل صلاة بالشك استحسانًا، والقياس أن تغتسل في كل ساعة؛ لأنه ما من ساعة إلا وتتوهم وقت خروجها من الحيض، فتغتسل احتياطًا.
وجه الاستحسان: أن إيجاب الاغتسال عليها في كل ساعة حرج عظيم؛ لأنها تصير مشغولة عن إقامة الصلوات وإصلاح أمر المعيشة؛ ولأن الاغتسال لأداء الصلاة، فإنها تغتسل لتصير أهلًا لأداء الصلاة ولو وجب عليها الاغتسال في كل وقت لتقاعدت هي عن الصلاة، وإنا اكتفينا باغتسال واحد في كل صلاة؛ لأن لها حق شغل جميع الوقت بالصلاة، فهي وإن لم تفعل جعل حكمًا كأنه شغلته وأقيم الوقت مقام الصلاة للضرورة.
قال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: والصحيح: أنها تغتسل لكل صلاة للنصوص، فإن زينب بنت جحش استحيضت سبع سنين فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالاغتسال لكل صلاة وبه أمر حبيبة رضي الله عنها أيضًا. وهكذا روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما، وعن الفقيه أبي سهيل أنها إذا اغتسلت في وقت صلاة وصلت ثم اغتسلت في وقت صلاة أخرى أعادت الصلاة الأولى ثم تصلي الوقتية، وهكذا تصنع في كل صلاة احتياطًا لاحتمال أنها كانت حائضًا في وقت الصلاة الأولى وتكون طاهرة في وقت الصلاة الثانية، فتفعل كذلك لتتيقن بأداء أحدهما بصفة الطهارة ولها أن تصلي السنن المشهورة، لكنها تبعًا للفرائض، لأنها شرعت جبرًا النقصان لكن في الفرائض فيكون حكمها حكم الفرائض، وتصلي الوتر أيضًا، ولا تصلي تطوعًا سوى هذه السنن المشهورة، لترددها بين المباح والبدعة.
وإذا صلت الفريضة لا تطيل المرأة بل تقرأ الفاتحة وسورة قصيرة، وقال بعض مشايخنا: تقرأ في الأوليين عند أبي حنيفة رحمه الله آية واحدة وثلاث آيات قصار، وعندهما بقدر ما تجوز به الصلاة، وقيل: تقرأ الفاتحة في الأوليين من المكتوبات وفي كل ركعة من السنن، ولا تقرأ غيرها.
وقيل: إنها تقرأ في الأوليين من المكتوبات وفي كل ركعة من السنن، الفاتحة وسورة قصيرة أو ثلاث آيات؛ لأنها واجبة وهو الصحيح ولا تقرأ في الأخريين من المكتوبات أصلًا عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تقرأ وهو الصحيح، لأن قراءتها واجبة في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله.
قال بعض مشايخنا: ولا تقنت باللهم إنا نستعينك؛ لأنهما سورتان من القرآن عند عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما، وغيرهما من الدعوات تقوم مقامه احتياطًا، ولا تقرأه احتياطًا وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (مختصر كتاب الحيض): أنها تقرأ اللهم إنا نستعينك.
ولا تقرأ القرآن في غير الصلاة لاحتمال قيام الحيض، هكذا وقع في بعض النسخ وفي بعض النسخ نقول: ولا تقرأ آية تامة في غير الصلاة، ولا تمس المصحف، ولا تدخل المسجد، فإن سمعت سجدة وسجدت للحال سقطت عنها؛ لأنها إن كانت طاهرة فقد أدت ما لزمها وإن كانت حائضًا لم تلزمها، وإن سجدت بعد ذلك أعادتها بعد عشرة أيام، لجواز أن السماع كان في الطهر والأداء في الحيض، فإذا عادت بعد عشرة أيام، فقد تيقنت بالأداء في الطهر في إحدى المرتين. وإن كان عليها صلاة فائتة تقضيها، فعليها إعادتها بعد عشرة أيام عند مشايخ بخارى تيقنًا أن إحدى العشرين أيام طهرها.
وقال أبو علي الدقاق: إعادتها بعد تمام العشرة قبل أن تزيد على خمسة عشر وهو الصحيح؛ لأن بعد انقضاء خمسة عشر يجوز أن يعود حيضها.
ولا تطوف للتحية؛ لأنه تردد بين البدعة وبين السنّة، وتطوف الزيارة ثم تعيد بعد عشرة أيام؛ وهذا لأن طواف الزيارة ركن فلا تتركه لاحتمال الحيض وتعيدها بعد عشرة أيام، لتتيقن بصحة أحدهما فتتحلل بيقين وتطوف للصدر ثم لا تعيده أما تطوف؛ لأن طواف الصدر واجب، فلا تتركه لاحتمال الحيض ولا تعيده؛ لأنها إن كانت طاهرة، فقد خرجت عن العهدة، وإن كانت حائضًا فليس عليها طواف الصدر.
ولا يأتيها زوجها أبدًا، ومن المشايخ من قال: يأتيها زوجها بالتحري؛ لأن الطهر غالب على الحيض؛ لأنه أكثر من الحيض وعند غلبة الحلال الحرام يجوز التحري كما في المشايخ، ولكن هذا باطل فقد نص محمد رحمه الله في كتاب التحري أن التحري في باب الفروج لا يجوز.
ولا تفطر في شيء من شهر رمضان لتوهم الطهر في كل يوم ثم بعدما مضى رمضان تقضي أيام الحيض في الشهر، وأكثر ما يكون حيضها في الشهر عشرة أيام سواء كان الشهر كاملًا أو ناقصًا، لأن باقي الشهر يكون للطهر، فإن نقص الشهر ينقص في الطهر لا في الحيض.
وهذا إذا كان يعرف أن حيضها في كل شهر مرة إلا أنها لا تعرف مقدار حيضها، فإن في هذه الصورة يجعل حيضها عشرة ثم المسألة على ثلاثة أوجه:
إن علمت أن ابتداء حيضها كأن يكون بالليل فعليها قضاء عشرين يومًا؛ لأن أكثر ما فسد صومها في الشهر عشرة، فربما وافق القضاء أيام حيضها في الشهر الثاني، فعليها أن تقضي عشرة أخرى لتخرج عن العهدة بيقين، ويستوي إن كانت تقضي بعد الفطر من غير تأخر أو كانت تؤخر القضاء مدة معلومة؛ لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فإن أكثر ما يفسد من صيامها أحد عشر؛ لأن ابتداء الحيض إذا كان في بعض النهار فتمام العشرة يكون في اليوم الحادي عشر، فعليها أن تقضي بعد الفطر اثني وعشرين يومًا قضت هي بعد الفطر من غير تأخر أو أخرت القضاء مدة طويلة، لجواز أن يوافق شروعها في القضاء حيض عشرة أيام، فيفسد صوم أحد عشر يومًا، فعليها أن تصوم أحد عشر يومًا أخرى لتخرج عن العهدة بيقين.
وإن لم تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار يحمل على أنه يكون بالنهار؛ لأن هذا أحوط الوجوه، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر رحمه الله، وغيرُه من المشايخ قالوا: تقضي من صيام عشرين يومًا؛ لأن الحيض في كل شهر تسعة أيام، وطهرها بقية الشهر إلا أنها لا تعرف موضع حيضها، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فإنها تقضي بعد رمضان ثمانية عشر يومًا.
فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فإنها تقضي بعد رمضان ثمانية وعشرين يومًا؛ لأن أكثر ما تفسده من صيامها في الوجه الأول تسعة، وفي الوجه الثاني عشرة، فتقضي ضعف ذلك لاحتمال اعتراض الحيض في أول يوم القضاء.
وإن لم تعلم ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار فإنها تقضي عشرين يومًا بلا خلاف، هذا إذا علمت أن دورها كان في كل شهر، وإن لم تعلم أن دورها في كل شهر، فعليها أن لا تفطر في شيء في رمضان احتياطًا، وعليها إن عرفت أن ابتداء حيضها كأن يكون بالليل قضاء خمسة عشر يومًا؛ لأنه يجعل حيضها عشرة وطهرها خمسة عشر، وفي هذه الصورة بطريق الاحتياط، فإنها يفسد صومها، أما عشرة من أول الشهر وخمسة في آخره وخمسة من أول الشهر بقيّة حيضها وعشرة من آخر الشهر.
فبعد ذلك المسألة على وجهين: إما إن كانت تقضيه موصولًا لا بشهر رمضان، وفي هذا الوجه عليها قضاء خمسة وعشرين يومًا؛ لأنه إن كان فسد من صومها عشرة من أول الشهر وخمسة من آخر الشهر، فيوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه ثم يجزئها الصوم في أربعة عشرة، ثم لا يجزئها في عشرة ثم يجزئها في يوم فمن هذا الوجه كان عليها أن تصوم خمسة وعشرين فمن الوجه الأول عليها أن تصوم تسعة عشر فكان الاحتياط في أن تصوم خمسة وعشرين.
وإن كانت تقضيه مفصولًا فكذلك تقضي خمسة وعشرين يومًا للاحتمال أن ابتداء القضاء يوافق أول اليوم من حيضها، فلا يجزئها الصوم في عشرة ثم يجزئها في خمسة عشرة، وهذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يومًا، فأما إذا كان تسعة وعشرين يومًا، فعليها أن تصوم بعد الفطر؛ إذا وصلت عشرين يومًا وإذا وصلت أربعة وعشرين، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (مختصر كتاب الحيض).
فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فأكثر ما فسد من صومها في الشهر ستة عشر يومًا إلى أحد عشره من أوله وخمسة في آخره وأما خمسة من أوله بقية الحيض وأحد عشر من آخر.
فبعد ذلك المسألة على وجهين: أما إن كانت تقضيه موصولًا برمضان، وفي هذا الوجه عليها أن تقضي اثنين وثلاثين يومًا؛ لأن الاحتياط في هذه الأوجه يجوز أنها فسد من صومها أحد عشر من أول رمضان وخمسة من آخر رمضان ويوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه، ثم لا يجزئها صومها في خمسة أيام ثم يجزئ في أربعة عشر بعدها، ثم لا يجزئ في أحد عشر يومًا ثم يجزئ في يومين فتكون الجملة اثنا وثلاثون.
وإن كانت تقضيه مفصولًا عن رمضان فعليها قضاء ثمانية وثلاثون يومًا يجوز أن يوافق ابتداء القضاء أول زمان حيضها، فلا يجزئها صومها في أحد عشر يومًا ثم يجزئها في أربعة عشر يومًا لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في يومين، فجملة ذلك ثمانية وثلاثون فإذا صامت هذا العدد تيقنت بجواز صومها في ستة عشر يومًا، وذلك القدر كان واجبًا عليها.
هذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يومًا، فأما إذا كان تسعة وعشرين يومًا فعليها أن تصوم بعد الفطر إذا وصلت اثنين وثلاثين يومًا فكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (مختصر كتاب الحيض)، وإن كانت لا تدري أن هذا الحيض كان يكون بالليل أو بالنهار، فعند الفقيه أبي جعفر رحمه الله يأخذ بأحوط الوجهين، فتقضي ثمانية وثلاثين إن قضت مفصولًا، وإن قضت موصولًا تقضي اثنين وثلاثين، وعند عامة المشايخ تقضي خمسة وعشرين والصحيح قول أبي جعفر.
وإن كانت تعلم أن أيام حيضها ثلاثة ونسيت أيام طهرها يحمل طهرها على أقل الأطهار وخمسة عشر، فإذا صامت شهر رمضان كله ثم أرادت أن تقضي، فإن علمت بأن إنهاء حيضها كان يكون بالليل، وكان شهر رمضان ثلاثين يومًا صامت تسعة أيام وصلت بيوم الفطر أو فصلت.
أما إذا وصلت به؛ فلأنه يحتمل أنها حاضت في أول شهر رمضان ثلثه ثم طهرت خمسة عشر ثم حاضت ثلاثة ثم طهرت خمسة عشر، فقد فسد من صومها ستة أيام، فإذا وصلت، فقد جاز صيامها بعد يوم الفطر خمسة أيام، ثم تحيض ثلاثة فيفسد صومها، فصار ثمانية بقي عليها صوم يوم، فيصير تسعة، وأما إذا فصلت؛ فلأن الواجب عليها من القضاء ستة أيام، ويحتمل اعتراض الحيض في أول يوم القضاء، فيفسد صومها في ثلاثة ثم يجوز في ستة، فتصير تسعة.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار تصوم اثني عشر يومًا بعد يوم الفطر وصلت بيوم الفطر أو فصلت، أما إذا وصلت؛ فلأنه يحتمل أنها حاضت في شهر رمضان، فيفسد صومها في أربعة ثم يجوز في أربعة عشر، ثم يفسد في أربعة أيام، فقد فسد من صومها ثمانية، فإذا قضت موصولًا بالشهر جاز بعد الفطر صوم خمسة أيام ثم يستقبلها الحيض، فيفسد صوم أربعة أيام، وقد بقي عليها قضاء ثلاثة أيام، فجملة ذلك اثنا عشر، وأما إذا فصلت؛ فلأن الواجب عليها قضاء ثمانية ويحتمل أن بابتداء الحيض وافق أول يوم القضاء، فيفسد صومها في أربعة ثم يجوز في ثمانية فجملة ذلك اثنا عشر.
هذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يومًا، وإن كان تسعة وعشرين يومًا فتخريجه على قياس المسائل المتقدمة يعرف عند التأمل، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل.
وإن وجب على هذه المرأة صوم شهرين متتابعين في كفارة القتل أو في كفارة الفطر بأن كانت أفطرت قبل هذه الحالة، فإن الفطر في هذه الحالة لا توجب الكفارة لتمكن الشبهة في كل يوم لتردده بين الحيض والطهر فهذا على وجهين:
إن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، وكان دورها في كل شهر، فعليها أن تصوم تسعين يومًا؛ لأن الواجب عليها صوم ستين يومًا، فإذا كان دورها في كل شهر يجوز صومها في عشرين يومًا من كل ثلاثين يومًا، فإذا صامت تسعين، فقد تيقنت بجواز صومها في ستين يومًا.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار وكان دورها في كل شهر، فعليها أن تصوم مائة يوم وأربعة أيام، لجواز توافق ابتداء صومها ابتداء حيضها فلا يجوز صومها في أحد عشر يجزئها في تسعة عشر، ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في تسعة عشر، فبلغ العدد تسعين يومًا، وإنما جاز صومها في سبعة وخمسين يومًا ثم لا يجزئها أحد عشر ثم يجزئها في أربعة عشر تتمة ستين، فبلغ العدد مائة وخمسة عشر، وجاز صومها في ستين يومًا بتيقن.
وإن كانت لا تدري كيف ابتداء حيضها بالنهار أو بالليل فهو على الاختلاف الذي بينّا على قول الفقيه أبي جعفر رحمه الله: نأخذ بأحوط الوجهين، فتصوم مائة وأربعة أيام، وعلى قول أكثر مشايخنا تصوم تسعين يومًا.
وإن كانت لا تدري أن دورها كان في كل شهر، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فعليها أن تصوم مائة يوم لأنا نجعل في هذه الصورة عشرة وطهرها خمسة عشر، فكلما صامت خمسة وعشرين نتيقن بجواز صومها في خمسة عشر، فإذا صامت مائة جاز صومها في ستين يومًا بتيقن، فتسقط عنها الكفارة.
وإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار، فعليها أن تصوم مائة وخمسة عشر يومًا؛ لأن من الجائز أن ابتداء الصوم ابتداء حيضها، فلا يجزيها في أحد عشر ثم يجزيها في أربعة عشر ثم لا يجزيها في أحد عشر ثم يجزيها في أربعة عشر، فبلغ العدد مائة، وإنما جاز الصوم في ستة وخمسين منها ثم لا يجزيها في أحد عشر، ثم يجزيها في أربعة عشر تتمة ستين فيبلغ العدد مائة وإنما جاز صومها فيه في ستين.
وإن كانت لا تدري كيف كان ابتداء حيضها، فهو على الاختلاف الذي بيّنا ولو وجب عليها صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين، فإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فعليها أن تصوم خمسة عشر يومًا؛ لأنه إن وافق ابتداء حيضها لم يجزها صومها في عشرة، ويجزئها في ثلاثة بعده وذلك ثلاثة عشر.
وإن كان عند ابتداء صومها قد بقي من طهرها يوم أو يومان جاز صومها فيهما، ثم لم يجز صومها في عشرة، وانقطع التتابع، فإن صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين يجب متابعة، وعدد الحيض فيه لا يكون عفوًا لأنها تمر ثلاثة أيام خالية عن الحيض بخلاف الشهرين، وقد عرف ذلك في موضعه، فعليها أن تحتاط وتصوم خمسة عشر يومًا، حتى إذا كان الباقي من طهرها يومان حين شرعت في الصوم لم يجز صومها فيها عن الكفارة لانقطاع التتابع، وفي العشرة بعدها يقدر الحيض وجاز في ثلاثة بعده فكانت الجملة خمسة عشر، وإن شاءت صلّت ثلاثة أيام هي ثم بعده عشرة أيام وتصوم ثلاثة أخرى، فيتعين أن إحدى الثلاثين واتفقت زمان طهرها، وجاز صومها فيه من الكفارة.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار، فعليها أن تصوم ستة عشر يومًا؛ لأن الجائز أن الباقي من طهرها حين شرعت في الصوم يومان فلا يجزيها صومها فيه عن الكفارة لانقطاع التتابع، ثم لا يجزيها في أحد عشر يومًا بسبب الحيض ثم يجزيها في ثلاثة أيام، فتكون الجملة ستة عشر يومًا بسبب الحيض ثم يجزيها في ثلاثة أيام، فتكون الجملة ستة عشر يومًا ثم أفطرت أحد عشر يومًا ثم صامت ثلاثة أيام، فيتعين أن إحدى الثلاثين كان في زمان طهرها فتجزيها عن الكفارة، كذا قاله محمد رحمه الله.
قال القاضي الإمام الشهيد المحسن بن أحمد المروزي رحمه الله هو خطأ فإنه يجوز أن يكون اليوم الأول من الثلاثة الأولى يوم خروجها من الحيض، واليوم الثاني من الثلاثة الأخرى يوم دخولها في الحيض، فلا يجزيها إحدى الثلاثين، قال: والصحيح ما قاله أبو علي الدقاق: إنها تصوم ثلاثة أيام، وتفطر سبعة أيام وتصوم أربعة أو تفطر على وتطهر وعلى هذا قضاء رمضان أيضًا بأن كان الواجب عليها قضاء عشرة أيام بأن كان دورها في كل شهر، فإن شاءت صامت عشرين يومًا كما بيّنا، وإن شاءت صامت عشرة أيام في شهر ثم في شهر آخر عشرة أخرى سوى العشرة الأولى، للتيقن أن إحدى العشرين حيضها كان يكون في كل شهر ثلاثة أو أربعة، فعليها بعد مُضي رمضان قضاء ضعيف عدد أيامها، وإن شاءت صامت أيامها في عشرة من شهر ثم في شهر آخر صامت مثل ذلك، لتتيقن أن إحداهما يوافق زمان طهرها، فيجزيها من القضاء إلا أنا لم نشتغل به في قضاء رمضان؛ لأنه لا يتحقق عليها لنقصان العدد، وقد بيّناه في صوم كفارة اليمين؛ لأن التحقيق متحقق فيه، ولو وجب عليها قضاء صلاة تركتها في زمان طهرها صلت تلك الصلاة بالاغتسال ثم أعادتها بعد عشرة أيام ليخرج ما عليها بيقين، ليكون أحد الوقتين زمان طهرها.
ولو أن هذه المسألة كانت أمة، فاشتراها إنسان فعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله استبرأها بستة أشهر وعشرين يومًا إلا ساعتين، لجواز أن الشراء كان بعد ما مضى حيضها، فلا تُحتسب بهذه الحيضة من الاستبراء لأنه عشرة أيام إلا ساعة ثم بعده طهر ستة أشهر إلا ساعة ثم بعده الحيض عشرة أيام، فتكون الجملة ست أشهر وعشرون يومًا إلا ساعتين فيستبرئها به.
قال مشايخنا: هذا على قول من يجوز وطأها بالتحري، لأن المقصود من الاستبراء استباحة الوطء، أما على قول من لا يجوز وطأها أصلًا وهو الصحيح فلا حاجة له إلى هذا التكليف، ولو كانت المبتدأة حرّة وطلقها زوجها بعد الدخول بها، فعلى قول أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله: لا تنقضي عدتها في حكم التزوج بزوج آخر أبدًا، لما بيّنا أنها لا يقدر أكثر الطهر بشيء، وعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تنقضي عدتها بمضي تسعة أشهر وعشرة أيام غير أربعة ساعات من وقت الطلاق؛ لأنه يقدر أكثر الطهر ستة أشهر غير ساعة على ما مرّ. ومن الجائز أن الطلاق كان بعد مُضي ساعة من حيضها، فلا تحتسب هذه الحيضة من العدة، وذلك عشرة أيام غير ساعة ثم بعده يحتاج إلى ثلاثة أطهار، كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وثلاث حيض كل حيض عشرة أيام، فإذا جمعت بين هذه الجملة كانت الجملة سبعة عشر شهرًا وعشرة أيام غير أربع ساعات، فيحكم بانقضاء عدتها بمضي هذه المدة من وقت الطلاق، ويجوز لها أن تتزوج بزوج آخر بعدها.
وعلى قول من يقدر طهرها تسعة وعشرين على ما يأتينا تتزوج بزوج آخر بعد مضي أربعة أشهر ويوم واحد غير ساعة من وقت الطلاق؛ لأن من الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها، فلا تحتسب هذه الحيضة من العدة، وذلك عشرة أيام غير ساعة على ما مر، ومن الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها إلى الحيضة التي تنقضي بها العدة، وهي عشرة أيام بعد غير ساعة بعد ذلك يحتاج إلى ثلاثة أطهار كل طهر سبعة وعشرون إلى ثلاث حيض كل حيض عشرة، فتبلغ الجملة مائة وأحد وعشرين يومًا غير ساعة، فتتزوج بعد مضي هذه المدة وأما حكم انقطاع.
الرجعة للزوج في هذه المرأة، فنقول:
إذا مضى من وقت الطلاق تسعة وثلاثون يومًا يحكم بانقطاع الرجعة؛ لأن هذا أمر يُحتاط فيه. ومن الجائز أن حيضها كان ثلاثة وطهرها كان خمسة عشر، وكان وقوع الطلاق في آخر جزء من أجزاء طهرها، فتنقضي عدتها بمضي تسعة وثلاثين في هذه الصورة تنقضي عدتها بثلاثة حيض كل حيض ثلاثة وبطهرين كل طهر خمسة (عشر)، وهذا الجواب في حق امرأة لا تعرف مقدار حيضها في كل شهر، والله أعلم.

.في المرأة تضل عددًا في عدد:

إن سئل المفتي عن امرأة أقبلت أيامها فيما دونها من العدد بأن قبل أيامها كانت عشرة وأضلت في أسبوع، فهذا السؤال محال لامتناع وجودها في أسبوع، وكذلك إذا سئل عن امرأة أضلت أيامها في مثلها من العدد بأن قبل أيامها كانت سبعة، فأضلت ذلك في أيام خمسة، فهذا السؤال محال أيضًا؛ لأنها واجدة أيامها عالمة بها.
وإن سئل عن امرأة أضلت أيامها فيما فوقها من العدد، فهذا السؤال مستقيم ثم الأصل فيه ما ذكرنا أنّ كل زمان يتيقن بالحيض فيه تترك الصلاة والصوم، ولا يأتيها زوجها فيه بيقين وكل زمان يتردد فيه بين الحيض، والطهر لا تترك المكتوبات وصوم رمضان، فبعد ذلك إن كان التردد بين الطهر والخروج عن الحيض، فتصلي فيه بالاغتسال لكل صلاة أو لوقت كل صلاة على حسب ما اختلفوا بالشك، وإن كان التردد بين الطهر والدخول في الحيض تتوضأ لكل صلاة بالشك.
وأصل آخر أن المرأة متى أضلت أيامها في ضعفها من العدد أو أكثر منها، فإنها لا تتيقن بالحيض في شيء منه، ومتى أضلت أيامها فيما دون ضعفها من العدد، فإنها تتيقن بالحيض في شيء منها نحو ما إذا كانت أيامها ثلاثة، فأضلتها في خمسة، فإنها تتيقن بالحيض في اليوم الثالث منه، فإنه أول الحيض أو آخر الحيض أو الثاني منه بيقين فتترك الصلاة فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن علمت أن أيامها كانت ثلاثة، فأصلتها في العشرة الآخرة من الشهر، ولا تدري هي في أي موضع من العشرة ولا رأي لها في ذلك فإنها تصلي ثلاثة أيام من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر ثم بعده تصلي إلى آخر الشهر بالاغتسال لوقت كل صلاة أو لكل صلاة على حسب ما ذكرنا من الاختلاف بين المشايخ، للتردد بين الطهر والخروج من الحيض، إلا إذا تذكرت أن خروجها من الحيض في أي وقت من اليوم كان يكون، ففي هذه الصورة تغتسل في كل (يوم) في ذلك الوقت مرة، وإن لم تتذكر ذلك تغتسل لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، وإن أضلت أربعة في العشرة، فإنها تصلي أربعة من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر، ثم تغتسل بعد ذلك إلى آخر العشرة لكل صلاة أو لوقت كل صلاة للتردد بين الطهر والخروج عن الحيض.
وإن أضلت خمسة في العشرة، فإنها تصلي خمسة في أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تغتسل لوقت كل صلاة أو لكل صلاة على ما ذكرنا.
وإن أضلت ستة في العشرة من أول العشرة أربعة أيام أو بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تدع يومين، ثم تصلي أربعة أيام بالاغتسال لكل صلاة أو لوقت كل صلاة؛ لأن الخامس والسادس حيض بيقين؛ لأن أيامها إن كانت من أول العشرة، فالخامس والسادس آخر حيضها، وإن كانت من آخر الشهر فالخامس والسادس من أول حيضها ثم إلى أخرها ويتم الخروج، فتغتسل فإن أضلت سبعة في عشرة صلت في ثلاثة من أولها بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تدع أربعة لتيقننا بكونها أيام الحيض ثم تصلي ثلاثًا بالاغتسال لكل صلاة، أو لوقت كل صلاة.
وإن أضلت ثمانية في عشرة فإنها تصلي في يومين من أولها بالوضوء لكل صلاة ثم تدع الصلاة في ستة لتيقننا بكونها أيام الحيض ثم تصلي يومين بالاغتسال لتوهم الخروج عن الحيض؛ وإن أضلت تسعة في عشرة فإنها تصلي من أول العشرة يومًا بالوضوء ثم الصلاة ثمانية ثم تصلي يومًا بالاغتسال.
فإن قالت أضللت عشرة في عشرة، فهي واحدة عالمة بها، وهذا السؤال منها محال وإن علمت أنه كانت تطهر في آخر الشهر، ولا تدري كم كان أيامها توضأت لوقت كل صلاة، إلى تمام سبعة وعشرين من الشهر وصلت ثم تدع الصلاة ثلاثة أيام ثم اغتسلت غسلًا واحدًا في آخر الشهر، هكذا.
وذكر محمد رحمه الله في (الأصل) قالوا: والجواب الذي ذكره صحيح إلا أنه مبهم لأنه لم تميز وقت تيقنها بالحيض من وقت الطهر، وإنما تمام الجواب أنها إلى العشرين تتيقن بالطهر؛ لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام، فتتوضأ لوقت كل صلاة بيقين، ويأتيها زوجها ثم في تسعة بعد العشرين تردد حالها فيه بين الحيض والطهر؛ لأنه إن كان حيضها ثلاثة فهي السبعة من جملة طهرها، فتصلي فيها بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، وتترك الصلاة في ثلاثة أيام من آخر الشهر لتيقنها بالحيض فيه وقت الخروج من الحيض معلوم لها، وهو عند انسلاخ الشهر، فتغتسل في ذلك الوقت غسلًا واحدًا، فإن ذكرت أنها كانت ترى الدم إذا جاوزت عشرين يومًا، لكن لا تدري كم كانت، فإنها بعد العشرين تدع الصلاة ثلاثًا بيقين؛ لأن الحيض لا يكون أقل منها ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخره لما قلنا.
وإن علمت أنها كانت ترى الدم يوم الحادي والعشرين، ولا تتذكر سوى ذلك، فالجواب أنها تتيقن بالطهر إلى الحادي عشر من الشهر، فتصلي بالوضوء لوقت صلاة بيقين، ويأتيها زوجها ثم تصلي سبعة أيام بالوضوء بالشك لجواز أن اليوم الحادي والعشرين آخر حيضها وأيامها عشرة، ولا يأتيها زوجها في هذه السبعة، ثم تدع الصلاة في اليوم الحادي والعشرين؛ لأن فيه تيقن الحيض ثم تصلي إلى آخره بالاغتسال لكل صلاة، وإن علمت أنها كانت ترى الدم بعد مضي تسعة عشر من الشهر، ولا تدري كم كانت أيامها، فقد ذكر في بعض النسخ أنها تدع ثلاثة أيام بعد سبعة عشر لتيقن الحيض، ثم تصلي سبعًا بالاغتسال لكل صلاة بالشك.
وتأويل هذا إذا كانت تذكرت أن ابتداء حيضها كان يكون بعد سبعة عشر وفي عامة النسخ كانت تصلي بالوضوء ثلاثة أيام ثم بالاغتسال سبعة أيام، وهو الذي ذكره الحاكم في (المختصر). وإنما خالف بين جواب هذه المسألة وبين جواب المسألة الأولى؛ لأن موضوع هذه المسألة أنها لا تعلم أن حيضها، كان يكون متصلًا بمضي سبعة عشر من الشهر وإنما تعلم كونه في العشرة التي بعدها وإذا كان موضع المسألة هذا فهذه امرأة أضلت أيامها في العشرة، ولا تدري كم كان أيام حيضها وأقل الحيض بيقين ثلاثة، وقد بيّنا فيمن أضلت ثلاثة في عشرة أنها تتوضأ لوقت كل صلاة وثلاثة أيام من أولها، ثم الباقي بالغسل إن علمت أنها كانت تحيض في كل شهر مرّة في أوله أو آخره، ولا يدرى كم كان حيضها، فإنها تتوضأ من أوّل الشهر لوقت كل صلاة ثلاثة أيام، ولا يأتيها زوجها لترددها بين الحيض والطهر ثم تغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، ولا يأتيها زوجها ثم تتوضأ إلى آخر الشهر.
ولم يتميز في هذا الجواب بالزمان الذي فيه تيقُّن الطهر، فنقول في العشرة الأوسط تتوضأ لوقت كل صلاة؛ لأنها تتيقن بالطهر هاهنا، ويأتيها زوجها فيها ثم في العشرة الأخيرة، تتوضأ لوقت كل بالشك، ولا يأتيها زوجها فيها لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل هي أيام الشهر مرة واحدة.
وإن علمت أن أيامها خمسة، وأنها كانت ترى الدم في اليوم الحادي والعشرون، ولا تحفظ شيئًا آخر صلت بالوضوء من أول الشهر إلى خمسة عشر يتيقن الطهر ثم تصلي بالوضوء بالشك أربعة أيام، ثم تترك الصلاة في اليوم العشرين؛ لأنه من أيام الحيض بيقين ثم تغتسل بعدها أربعة أيام بالشك، لاحتمال الخروج عن الحيض.
وإذا كان للمرأة أيام معلومة في كل شهر انقطع عنها الدم أشهرًا ثم عاودها الدم واستمر، ونسيت أيامها تركت من أول الاستمرار ثلاثة أيام لتيقنها بالحيض فيها، فإن عادتها قد انتقلت إلى موضع الاستمرار، لعدم رؤيتها الدم في موضعها مرتين وزيادة فتتيقن بالحيض في ثلاثة أيام، فتترك الصلاة فيها ثم تغتسل لوقت كل صلاة في سبعة أيام لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج عن الحيض ثم تتوضأ عشرين يومًا لوقت كل صلاة لتيقنها فيها بالطهر ويأتيها زوجها فيها، وذلك دأبها.
هكذا ذكر محمد رحمه الله جواب المسألة في (الكتاب): وتأويلها أنه يُعلم أن دورها في كل شهر، وإن لم يعرف ذلك فلا ذكر له في (الكتاب) عن محمد رحمه الله، والجواب أن هذا لا يخلو من وجوه إما إذا كانت لا تعرف مقدار حيضها ومقدار طهرها.
وفي هذا الوجه تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثًا بيقين ثم تصلي بالاغتسال بالشكل لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج عن الحيض، ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة لاحتمال الحيض ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة، ويأتيها زوجها في هذه الثمانية لتيقنها بالطهر فيها، فإنه إن كان حيضها ثلاثة فهذا آخر طهرها، وإن حيضها عشرة، فهذا أول طهرها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، ولا يأتيها زوجها فيها، فقد بلغ الحساب أحد وعشرين، ثم تصلي بعد ذلك بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك؛ لأنه لم يبق بعده تيقين بالحيض أو بالطهر في شيء فما من وقت لا يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض، أما بالزيادة في حيضها على ثلاثة أو بالزيادة في طهرها على خمسة عشر.
وأما إن عرفت مقدار طهرها، ولم تعرف مقدار حيضها وفي هذا الوجه تترك الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام بيقين ثم تصلي سبعة أيام بالغسل لوقت كل صلاة بالشك؛ لأنها تتوهم في كل وقت أنه وقت خروجها من الحيض ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، فبلغ الحساب أحد وعشرين، فلو كان حيضها ثلاثة، فابتداء طهرها الثاني بعد أحد وعشرين، فلو كان حيضها عشرة، فابتداء طهرها الثاني من خمسة وثلاثين ففي هذه الأربعة عشر أعني بعد أحد وعشرين إلى خمسة وثلاثين تصلي بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك، لاحتمال خروجها عن الحيض من كل وقت من ذلك ثم تصلي يومًا واحدًا بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين، وذلك بعدما تغتسل عند تمام خمسة وثلاثين؛ لأن هذا اليوم من طهرها بيقين ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بالشك لتردد حالها فيه بين الحيض.
والطهر ثم تغتسل بعد ذلك بالشك أبدًا لوقت كل صلاة؛ لأنه لم يبق لها يقين الطهر بعده في شيء فما من ساعة لا يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض، فأما إن عرفت مقدار حيضها، ولم تعرف طهرها بأن عرفت أن حيضها كان ثلاثة، ولا تدري كم كان طهرها وفي هذا الوجه تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار بيقين، وتغتسل ثم تصلي خمسة عشر يومًا بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين، ويأتيها زوجها فيها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر، فبلغ الحساب أحد وعشرين يومًا، ولم يبق لها يقين في شيء بعد ذلك فتصلي فيها بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك؛ لأن ما من وقت بعدها إلا وتتوهم أنه وقت خروجها من الحيض.
وأما إن عرفت أنّ مقدار طهرها خمسة عشر وتردد رأيها في الحيض بين الثلاثة والأربعة وفي هذا الوجه تركت من أول الاستمرار ثلاثة ثم اغتسلت وصلّت في اليوم الرابع بالوضوء بالشك، ثم تغتسل عند مضي اليوم الرابع مرة أخرى ثم تصلي بالوضوء أربعة عشر يومًا بيقين، فبلغ الحساب ثمانية عشر ثم تصلي اليوم التاسع عشر بالوضوء بالشك، ثم تدع اليوم الحادي والعشرين بيقين، وتغتسل لتمام الحادي والعشرين، لاحتمال أنه وقت خروجها من الحيضة الثالثة بأن كان حيضها ثلاثة وتصلي اليوم الثاني والعشرين بالوضوء بالشك، ولا تغتسل لتمام الثاني والعشرين؛ لأنه ما على الحيض في حال بأن كان حيضها أربعة وطهرها في حال بأن كان حيضها ثلاثة، فلا تغتسل فيه، ولكن تصلي فيه بالوضوء بالشك ثم تغتسل عند تمام الثلاث والعشرين، لاحتمال أوان أن خروجها من الحيضة الثانية بأن كان حيضها ثلاثة، وتصلي للثاني والعشرين بالوضوء بالشك، ولا تغتسل للثاني والعشرين في أربعة ثم تصلي بثلاثة عشر يومًا بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب ستة وثلاثين ثم تصلي يومين بالوضوء بالشك، ثم تدع الصلاة يومًا واحدًا؛ لأن هذا اليوم آخر حيضها إن كان حيضها ثلاثة وأول حيضها إن كان حيضها أربعة فتتيقن فيه بالحيض، فبلغ الحساب تسعة وثلاثين ثم تغتسل لجواز الخروج من الحيض ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بالشك، فبلغ الحساب اثنين وأربعين، ثم تغتسل لاحتمال أن هذا أوان خروجها من الحيض بأن كان حيضها أربعة ثم تصلي اثني عشر بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب أربعة وخمسين ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب أربعة وخمسين ثلاثة بالشك ثم تغتسل وتصلي أربعة بالوضوء بالشك ونسوق المسألة هكذا، ونأمرها بالاغتسال في كل وقت يتوهم خروجها من الحيض؟...........
إذا كانت المستحاضة لا تذكر أيامها غير أنها تستيقن بالطهر في اليوم العاشر والعشرين والثلاثين، فإنها تصلي ثلاثة أيام من أول الشهر بالوضوء لوقت كل صلاة، لترددها بين الحيض والطهر ثم تصلي ستة أيام بالاغتسال لوقت كل صلاة، لاحتمال خروجها من الحيض في كل ساعة، ثم تصلي اليوم العاشر بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين الطهر ثم تصلي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر والثالث عشر بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لترددها فيه بين الحيض والطهر، ثم تصلي بعد ذلك لستة أيام بالاغتسال لوقت كل صلاة أو لكل صلاة، لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة ثم تتوضأ في اليوم العشرين، وتصلي بيقين الطهر ثم تصلي ثلاثة أيام بعدها بالوضوء بالشك، ثم تصلي ستة أيام بالاغتسال ثم تصلي اليوم الثلاثين بالوضوء بيقين الطهر.
ولا يجزيها صومها في سبعة أيام من رمضان ولتصم ضعفها ثمانية عشر يومًا قال الحاكم الشهيد رحمه الله: لو قضت صوم رمضان في هذه الأيام الثلاثة اليوم العاشر واليوم العشرين واليوم الثلاثين كفاها لتيقنها بالطهر فيها، والسابع في صوم القضاء ليس بشرط وما قضت من الفوائت في غير هذه الثلاثة، فلتعدها في هذه الأيام الثلاثة، ولا يأتيها زوجها إلا في هذه الأيام لأنا لا نتيقن بالطهر إلا فيها، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع:
إذا كان على المستحاضة صلوات فائتة قضت ما عليها في يوم إن قدرت عليها أو في يومين بالاغتسال لكل صلاة، ثم تعيدها بعد مضي عشرة أيام في اليوم الحادي عشر والثاني عشر لتتيقن بالأداء في زمان الطهر، والله تعالى أعلم.

.نوع آخر في استخراج معروفة:

امرأة كان حيضها عشرة وطهرها عشرين وطهرت أشهرًا ثم استمرّ بها الدم فلم تستفت في ذلك حتى عليها سنون لعارض اعترض بأن جنت أو تركت الاستفتاء فسقًا أو مخافة ثم ندمت على ذلك جاءت تستفتي أنها في الحيض أو في الطهر في أوله أو آخره، وهي تعلم يوم الاستمرار أي يوم ومن أي شهر، ومن أي سنة بأن علمت أن يوم الاستمرار مثلًا يوم الأربعاء الخامس من محرم سنة ثمان وستين وخمسمائة، ويوم الاستفتاء يوم الخميس الثامن عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فإن على المفتي أن يجمع عدد الأيام من أول الاستمرار إلى يوم الاستفتاء، فيأخذ السنين الكوامل وهي في هذه الصورة ثلاث سنين، ويضربها في شهور السنة وهي اثنا عشر فيصير ستة وثلاثين ويأخذ أيضًا الشهور الكوامل بعد ثلاث سنين وذلك هاهنا ستة، فتضم إلى الأول وذلك ستة وثلاثين، فيصير اثنين وأربعين ثم يضرب ما اجتمع، وذلك اثنين وأربعين في عدد أيام الشهور، وهو ثلاثون في الأصل، فيصير ألفًا ومائتين وأربعين في عدد أيام الشهور وهو ثلاثون في الأصل، فيصير ألفًا ومائتين وستين يضم إليها ما بقي من الأيام من يوم الاستمرار إلى يوم الاستفتاء بعد السنين الكاملة، والشهور الزائدة عليها وهي ثلاثة عشر، فيصير ألف ومائتين وثلاثة وسبعين إلا أن كل الشهور لا تكون كاملة كلها، ولا تكون ناقصة بل يكون نصفها كاملة ونصفها ناقصة هذا هو الغالب. وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه والذي أجتمع عندنا من الشهور اثنان وأربعون ينقص عما اجتمع عندنا عن الأيام أحد وعشرون، والذي اجتمع عندنا من الأيام ألف ومائتين وثلاثة وسبعين، فيطرح عنها أحد وعشرون يبقى هناك ألف ومائتان واثنان وخمسون، ثم ينظر المفتي إلى دورها، وذلك ثلاثون يومًا حيضها عشرة من أولها ثم طهرها عشرون، وهذا عدد له ثلث صحيح وعشر صحيح، فيطرح من جملة ما اجتمع عندنا ما له ثلاث صحيح وعشر صحيح، وذلك ألف ومائتان وثلاثون يبقى هناك اثنان وعشرون إلى تمام ألف ومائتين وخمسين ليس ثلث له صحيح وعشر صحيح، فعشرة منها من أولها حيض واثنا عشر مضى من طهرها، وقد بقي من طهرها ثمانية ثم بقي معنا إن المعنى يجوز أن يكون مصيبًا في أخذ الطرح بأن كان عدد الكوامل من الشهور مثل عدد النواقض من الشهور يجوز أن يكون مخطئًا فيها بأن كان عدد الكوامل أو النواقص أكثر، فالوجه في معرفة الصواب والخطأ في الطرح أن بعد المفتي ما حصل معه من الأيام من يوم الاستمرار أو إلى يوم الاستفتاء بأيام الجمعة سبعة سبعة؛ إذ أيام الجمعة تزيد على السبعة ولا تنتقص، فيحط سبعة سبعة ويحفظ عدد أيام التي تنتقص من السبعة في العافية، فيعامله بعدما مضى من يوم الاستمرار أو إلى يوم الاستفتاء في أيام الجمعة، وذلك سبعة، فإن استويا ظهر أنه كان مصيبًا في الطرح. وإن تفاوتا ظهر أنه كان مخطئًا في الطرح، فيرفع الخطأ بأن يزيد في الطرح أو ينتقص في الطرح.
إذا ثبت هذا فنقول: اجتمع عندنا من الأيام من أول الاستمرار إلى يوم ستفتاء بعد طرح أحد وعشرين ألفًا، فيطرح منها سبعة يطرح أولًا سبعمائة، ثم يطرح نصفها ثلاثمائة وخمسون ثم؛ مائة وأربعون ثم ست وخمسون، فجملة المطروح ألف ومائتان وستة وأربعون، يبقى هناك ستة إلى تمام ألف ومائتين واثنين وخمسين، وأول الاستمرار كان يوم الأربعاء. والسؤال يوم الخميس، فذلك يومان والباقي هاهنا ستة، فوقع الخطأ بأربعة، فيزيد المفتي في النواقص أربعة أيام ويلحقها بالكوامل، ويزيد هذه الأربعة على أصل الحساب، وذلك ألفًا ومائتان وخمسون، فيصير ألف ومائتين وستة وخمسين، وقد طرحنا من الابتداء ألفًا ومائتان وثلاثين بقي إلى تمام ما اجتمع عندنا في الآخرة، وذلك ألف ومائتين وستة وخمسون ستة وعشرون عشرة من أولها حيض وستة عشر يومًا مضت من طهرها بقي من طهرها أربعة، فتصلي أربعة ثم تفصل عشرة ثم تصلي عشرين.

.الفصل التاسع في النفاس:

هذا الفصل يشتمل على أقسام:
الأول: يجب أن يعلم بأن النفاس هو الدم الذي يخرج عقيب الولادة.
قيل: إنه مشتق من النفس التي هو عبارة عن الولد بخروج الولد لا ينفك عن بلّة دم.
وقيل: هو عبارة عن نفس الولادة يقال: نفست المرأة ولدًا فهي نفساء، والولد منفوس والولد لا ينفك عن بلّة دم ولو ولدت ولم ترَ هي دمًا، فهي نفساء في رواية الحسن عن أبي يوسف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ثم رجع أبو يوسف، وقال هي طاهرة.
وثمرة الخلاف تظهر في حق وجوب الغسل، فأما الوضوء فواجب بالإجماع؛ لأن الولد لا ينفك عن بلّة تخرج معه، وتلك البلّة حدث يوجب الوضوء بالإجماع، فوجه قول أبي يوسف الآخر أن النفاس عبارة عن الدم الخارج من الرحم، يقال للمرأة إذا رأت الدم عقيب الولد: نفست، فإذا لم ترَ الدم لم تكن نفساء والغسل من حكم النفاس في هذه الصورة.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن النفاس مأخوذ من كل واحد مما ذكرنا وكل واحد منهما لا يخلو عن بلّة دم، وأكثر المشايخ أخذوا بقول أبي حنيفة رحمه الله وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله، وبعضهم أخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله.
ثم الأمة أجمعت على وجوب الغسل بالنفاس، فإما أن يكون باجتماعهم بناءً على نص ورد فيه، واكتفوا بالإجماع عن نقل النص لكون الإجماع أكثر منه، أو يكونوا قاسوه على دم الحيض لعلة أنه دم خارج عن الرحم، ويجوز انعقاد الإجماع عن القياس، وليس لعله له غاية على ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله؛ لأنه لم يرد الشرع بتقديره، القليل منه كالكثير من حق كونه حدثًا فيكون هو نفاسًا، بخلاف قليل الحيض حيث يقدّر وهو في نفسه لورود الشرع بتقديره، ولا تقدير هاهنا فيتبع فيه القياس؛ ولأن دم الترك ما يكون من الرحم ولديه النفاس علامة يستدل بها على أنه من الرحم وهو خروج الولد بخلاف دم الحيض، فإنه له علامة عليه، فيستدل على ذلك بالامتداد ومقدار الاعتداد عرف بالشرع.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه قال أقل مدة النفاس مقدر بأحد عشر يومًا. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قدره بخمسة وعشرين يومًا وأكثر مدة النفاس مقدر بأربعين يومًا عندنا. وقال الشافعي: بستين يومًا، وقال مالك: بسبعين يومًا واعتمادنا على حديث أم سلمة رضي الله عنها حيث قالت: كانت النفساء تعتد على عهد رسول الله عليه السلام أربعين يومًا، وفي حديث أبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: «وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلّم للنفساء أربعين صباحًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك»، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: وقّت رسول الله عليه السلام للنفساء أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، وإن زاد الدم على الأربعين فالزيادة على الأربعين استحاضة والأربعون نفاس في المبتدأة، وصاحبة العادة معروفها نفاس والزيادة عليها استحاضة.

.نوع منه في الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس:

قال أبو حنيفة رحمه الله: الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس لا يعتبر فاصلًا بين الدمين، سواء كان أقل من خمسة عشر أو كان خمسة عشر أو أكثر منها، ويجعل إحاطة الدمين بطرفه كالدم المتوالي؛ لأن الأربعين في النفاس عنده بمنزلة العشرة في الحيض، ثم الطهر بين العشرة في الحيض لا يعتبر فاصلًا بين الدمين عنده، وتجعل إحاطة الدمين بطرفيه كالدم المتوالي، وكذا في النفاس.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا كان الطهر المتخلل بين أربعين خمسة عشر فصاعدًا، يصير فاصلًا بين الدمين، ويجعل الأول نفاسًا والثاني حيضًا إن أمكن وإن كان أقل من خمسة عشر لا يصير فاصلًا بين الدمين، ويجعل كالدم المتوالي، فأبو يوسف رحمه الله سوّى بين النفاس وبين الحيض، فلم يجعل الطهر أقل من خمسة عشر فاصلًا بين الدمين فيها ومحمد رحمه الله (فرق) بينهما فجعل الطهر أقل من خمسة عشر في العشرة فاصلًا، ولم يجعله في الأربعين فاصلًا.
ووجهه: أنه إنما جعل ما دون خمسة عشر من الطهر في العشرة فاصلًا إذا كان الطهر غالبًا على الدم، ويتصور أن يكون طهر ما دون خمسة عشر غالبًا على الدم في العشرة، أما لا يتصور أن يكون طهر ما دون خمسة عشر، فالأربعين غالبًا على الدم، في افترقا.
إذا رأت بعد الولادة يومًا دمًا وثمانية وثلاثين يومًا طهرًا ويومًا دمًا، فالأربعون كلها نفاس عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما نفاسها الدم الأول. ولو رأت مبتدأة خمسة دمًا بعد الولادة، فإن بلغت بالحبل وخمسة عشر يومًا طهرًا ثم رأت خمسة دمًا ثم رأت خمسة عشر يومًا طهرًا ثم استمرّ بها الدم، فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله نفاسها هي الخمسة وعادتها في الطهر تكون خمسة عشر؛ لأنها رأت ذلك مرتين ولو رأت ذلك مرّة أليس أنها تصير عادتها لها، فهاهنا أولى ويكون حيضها هي الخمسة التي رأتها بعد العشرين، ويصير ذلك عادة لها برؤيتها إياها مرّة لكونها مبتدأة في الحيض.
وعند أبي حنيفة رحمه الله نفاسها يكون خمسة وعشرون، الطهر الأول غير معتبرة عنده أصلًا لإحاطة الدم بطرفيه في الأربعين، والطهر الثاني صحيح معتبر؛ لأنه تم الأربعون ما أحاط الدم بطرفيه في مدة الأربعين، وتصير عادتها في الطهر خمسة عشر لرؤيتها ذلك مرة لكونها مبتدأة ولا عادة لها في الحيض، فيجعل حيضها من أول الاستمرار خمسة؛ لأنها صارت عادة لها عندهما وطهرها خمسة عشر وتصير عادة لها في النفاس عند أبي حنيفة خمسة وعشرون، وعندهما خمسة.

.قسم آخر في معرفة وقت النفاس:

وقد اختلف العلماء قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فهو من ولادة الولد الأول، وقال محمد وزفر رحمهما الله: هو من الولد الثاني.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا ولدت وفي بطنها ولد آخر. قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: كما ولدت الولد الأول تصير نفساء، وقال محمد (وزفر) رحمه الله: لا تصير نفساء ما لم تلد الولد الثاني.
حجة محمد وزفر رحمهما الله: أن النفاس حكم يتعلق بالولادة، كانقضاء العدة في حق انقضاء العدة يعتبر الولد الآخر، فكذا في حق النفاس وربما يقولان النفاس بمنزلة الحيض من حيث إن كل واحد منهما ينزل من الرحم ثم الحبل ينافي الحيض، فينافي النفاس أيضًا.
ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أن النفاس مأخوذ من واحد مما ذكرنا، فإنه يحصل بولادة الولد ودم الحامل إنما لا يعطى له حكم الحيض؛ لأنه ليس من الرحم؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنّ المرأة إذا حبلت ينسد فم رحمها، وهذا المعنى لا يوجد هاهنا؛ لأن فم الرحم قد انفتح بخروج الولد الأول، فكان نفاسًا. اعتبار النفاس بانقضاء العدة لا يصح، لأن انقضاء العدة متعلق بفراغ الرحم، ولا فراغ مع بقاء شيء من التنفل، فأما النفاس يتعلق بخروج الولد، وقد وجد خروج الولد.
وإن كان بين الولدين أربعون يومًا فصاعدًا، فقد اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله قال بعضهم يجب عليها النفاس من الولد الثاني أيضًا عنده؛ لأن سبب النفاس ولادة الولد، وقد تحقق ولادتان فاستقام إيجاب نفاسين بخلاف الحيض؛ لأن سبب الحيض الوقت، ولا يجتمع وقتا الحيض على التوالي، وقال بعضهم: لا يجب عليها النفاس من الولد الثاني على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الصحيح، وإلى هذا أشار في (الجامع الصغير)، فإنه ذكر المسألة الأولى، وذكر بعدها، وكذلك لو كان بين الولدين أربعون يومًا.
وحكي أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة رحمهما الله: أرأيت لو كان بين الولدين أربعون يومًا، قال: هذا لا يكون، قال أبو يوسف: وإن كان قال: لا نفاس لها من الولد الثاني، وإن رغم أنف أبي يوسف ولكنها تغتسل كما تضع الولد الثاني وتصلي، وهذا صحيح لأنه لا يتوالى نفاسان ليس بينهما طهر صحيح، كما لا يتوالى حيضان ليس بينهما طهر صحيح.
ومما يتصل بهذا القسم امرأة ولدت ثلاثة أولاد بين كل ولدين أقل من ستة أشهر بين الولد الأول والثالث أكثر من ستة أشهر، فالأولاد الثلاثة هل تجعل من حَبَلٍ واحد؟ اختلف المشايخ: قال بعضهم منهم أبو علي الدقاق: يجعل من حَبَل واحد؛ لأن المحتمل يحمل على المقطوع به، وكون الأول مع الثاني من حَبَل واحد مقطوع به، وكذلك كون الثاني مع الثالث من حَبَل واحد مقطوع به، بخلاف ما إذا لم يكن الثاني؛ لأنه تمة ليس بمقطوع به يحمل عليه، أما هاهنا بخلافه.
ومما يتصل بهذا القسم أيضا:
امرأة خرج بعض ولدها منها، فرأت الدم يسيل تصير نفساء. واختلَفت فيه الروايات روى خلف بن أيوب عن أبي يوسف رحمهما الله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله: أنه يعتبر فيه خروج أكثر الولد كما عرف أن أكثر الشيء له حكم كماله. وروى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنه إذ خرج بعض الولد صارت به نفساء، وروى هشام عن محمد رحمه الله: أنها لا تصير نفساء حتى يخرج الرأس ونصف اليدين والرجلين، وأكثر من نصف البدن.
وعن محمد رحمه الله: أنها لا تصير نفساء حتى يخرج جميع ولدها، وهذا على أصله مستقيم، فإن عنده النفاس معلق بوضع الحمل كله، وعن أبي حنيفة أيضًا رحمه الله أنها تصير نفساء بخروج بعض الولد؛ لانفتاح فم الرحم بخروج بعض الولد، وهو مستقيم على أصله أن النفاس من الولد الأول، وكذلك لو انقطع الولد الثاني في بطنها، فخرج أكثره تصير نفساء في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله وبخروج بعضه تصير نفساء على الرواية الأخرى.
ومما يتصل بهذا القسم أيضًا المرأة إذا أسقطت سقطًا، فإن كان استبان شيء من خلقه فهي نفساء فيما رأت الدم، فإن لم يستبن شيء من خلقه فهي نفساء فيما رأت الدم، وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا نفاس لها، ولكن إن أمكن جعل المرئي من الدم حيضًا بأن تقدّمه طهر تام يجعل حيضًا، وإن لم يمكن جعله حيضًا بأن لم يتقدمه طهر تام فهي استحاضة، وإن رأت دمًا قبل إسقاط السقط، ورأت دمًا بعد إسقاط السقط، فإن كان السقط مستبين الخلق، فما رأته قبل الإسقاط لا يكون حيضًا؛ لأنه تبيّن أنها حين رأته كانت حاملًا، وليس الحامل الحيض، وهي نفساء فيما رأت بعد إسقاط السقط، فإن لم يكن السقط مستبين الخلق، فما رأته قبل الإسقاط حيض إن أمكن جعله حيضًا بأن وافق أيام عادتها أو كان مرئيًا عقيب طهر صحيح؛ لأنه تبين أنها لم تكن حاملًا.
ثم إن كان ما رأت قبل السقط مدة تامة بأن كان أيامها ثلاثة، فرأت قبل الإسقاط ثلاثة دمًا استمر بها الدم بعد الإسقاط، فما رأته بعده يكون استحاضة، وإن لم تكن مدة تامة بأن رأت قبل الإسقاط يومًا أو يومين دمًا تكمل مدتها، فما رأت بعد إسقاط السقط ثم هي مستحاضة بعده.
وإن كان لا يدرى حال السقط بأن أسقطت في المخرج، ولا يدرى أنه كان مستبين الخلق أو لم يكن واستمر بها الدم، وهي مبتدأة في النفاس، وصاحبة عادة في الطهر، والحيض كان عادتها في الحيض عشرة، وفي الطهر عشرون، فنقول: على تقدير أن السقط مستبين الخلق هي نفساء، ونفاسها يكون أربعون يومًا لأنها مبتدأة في النفاس، وقد استمر الدم، فيجعل نفاسها أكثر النفاس كما يجعل حيض المبتدأة في الحيض إذا استمر بها الدم أكثر الحيض، وهي عشرة أيام، وعلى تقدير أن السقط لم يكن مستبين الخلق لا تكون نفساء، وتكون عشرة الأيام عقيب الإسقاط حيضًا إذا وافق عادتها أو كان ذلك عقيب طهر صحيح، فنرك الصلاة هي عقيب الإسقاط عشرة أيام بيقين؛ لأنها فيه إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل هي وتصلي عشرين يومًا بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيه بين الطهر والنفاس، ثم تترك الصلاة عشرة أيام بيقين؛ لأنها في هذه العشرة إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل لتمام مدة النفاس والحيض ثم بعد ذلك يكون طهرها عشرون وحيضها عشرة، وذلك دأبها.
وإن كانت رأت قبل الإسقاط دمًا، فإن كان ما رأت قبل الإسقاط مستقلًا بنفسه لا تترك هي الصلاة بعد الإسقاط، وإن لم يكن ما رأت قبل الإسقاط مستقلًا بنفسه، فإنها تترك بعد الإسقاط قدر ما تتم به مدة حيضها، لا تترك الصلاة فيما رأت قبل الإسقاط على كل حال، ولو تركت فعليها صلاتها.
وإنما لا تترك الصلوات فيما رأت قبل الإسقاط؛ لأن على تقدير أن السقط مستبين الخلق فهي مستحاضة فيما رأت قبل الإسقاط، ثم إذا كان معروفها في الحيض عشرة، وفي الطهر عشرين يومًا بعد السقط عشرة دمًا اغتسلت وصلت عشرين يومًا بعد السقط؛ لأنه تردد حالها فيه بين النفاس والطهر ثم تترك عشرة بيقين؛ لأنها فيها نفساء لأنها مبتدأة في النفاس أو حائض إن كان السقط مستبين الخلق فهي نفساء، فيكون نفاسها أربعون، وإن لم يكن السقط مستبين الخلق فهي حائض فيها ثم تغتسل هي وتصلي عشرين يومًا عشرة بالشك، لتردُّدِ حالها فيه بين الطهر والنفاس ثم تغتسل وتصلي عشرة أخرى بيقين الطهر ثم تصلي عشرة أخرى بالشك لتردد حالها فيه بين الطهر والحيض ثم تغتسل، وهكذا دأبها أن تغتسل في كل وقت يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض أو النفاس، فإن رأت قبل الإسقاط خمسة دمًا ثم أسقطت هكذا، فإنها تترك الصلاة خمسة أيام بعد السقط؛ لأن السقط إن لم يكن مستبين الخلق، فهذه الخمسة تتم مدة حيضها.
وإن كان مستبين الخلق فهو أول نفاسها فتترك الصلاة في الخمسة بيقين؛ لأنها حيض أو نفاس ثم تغتسل وتصلي عشرين يومًا بالوضوء بالشك للتردد بين النفاس والطهر، ثم تترك عشرة بيقين؛ لأنه حيض أو نفاس، فبلغ الحساب خمسة وثلاثين ثم تغتسل وتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل لتمام الأربعين، ثم تصلي خمسة عشر يومًا بالوضوء بيقين؛ لأنه طهر فبلغ الحساب خمسة وخمسين ثم تصلي خمسة بالوضوء للتردد بين أول الحيض إن لم يكن السقط مستبين الخلق وبين آخر الطهر إن كان مستبين الخلق، فبلغ الحساب ستين ثم تترك خمسة أيام؛ لأنها أول حيضها أو آخر حيضها ثم تغتسل وتصلي خمسة أيام بالوضوء بالشك ثم تغتسل مرة أخرى؛ لأنه آخر أيام حيضها إن كان مستبين الخلق ثم تصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين.
وإن كانت المرأة معتادة في الحيض والطهر والنفاس، وكانت عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون، وفي النفاس أربعون، فأسقطت في أول أيام حيضها، ولم تدر حال السقط فإنها تترك الصلاة عشرة بيقين؛ لأنها حيض أو نفاس ثم تغتسل وتصلي عشرين بالوضوء بالشك؛ لأنه نفاس أو طهر ثم تترك الصلاة عشرة؛ لأنها حيض أو نفاس ثم تغتسل وتصلي عشرين؛ لأنه طهر في الأحوال كلها، والله تعالى أعلم.

.قسم في الضلال في النفاس:

المرأة إذا كانت لها عادة معروفة في النفاس، فنسيت عادتها، وولدت بعد ذلك ولدًا ورأت الدم، فعليها أن تقعد عن الصلاة أربعين يومًا إن كانت ترى الدم، فإن لم يجاوز دمها أربعين، وطهرت من بعد الأربعين طهرًا كاملًا لم تعد هي شيئًا مما تركت من الصلاة؛ لأن الأربعين يعتبر نفاسًا في حقها، كما إذا زاد دمها في الحيض على عادتها، ولم يُجاوز الدم العشرة، فإنه يعتبر ذلك كله حيضًا في حقها، فإن جاوز الدم الأربعين أو لم يجاوز ولكن طهرت بعد الأربعين أقل من خمسة عشر يومًا؛ فإنّ عليها أن تتحرى في ذلك، فإن وقع أكثر رأيها وغالب ظنها على عدد أنه كان عادة نفاسها ذلك مضت على ذلك، وأعادت ما تركت من الصلاة في أكثر أيام نفاسها المعتادة.
وإن لم يكن لها رأي في ذلك احتاطت، فصلّت صلاة الأربعين كلها لجواز أن نفاسها كان ساعة، وإن كان دمها مستمرًا للحال انتظرت هي عشرة أيام قضت صلاة هذه الأربعين ثانيا، لاحتمال حصول القضاء في أول مرة في حالة الحيض، والاحتياط في العبادات واجب.

.قسم آخر:

وإذا ولدت ولدًا فاستمر بها الدم وشكت في حيضها أو في طهرها أو فيهما، فهي ثلاثة أوجه: فإن شكت في حيضها أنه خمسة أو عشرة وتيقنت في الطهر أنه عشرون، فإنها تعد الأربعين للنفاس، فتغتسل وتصلي عشرين يومًا بيقين ثم تدع خمسة بيقين الحيض ثم تغتسل، فبلغ الحساب خمسة وعشرين يومًا ولها حسابان الأقصر والأطول ففي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من حيضها خمسة فتصلي فيها بالوضوء بالشك، ثم تغتسل وتصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين الطهر، فبلغ خمسة وأربعين وفي الأقصر استقبلها الحيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ الحساب خمسين ثم تغتسل، وفي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي عشرة بيقين، فبلغ سبعين، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من حيضها عشرة، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ خمسة وسبعين فتغتسل ثم في الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة فتصلي خمسة بالوضوء بيقين فبلغ مائتين، ثم في الأقصر بقي من طهرها خمسة عشر وفي الأطول استقبلها حيض عشرة، فتصلي عشرة بالوضوء بالشك فبلغ تسعين، فتغتسل، وفي الأقصر بقي من طهرها خمسة، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي خمسة بالوضوء بيقين بلغ خمسة وتسعين، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة، وفي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها عشرة، فتصلي عشرة بيقين بلغ مائة وعشرة ثم في الأقصر بقي من طهرها عشرة، وفي الأطول استقبلها حيض عشرة، فتصلي عشرة بالشك ثم تغتسل، فبلغ مائة وعشرين ثم في الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك، فبلغ مائة وخمسمائة وعشرين، ثم في الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بيقين، فبلغ مائة وأربعين، وفي الأقصر بقي من طهرها خمسة، وفي الأطول استقبلها حيض عشرة فتصلي خمسة بالوضوء بالشك بلغ مائة وخمسة وأربعين، ثم في الأطول بقي من حيضها خمسة وفي الأقصر استقبلها الحيض خمسة فتترك هذه الخمسة بيقين ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة وخمسين، واستقام دورها.
وعلى هذا: يخرج إذا شكت في الطهر أنه خمسة عشر أو عشرون واستقامة دورها يكون في مائة وخمسين.
وعلى هذا يخرج إذا شكت هاهنا شك في الحيض أنه خمسة أو عشرة، وشكت في الطهر أنه خمسة عشر أو عشرون، واستقامة دورها يكون في ثلاثمائة والله أعلم.

.نوع آخر:

امرأة ولدت وانقطع دمها بعد يوم أو يومين، فانتظرت إلى آخر الوقت واغتسلت وصلّت أمّا الانتظار إلى آخر الوقت لتوهم أن يعاودها الدم، وأما الاغتسال في آخر الوقت والصلاة فلكونها طاهرة ظاهرًا وقد بيّنا نظير ذلك في الحيض.

.قسم آخر في المرأة إذا طلقها الزوج فأخبرت عن انقضاء العدة في كم تُصدَّق:

وهذا فصل اختلف فيه العلماء، روى أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة رحمه الله رضي الله عنه: أنها لا تصدق في أقل من خمسة وثمانين يومًا، وفي رواية الحسن عنه لا تُصدق في أقل من مائة يوم.
وذكر أبو سهل الفرائضي في كتاب الحيض عن أبي حنيفة رحمه الله: أنها لا تصدق، في أقل من مائة وخمسة عشر يومًا، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تصدق في أقل من خمسة وستين يومًا، وقال محمد رحمه الله: لا تصدق في أقل من أربعة وخمسين يومًا وساعة هذا إذا كانت حرة.
فأما إذا كانت أمة وقد طلقها الزوج بعد الولادة، فعلى رواية محمد عن أبي حنيفة لا تصدق في أقل من خمسة وستين يومًا، وعلى رواية الحسن عنه لا تصدق هي في أقل من خمسة وسبعين يومًا، على رواية أبي سهل الفرائضي لا تصدق هي في أقل من تسعين يومًا، وعلى قول أبي يوسف: لا تصدق في أقل من سبعة وأربعين يومًا. وعلى قول محمد: لا تصدق في أقل من ستة وثلاثين يومًا وساعة والله أعلم.

.قسم آخر في ختم النفاس بالطهر الفاسد:

يجب أن يعلم بأن أبا يوسف رحمه الله كان يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد كما يرى ختم الحيض بالطهر الفاسد؛ إذ الأصل عنده أن كل طهر بين الدمين يكون هو أقل من خمسة عشر، فهو كدم مستمر وأبو حنيفة رحمه الله على ما يروي عنه أبو يوسف يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد، وعلى ما يروي عنه محمد لا يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد.
واختلف المشايخ فيه على قول محمد، الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، والفقيه أبو بكر الأعمش رحمهما الله أن محمدًا رحمه الله لا يرى ختم النفاس به كما لا يرى ختم الحيض به، وقال جماعة منهم إن محمدًا رحمه الله يرى ختم النفاس به، وفرقوا بين النفاس وبين الحيض.
وبيان ذلك: امرأة بلغت بالحبل فرأت الدم ثلاثين يومًا ثم طهرت أربعة عشر يومًا، ثم استمر بها الدم أشهرًا، فعند من يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد يكون نفاسها أربعون يومًا عادة أصلّية لها وطهرها عشرون عادة أصلية لها وحيضها عشرة، فتصلي بعد الأربعين عشرين يومًا وتدع الصلاة عشرة أيام وتصلي عشرين، وذلك دأبها ما دامت ترى الدم وعلى قول من يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد يكون نفاسها ثلاثون يومًا عادة أصلية لها، وطهرها عشرون عادة أصلية وحيضها عشرة عادة لها أصلية، فتصلي بعد الثلاثين عشرين وتقعد عشرة ثم عشرين، والله أعلم.
قسم آخر في انتقال عادة النفاس:
يجب أن يُعلم بأن انتقال العادة في النفاس إنما يكون بالخالص من النفاس، وخالصه أن يكون عقيب النفاس طهر تام خمسة عشر يومًا فصاعدًا، وإذا قصّر الدم بعد النفاس عن خمسة عشر يومًا، فكذلك النفاس فاسد غير خالص، ولا يفسد دم النفاس بدم يُرى قبل الولادة؛ لأنه لم يخرج من الرحم لانسداد فم الرحم بالولد، وتنتقل العادة في النفاس برؤية المخالف مرّة عند أبي يوسف رحمه الله، ويصير ذلك عادة لها، وعليه الفتوى.
وبيانه: امرأة كانت أيام حيضها، نفاسها أربعون يومًا عادة أصلية لها وأيام طهرها عشرون وأيام حيضها عشرة، فولدت فرأت الدم ثلاثين ثم طهرت خمسة عشر، ثم استمر بها الدم انتقلت عادتها في النفاس إلى ثلاثين، وفي الطهر إلى خمسة عشر وبقيت عادتها في الحيض عشرة، فتترك الصلاة من أول الاستمرار عشرة ثم تصلي خمسة عشر، وعلى هذا القياس فافهم، والله تعالى أعلم.